في التاسع من مايو 2025، أحيت روسيا الذكرى الثمانين لانتصارها في الحرب العالمية الثانية بعرض عسكري في الساحة الحمراء، وسط مشاركة عدد من قادة الدول، وحضور لافت لرموز سياسية من إفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، في حين تُمثل المناسبة أحد أهم الأعياد الوطنية في الذاكرة الروسية، وتُستحضر سنويًا كرمزلوحدة البلاد وتضحياتها التاريخية، جاء الاحتفال هذا العام في ظل متغيرات عالمية عدة، أبرزها المفاوضات الجارية بين الجانبين الروسي والأمريكي بشأن الحرب في أوكرانيا، مما أضفى عليه طابعًا خاصًا من حيث الرسائل السياسية التي حملها داخليًا وخارجيًا، لا سيما في خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي ربط الماضي بالحاضر وركّز على الربط بين نصر الأمس وصراعات اليوم، مؤكدًا على دور روسيا في الدفاع عن مبادئها وسيادتها.
أولاً- احتفال عيد النصر .. قراءة في الأهداف والرسائل:
حمل احتفال عيد النصر للعام الجاري 2025 عدة رسائل داخلية وخارجية، تجلت في ملامح الحفل المختلفة عن الأعوام الماضية، فضلاً عن خطاب الرئيس فلاديمير بوتين الذي حمل دلالات ورسائل عدة، وفيما يلي أبرز الرسائل:
1- يوم النصر.. استدعاء التاريخ لترسيخ الحاضر:
احتفلت روسيا يوم الجمعة 9 مايو 2025، بالذكرى الثمانين لانتصارها في الحرب العالمية الثانية، في توقيت تشهد فيه البلاد بظروف استثنائية ناتجة عن استمرار الحرب في أوكرانيا منذ أكثر من ثلاث سنوات. وبينما يُعد هذاالاحتفال، كما في كل عام، مناسبة لتأكيد رمزية "الانتصارالتاريخي" على النازية، إلا أنه اكتسب هذا العام بعدًا سياسيًا إضافيًا من خلال الربط الصريح بين "الانتصارالسوفيتي في الحرب العالمية الثانية" و"العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا.
في خطابه التقليدي، حرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تأكيد الاستمرارية التاريخية بين "الحرب الوطنية العظمى" لدى روسيا ومهمة الدفاع عن الوطن، مشددًا علىأن روسيا تقف، كما في السابق، ضد ما "النازية الجديدة" و"التطرف القومي".
ولم يقتصر الربط بين الماضي والحاضر على الخطاب فقط،بل تجلى أيضًا في تنظيم العرض العسكري، حيث ظهرتدبابة T-34 الشهيرة من حقبة الحرب العالمية الثانية في مقدمة العرض، كرمز للاستمرارية العسكرية، إلى جانب مشاركة جنود من "العملية الخاصة"، ما يعكس توظيف الرمزية التاريخية في المعركة الراهنة.
2- تعزيز صورة بوتين كقائد في زمن الحرب:
ألقى بوتين كلمته المعتادة في بداية العرض العسكري، وقد ساعده تنظيم عرض عسكري كبير في ظل الظروف الراهنة بالبلاد على تقديمه كقائد ثابت في وجه التحديات، ضامنً الوحدة الدولة الروسية واستقرارها في لحظة تمر فيها البلادبظروف داخلية وإقليمية معقدة، وهو ما تجلى أيضاً في خطابه الذي جاء هذا العام أكثر تركيزًا على القيم الوطنيةوالتلاحم المجتمعي، مؤكدًا أن الشعب الروسي يقف صفًاواحدًا خلف القوات المسلحة، وخاصة أولئك المشاركين في"العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا.
كما سلط بوتين الضوء على تضحيات الجنود الروس، وربط هذه التضحيات بروح "الانتصار التاريخي"، مستندًا إلىالذاكرة الوطنية الجامعة لعيد النصر. في هذا الإطار،تجلى بوتين كقائد يواجه ضغوطًا دولية ومحلية من دون التخلي عن ثوابته السياسية والأمنية. ويمكن فهم ذلك فيسياق إدارة المشهد السياسي والإعلامي الداخلي، وتوجيه الرسائل نحو التأكيد على الاستقرار والانضباط في زمن الصراع، بعيدًا عن التصعيد اللفظي أو الهجوم الخطابي على الغرب، كما كان الحال في خطابات سابقة.
كما عزز حضور بوتين العرض برفقة عدد من قادة العالمالحلفاء، ولقاءاته الجانبية، من صورته في الداخل كزعيم يتمتع بدعم دولي من شركاء آسيويين وأمريكيين جنوبيين وأفارقة وأوروبيين، في وقت تسعى فيه موسكو إلى إثبات قدرتها على الحفاظ على شبكة من التحالفات الدولية رغم التوترات مع الغرب.
3- استعراض عسكري واسع وإجراءات أمنية مشددة:
جاء العرض العسكري في الساحة الحمراء هذا العام فيسياق احتفالي استثنائي، حيث حمل أيضًا رسائلسياسية وعسكرية. فقد استعرضت روسيا قدراتها العسكرية عبر مشاركة أكثر من 11 ألف جندي من وزارةالدفاع وأجهزة أمنية أخرى، بما في ذلك جهاز الأمنالفيدرالي والحرس الوطني، في العرض. كما شارك 1500 جندي آخرين ممن شاركوا في "العملية العسكرية الخاصة"، بالإضافة إلى عسكريين من 13 دولة أجنبية، فضلاً عن استعراض المعدات الحديثة والتقليدية، في مشهد رمزي يجمع بين إحياء الماضي واستعراض الحاضر. إلىجانب ذلك، فُرضت إجراءات أمنية مشددة غير مسبوقة فيالعاصمة موسكو وغيرها من المدن، ما يعكس حرص السلطات ونجاحها تأمين الفعاليات في ظل الأزمة المستمرة.
وقد مرّت نحو 200 دبابة - بما في ذلك أحدث طراز مندبابات T-90M - أمام كبار الشخصيات الجالسين علىالمدرجات المُقامة بجوار ضريح لينين. كما مرّت أرتال منقاذفات الطائرات المسيّرة، بالإضافة إلى أنظمة S-400المضادة للطائرات، وقاذفات صواريخ إسكندر الباليستية قصيرة المدى، وصواريخ يارس الباليستية العابرة للقاراتالضخمة القادرة على إطلاق صواريخ نووية على أي هدففي العالم.
4- بكين وموسكو .. تقاربات دبلوماسية ورسائل استرايجية:
في تطور غير مسبوق ضمن العروض العسكرية لعيد النصر في روسيا، شهد العرض الثمانون في الساحةالحمراء مشاركة رمزية لعدد من المعدات العسكريةالصينية، التي ظهرت إلى جانب المعدات الروسية، وتضمنتالمعروضات الصينية عربات مدرعة خفيفة، وأنظمة رادارمحمولة، فضلًا عن نماذج من الدرونات الاستطلاعية والهجومية متوسطة المدى، وهي أسلحة باتت تُشكل جزءًامهمًا من القدرات الروسية الميدانية في أوكرانيا، مع تزايداعتماد موسكو على التكنولوجيا العسكرية الصينية لتجاوز القيود الغربية على سلاسل التوريد والضغط الأمريكي على الجانبين في محاولة للتأثيرعلى هذا التحالف . كما انضمت وحدة من 100 جندي صيني من حرس الشرف التابع لجيش التحرير الشعبي إلى العرض العسكري مااعتُبر رسالة مباشرة على متانة التحالف الاستراتيجي بينموسكو وبكين في ظل التوترات الدولية المتصاعدة.
كما أن الرسالة الأبرز في الحفل كانت الحضور الشخصيللرئيس الصيني شي جين بينج ومشاهدته العرض منمنصة الشرف إلى جانب نظيره الروسي فلاديمير بوتين، ماأضفى بُعدًا استراتيجيًا على هذا التقارب، مؤكدًا أن العلاقة بين موسكو وبكين تجاوزت حدود الشراكة الاقتصادية إلى مستويات تنسيق عسكري وأمني، لا سيما في سياق الصراعات العالمية وإعادة رسم التوازنات الجيوسياسية العالمية. جدير بالذكر أيضاَ تسليط بوتين الضوء على دور الصين في الحرب العالمية الثانية، قائلاً: "سنتذكر دائمًا أن فتح الجبهة الثانية جعل النصر أقرب"،في إشارة إلى الحرب الصينية اليابانية الثانية بين الصين وإمبراطورية اليابان.
تكتسب هذه المشاركة العسكرية الصينية بعدًا إضافيًا في ظل تصاعد التوتر بين الهند وباكستان، والذي عاد إلىالواجهة بعد سلسلة من المناوشات الحدودية والتصريحات التصعيدية في الأسابيع الأخيرة. ففي سياق إقليمي يشهد تزايد الطلب على التسليح، وخاصة الطائرات بدون طيار وأنظمة الحرب الإلكترونية، تسعى الصين لإبراز قدراتها عبر منصات مثل العرض الروسي، ففي الأسابيع الأخيرة، تصاعدت اتهامات من وسائل إعلام ومصادر استخباراتية هندية للصين بتقديم دعم عسكري متطور إلى باكستان، لاسيما في مجال الطائرات المسيّرة ومنظومات الدفاع الجوي المحمولة، وهو ما تنفيه بكين رسميًا. وفي هذا السياق، يبدوأن استعراض هذه الفئات من الأسلحة في العرض الروسي لم يكن مجرد عرض عسكري بل كان بمثابة "منصة دبلوماسية مفتوحة"، وظفتها الصين لتوجيه رسائل مزدوجة أهمها الدعم الصريح لموسكو، وتأكيد غير مباشر على قدرتها على التأثير في موازين القوى الإقليمية، بما في ذلكالمعادلة الهندية-الباكستانية، من خلال عرض قدرتها أمام المنافسين الإقليميين كالهند.
ثانياً- عيد النصر الثمانون .. حضور ملحوظ وتحولات بارزة:
رغم العزلة الغربية التي تحاول أوروبا فرضها على روسيامنذ بدء الأزمة الأوكرانية، إلا أن الاحتفال الأخير شهد مشاركة دولية غير مسبوقة لعدد من قادة دول العالم، ما يعكس استمرار روسيا في الحفاظ على مكانتها الدولية بين الفواعل الكبرى، كما شهد الاحتفال تغير لافت في الخطاب الروسي عن السنوات الأخيرة.
1- عيد النصر ...حضور دولي ملحوظ:
شهد احتفال هذا العام حضور دولي ملحوظ مقارنةً بالأعوام الماضية، حيث شارك نحو 30 زعيمًا أجنبيًا، أبرزهم الرئيس الصيني شي جين بينج، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والرئيس الفلسطيني محمود عباس،وعدد من قادة دول أمريكا اللاتينية وهم الرئيس البرازيلي والفنزويلي والكوبي، إلى جانب قادة آسيا الوسطى (كازاخستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، وتركمانستان، وقيرغيزستان)، فضلاً عن قادة بعض الدول الآسيوية مثل فيتنام ومنغوليا وميانمار وبابوا غينيا، إلى جانب حضور لافت من القادة الأفارقة مثل بوركينا فاسو، وإثيوبيا، وجمهورية الكونغو، وغينيا بيساو.
على الرغم أن هذا الحضور يعد غير مسبوق مقارنةً بالأعوام الماضية التي اقتصرت على حضور بعض الحلفاء التقليديين لروسيا مثل قادة دول آسيا الوسطى، إلا أن هذا الحفل شهد أيضاً حضورًا لافتًا لبعض الزعماء الأوروبيون في خطوة غير مسبوقة خاصةً منذ بدء الأزمة الأوكرانية، حيث أصر الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش على حضور الحفل فضلاً عن رئيس وزراء سلوفاكيا روبرتو فيكو الذي أكد على إصراره على الحضور رغم منع عدد من الدول الأوروبية عبوره عبر مجالهم الجوي للوصول إلى روسيا، هذا بالإضافة إلى رئيسة مجلس الرئاسة بالبوسنة والهرسك ورئيس الوزراء الأرميني.
2- الحضور الكوري الشمالي.. دعم غير مباشر:
على الرغم من غياب الجنود الكوريين الشماليين عن العرض العسكري في الساحة الحمراء بمناسبة الذكرى الثمانين لعيد النصر في 9 مايو 2025، إلا أن حضورهم كان حاضرًا بشكل رمزي ومؤثر. فقد التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد العرض بضباط من كوريا الشمالية، حيث استقبلهم بحرارة وعانق قائد الوحدة، مما يعكس تقدير موسكو لمساهمة كوريا الشمالية في الدعم الدائم لروسياـ ويُعد وجود العسكريين بمثابة دعم غير مباشر، يُظهر عمق التعاون بين البلدين في مواجهة التحديات العسكرية.
3 - الحرب في أوكرانيا.. حضور خافت في خطاب النصر:
في خروج عن المألوف، لم يخصص بوتين جزءًا كبيرًا من خطابه للحديث عن الحرب في أوكرانيا، واكتفى بعبارات تأييد للجنود، دون إشارة إلى الغرب أو "النخب الغربية" كما في خطاب العام الماضي، فقد بدا لافتًا في خطاب بوتين تجنبه للإشارات المباشرة إلى تطورات الحرب أوالحديث التفصيلي عن الجبهة، وهو ما قد يُفهم في سياقه العام كمحاولة لتوجيه التركيز نحو وحدة الداخل أكثر من التحديات الميدانية، وهو ما يعكس في الاستراتيجية الروسية، حيث جاء عيد النصر هذا العام بالتزامن مع تكثيف الجهود الدولية للتوصل لحل للأزمة الأوكرانية، وفي هذا السياق أعلن الكرملين وقفًا لإطلاق النار من 8 إلى 11 مايو، في بادرة رمزية تشير إلى سعي موسكو لتهدئة التوترات وخفض التصعيد.
4- يوم النصر 2025... تغيير في واجهة المؤسسة العسكرية:
شهد عرض عيد النصر الثمانين تحولًا رمزيًا في هيكل القيادة العسكرية الروسية، تجلّى في ظهور وزير الدفاع الجديد أندريه بيلوسوف على رأس الاستعراض العسكري، وهو تقليد سنوي يعكس سلطة وزير الدفاع وموقعه التنفيذي. وقد تولّى بيلوسوف، الذي تم تعيينه مؤخرًا خلفًا لسيرغي شويغو، مهمة تفقد صفوف الجنود في الساحة الحمراء، في أول ظهور رسمي له بهذا المنصب في مناسبة وطنية بهذا الحجم.
في المقابل، حضر سيرغي شويغو الحدث بصفة غيررسمية، مرتديًا بدلة مدنية، بصفته رئيسًا لمجلس الأمنالروسي، وهو ما يبرز ما تشهده المؤسسة العسكرية منإعادة توزيع للأدوار ضمن رؤية أوسع لتكييف القيادة مع متطلبات المرحلة، لا سيما في ظل استمرار العمليات العسكرية في أوكرانيا.
ويُنظر إلى هذا التغيير كجزء من محاولة بوتين إحداثتوازن بين العسكريين والبيروقراطيين التكنوقراط في إدارة ملف الدفاع، حيث يُعرف بيلوسوف بخلفيته الاقتصادية ومهاراته في إدارة الملفات المعقدة، ما قد يشير إلى توجه نحو تعزيز الجانب التنظيمي والتمويلي في دعم المجهود الحربي، بالتوازي مع تقليص ظهور الوجوه العسكرية التقليدية في المشهد العام.
ختامًا، يُبرز احتفال الذكرى الثمانين لعيد النصر فيروسيا عام 2025 نجاح روسيا في توظيف الرمزية التاريخية لتثبيت المواقف السياسية في الحاضر، خاصة في ظل أزمات ممتدة كالحرب في أوكرانيا. فقد سعت موسكو، عبر العرض العسكري والخطاب الرسمي والحضور الدولي، إلى إرسال رسائل متعددة المستويات أبرزها التأكيد على وحدة الداخل، وتثبيت شرعية السياسات الراهنة من خلال امتدادها التاريخي، وإظهار قدرة روسيا على الحفاظ على شبكة من العلاقات الدولية رغم العزلة الغربية.
ورغم أن خطاب الرئيس بوتين هذا العام جاء أقل حدة من الأعوام السابقة، إلا أن مضامينه حملت إشارات واضحة إلى استمرارية التحدي والصمود. وبينما ظلّ العرض العسكري عنصرًا أساسيًا في إظهار القوة، فإن التطورات اللافتة في الحضور الدولي، والتغييرات الرمزية داخل المؤسسة العسكرية، عكست توجهًا روسيًا نحو صياغة توازن جديد بين الداخل والخارج، بين استدعاء الماضي وتكييفه لخدمة أولويات الحاضر. وبهذه الرسائل، بدا عيد النصر لهذا العام ليس فقط مناسبة للاحتفال، بل أداة سياسية مركبة تعرف القيادة الروسية كيفية توظيفها بعناية في زمنٍ يشهد تحولات إقليمية ودولية دقيقة.