مقالات رأى

احتواء الأزمات الاقتصادية وتعظيم فرص الاستفادة منها

طباعة

إن تعزيز صلابة ومرونة الاقتصاد المصرى من الأهداف الاستراتيجية الرئيسية للدولة المصرية، وقد جاء كحجر أساس وضعته القيادة السياسية لضمان تحقيق حياة كريمة لكل مواطن مصرى ومواطنة مصرية، وذلك ليس فقط للأجيال الحالية بل لأجيال المستقبل أيضا فى جمهورية جديدة تتسم بالعدالة الاجتماعية والرفاهية الاقتصادية المستدامة.

فى هذا الصدد، أطلقت الوزارات والجهات الحكومية المعنية عددا من الاستراتيجيات والمبادرات التنموية طويلة الأجل، التى تستهدف تنفيذ إصلاحات هيكلية جذرية لجميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، مدعومة بإجراءات وسياسات تسعى إلى تحقيق التنمية المستدامة والتطوير الهيكلى والمؤسسى والتشريعى طويل الأجل. الأمر الذى يسهم فى تحقيق التخصيص الأمثل للموارد والاستغلال الكفء للموارد من حيث التوظيف الأمثل لها وفقا للمزايا النسبية والمزايا التنافسية والتوزيع الجغرافى العادل، وذلك من أجل تحقيق العدالة فى التوزيع للموارد التى تمتلكها الدولة المصرية بما يحقق مبدأ التكامل ومبدأ الشمولية.

لكن هذه الاستراتيجيات طويلة الأجل تتسم بالديناميكية، ما يتطلب تنفيذها على عدة سنوات لكى يتمكن المواطن من جنى ثمارها المستدام؛ حيث إن طبيعة تنفيذ الاستراتيجيات تتطلب عدة مراحل؛ تبدأ بالتنفيذ الفعلى الذى قد يكاد يصطدم بعدة تحديات داخلية مثل العقبات فى التنفيذ والتكيف، وليس هذا فحسب بل أيضا هناك تحديات خارجية قد تحول دون استمرار مسيرة تنفيذ الإجراءات والإصلاحات والسياسات التى تستهدفها الاستراتيجيات والمبادرات التنموية مثل الأزمات العالمية المالية والسياسية والبيئية التى تلقى بظلالها دوما على اقتصادات الدول النامية والدول الناشئة.

تنتهج القيادة السياسية نهج السياسات الاستباقية والإجراءات الوقائية من أجل حوكمة إدارة التنبؤ بالمخاطر والأزمات والعمل على احتواء الأزمات وحماية الشرائح الاجتماعية الأولى بالرعاية من التداعيات السلبية لهذه الأزمات على مستوى معيشة المواطن. الأمر الذى يساعد على كبح جماح التداعيات السلبية والحد من توسعها وتعمقها حيث حماية الأمن الاجتماعى والحفاظ على استقراره.

يعد النمو السكانى المطرد بشكل متسارع التحدى الأكبرَ لنمو الاقتصاد المصرى وتنميته، حيث يتسارع بأضعاف معدلات النمو الاقتصادى فى خضم تنفيذ إصلاحات هيكلية جذرية على مستوى جميع محافظات جمهورية مصر العربية، بالتوازى مع تنفيذ سياسات احتواء تداعيات الآثار السلبية للأزمات العالمية باختلاف طبيعة الأزمات المحيطة بحدود الدولة المصرية كافة، أو فى الأسواق العالمية والإقليمية. كما أن تضخم معدل النمو السكانى يزيد من تعميق جذور الاقتصاد غير الرسمى وتوسيع نطاق الأسواق الموازية، ما يهدد الأمن القومى الاقتصادى. الأمر الذى يحتم مضاعفة زيادة حملات الرقابة والتفتيش على الأسواق، مع ضرورة بحث آليات وحوافز تشجع الاندماج فى القطاع الرسمى للحد من تعمقه بشكل قد يحدث خلل فى الاقتصاد الرسمى.

هذا إلى جانب أهمية الأخذ فى الحسبان دراسة الاقتصاد السلوكى فى وضع السياسات؛ حيث دراسة طبيعة سلوك المواطنين ودوافعهم كرد فعل للتعامل مع الأزمات من حيث الرغبة فى اكتناز السلع وتخزينها، أو من حيث اكتناز العملة والذهب والثروات بأشكالها المختلفة بسبب شعور عدم اليقين، الأمر الذى قد يهدد استقرار سلاسل الإمداد وحدوث صدمات فى جانب المعروض من السلع والعملة، ومن ثم تهديد الأمن القومى الاقتصادى.

من بين الأزمات الاقتصادية التى تمس المواطن بشكل مباشر، أزمة تفاقم زيادة معدلات التضخم وانخفاض قيمة الجنيه المصرى. ومن بين عوامل تفاقم مثل هذه الأزمات؛ الاقتصاد غير الرسمى وأسواق سعر الصرف الموازية حيث لهما دور فاعل فى تفاقم الأزمة الحالية. وذلك من أجل تحقيق المصلحة الخاصة والتربح على حساب المصلحة العامة للمواطن والوطن، ما يهدد الأمن الاجتماعى والأمن الاقتصادى.

إن الفاعلين بالأسواق غير الرسمية يسعون إلى تحقيق أرباح من خلال المضاربات باستغلال غياب المعلومات الكاملة، وباستغلال الحاجات الأساسية للمواطن من خلال إحداث أزمات فى المعروض من السلع الاستراتيجية، مع المراهنة على حالة عدم اليقين السائدة فى الأصداء العالمية والإقليمية والمحلية الناجمة عن الشائعات، وزعزعة الأمن القومى الإقليمى فى الدول المجاورة.

فى خضم الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، تتعين دراسة كيفية تعظيم فرص الاستفادة من هذه الأزمات بالتزامن مع احتوائها؛ حيث إن انخفاض قيمة الجنيه المصرى يتطلب تضافر الجهود لتعبئة وتنويع مصادر النقد الأجنبى من أجل زيادة صلابة الجنيه، وارتفاع قيمته النقدية والتنافسية عالميا ومحليا. يأتى ذلك فى ضوء الاقتراض من صندوق النقد الدولى فى ضوء حصة مصر بالصندوق كعضو مؤسس، ومن خلال تعظيم إيرادات الصادرات المصرية غير البترولية، والحد من الواردات، مع تشجيع توطين الصناعة المصرية للسلع الوسيطة والسلع الاستهلاكية، فضلا عن مضاعفة زيادة الإيرادات من النقد الأجنبى من إيرادات السياحة وقناة السويس وصادرات خدمات التعهيد, فضلا عن تحويلات العاملين بالخارج. الأمر الذى يسهم فى تلبية الطلب على النقد الأجنبى فى السوق المحلى، مع ضرورة وضع آليات تنفيذية ناجزة للحد من مضاربات السوق الموازى لسعر الصرف الذى بات يشكل وسيلة لتهريب العملات وغسيل الأموال والتجارة غير المشروعة. هذا إلى جانب أهمية وضع آليات أكثر فاعلية لضبط الأسواق المصرفية والأسواق الاستهلاكية لضبط الأسعار وتوحيدها، مع زيادة قنوات حكومية متنقلة لتوفير السلع الاستراتيجية فى المناطق الجغرافية الأكثر احتياجا.

جدير بالذكر، أن الدولة المصرية تعكف منذ سنوات على استراتيجية الإحلال محل الواردات، واستراتيجية توطين الصناعة المحلية، وتشجيع المكون المحلى، إلى جانب زيادة تنافسية الصادرات المصرية مع استهداف الأسواق الإقليمية والدولية التى تتناسب مع المزايا التنافسية والمزايا النسبية للصادرات المصرية من سلع غير بترولية وخدمات، ما يزيد من فرص زيادة الطلب على الصادرات المصرية ذات الجودة المرتفعة والسعر المنخفض المتمثل فى انخفاض قيمة الجنيه المصرى، ما يزيد من تنافسية السلع والخدمات من حيث الجودة والسعر.

تشير نظرية منحنى J-Curve Theoryإلى أن انخفاض قيمة عملة دولة ما يؤدى فى البداية إلى زيادة العجز فى الميزان التجارى لهذه الدولة، ثم بعد ذلك يحدث انخفاض فى هذا العجز، ومع ارتفاع سعر الصرف فى الأجل القصير يتغير حجم كل من الصادرات والواردات لكن بدرجة محدودة تعتمد على درجة مرونة الصادرات والواردات، ومن ثم تنخفض حصيلة الصادرات وتزيد مدفوعات الواردات ما يؤدى إلى تدهور الميزان التجارى.إلا أنه بعد فترة يبدأ حجم الصادرات فى الزيادة فى حين ينكمش حجم الواردات نتيجة انخفاض قيمة العملة المحلية ما يؤدى إلى تحسين الميزان التجارى فى الأجل الطويل.

 تجدر الإشارة إلى أن السبب فى ذلك يرجع إلى حاجة المستهلكين لفترة زمنية حتى يستجيبوا للتغير فى الأسعار النسبية الناجمة عن انخفاض قيمة العملة المحلية، وكذلك حاجة المنتجين إلى فترة زمنية حتى يستجيبوا لزيادة إنتاج السلع المصدرة، ما يتطلب زيادة دعم المصدرين مع الأخذ فى الحسبان أن هناك فاعلين لديهم دوافع احتكارية فى السوق الدولى تعمل على تخفيض أسعار صادراتها فى مقابل الدولة التى تخفض سعر الصرف لديها للمحافظة على نصيبها من الأسواق المنافسة.

بناء عليه، فإن المرونة السعرية لكل من الصادرات والواردات المصرية من السلع غير البترولية والخدمات تسهم فى زيادة العوائد للدولة المصرية فى الأجل الطويل من جراء انخفاض قيمة الجنيه المصرى، وذلك فى ضوء زيادة القدرة التنافسية للصادرات المصرية غير البترولية من سلع وخدمات. كما أن زيادة المرونة السعرية للواردات مع ثبات المرونة السعرية للصادرات منخفضة فى ضوء انخفاض قيمة الجنيه المصرى تسهم فى خفض قيمة الواردات وإحلالها محل الواردات؛ حيث إن الطلب المحلى سيحاول البحث عن سلع وخدمات محلية بديلة عن الواردات التى ارتفعت أسعارها، كما أن ارتفاع أسعار الصادرات لا يؤدى إلى انخفاض الطلب عليها بسبب انخفاض المرونة السعرية للصادرات مع زيادة قدرتها التنافسية فى الأسواق الإقليمية والدولية.

فى ضوء ما تقدم، هناك حاجة ماسة إلى دراسة سبل تعظيم وتنويع مصادر النقد الأجنبى مع وجود آلية لاستدامة تمويل الفجوة التمويلية، إلى جانب استغلال فرص زيادة قيمة المتحصلات من الصادرات المصرية من خلال تكثيف الجهود للترويج للسلع غير البترولية وخدمات التعهيد مع الأخذ فى الحسبان إعداد دراسة شاملة للمزايا النسبية والمزايا التنافسية للسلع والخدمات المُستهدف تصديرها مع دراسة المرونة السعرية للصادرات والواردات، فضلا عن تحديد الأسواق الإقليمية والدولية كثيفة الطلب على السلع والخدمات المصرية. هذا إلى جانب ضرورة العمل على استمرار سياسة إشراك المواطنين فى سياسات احتواء الأزمة الحالية من خلال خلق قنوات للحوار المجتمعى لضمان السلوك الاقتصادى الرشيد والقضاء على شعور عدم اليقين الذى يسيطر على سلوك المواطنين والفاعلين فى الأسواق غير الرسمية، فضلا عن ضرورة وضع آليات وضوابط توحيد الأسعار من خلال تدخل دور الدولة لضبط الأسواق؛ حيث توفير المعلومات الكاملة وزيادة المعروض من النقد الأجنبى من خلال استدامة تنويع مصادر النقد الأجنبى وزيادة المعروض من السلع الاستراتيجية من خلال توفير قنوات متنقلة للسلع الاستراتيجية وزيادة القاعدة الإنتاجية فى المصانع المملوكة للدولة، ما يسهم فى استدامة سلاسل الإمداد والحد من الممارسات الاحتكارية والمضاربات التى أدت إلى تشوه الأسعار فى الأسواق ونقص المعروض؛ حيث إن الأمن الاقتصادى والأمن الاجتماعى من المحاور الأساسية والداعمة للأمن القومى التى تتطلب تكاتف وتضافر جهود الدولة المصرية والشعب ككل لاحتواء الأزمة والتغلب عليها وإعلاء المصلحة الوطنية والإنسانية على المصالح الخاصة خاصة فى ظل عدم الاستقرار الإقليمى الذى يحيط بالدولة المصرية.

طباعة

    تعريف الكاتب

    عائشة غنيمي

    عائشة غنيمي

    خبير اقتصادي ومسئول برامج وعلاقات دولية