مقالات رأى

استشراف تقديرى لسياسات دولية مرتقبة

طباعة

يؤدى الاستشراف السياسى دورا ملحوظا فيما يخص تحديد التوجهات وتقييم التحديات، لا سيما تجاه الأحداث والأوضاع السياسية الملتهبة والمتغيرة بفعل العوامل المختلفة وفى مقدمتها الجيوسياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى الصراعات ودوائر الحروب فيما بين الدول والأقاليم. ولعل الاستشراف الذى يعد بمنزلة تقدير مبدئى لما هو قادم، يبرز كمؤشر مهم على خصوبة التحليل السياسى المعاصر والمنوط بها وضع الأمور والأحداث فى سياقاتها، غير أن الأحداث السياسية المعاصرة مع المتغيرات المتتالية، عُدت ضمن أبرز دوافع هذا الاستشراف السياسى والمبدئى، والذى يتحتم عليه الترقب لمعظم الأوضاع والأحداث المحيطة سواء على المستويين الإقليمى والدولى، أو حتى دواخل الدول والأنظم السياسية المختلفة.

على المستوى الداخلى

داخليا تتجه مصر ناحية الاستقرار لا سيما على المستويين الأمنى والسياسي، عقب اجتيازها أبرز معايير النظم الديمقراطية، ألا وهو إجراء الانتخابات الرئاسية، سواء ما يخص انطلاقة الانتخابات نفسها، أو حتى فى الإطارين القانونى والسياسى اللذين تمكنت من السير فيهما، أيضا حجم المشاركة السياسية التى تجاوزت الـ 65% ممن يحق لهم التصويت فى الانتخابات الرئاسية، ومن ثم عُدت النسبة الأعلى بتاريخ الانتخابات، مع حالة الحراك الوطنى الذى أحدثته هذه المشاركة، وعبر المؤسسات المصرية وأجهزتها التنفيذية والتشريعية.

إلا أن بتقلد الرئيس عبد الفتاح السيسى مقاليد البلاد لمدة رئاسية جديدة، تمكن من وضع عدة أطر تشكل أولويات المدة القادمة، مع تحديات وجب التصدى لها، ففيما شكلت الأولويات إقامة دولة ديمقراطية، تواكب التقدم والأطر المدنية، وتحترم الدستور والقانون، والأهم حياة كريمة للمواطن المصرى، برزت التحديات فى الإرهاب الذى تصدينا له، مع الأوضاع الاقتصادية التى أسهمت فى تراجع بعض مؤشراتها الأوضاع على المستويين الإقليمى والدولى.

بناء عليه، ثمة عدة سياسات بدأت الحكومة فى إعلانها جاء أهمها زيادة الإنفاق العام على ما يضمن تلبية احتياجات المواطنين، ورفع مستويات المعيشة لديهم، أيضا تحسين الأجور للعاملين بالدولة وأصحاب المعاشات، بالإضافة إلى تحقيق المستهدفات الاقتصادية والتركيز على قطاعات الصحة والتعليم، وذلك بحسب توجيهات الرئيس. وبالتوازى مع هذه التوجهات، تستمر الدولة فى التوسع فى مد مظلة الحماية الاجتماعية ومراعاة التوزيع العادل للاعتمادات الموازنية، والأهم المضى قدما فى دعم الاقتصاد المصرى وتحفيز التنافسية ودعم نظام ضريبى عادل وملائم للاستثمارات بجميع المشروعات الصغيرة والمتوسطة.

يبرز الوجه الحقيقى للاستشراف من قبل استراتيجية الدولة والمتعلقة بالمشروع البحثى، الذى يشرف عليه مجلس الوزراء، ومقرر له صياغة أولويات المدة المقبلة سواء الاقتصاد الكلى أو القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، كما يخضع لتقييم عدد كبير من الاقتصاديين والمتخصصين، من أجل معرفة مدى إسهامه فى ترسيخ دعائم النهضة الاقتصادية، وزيادة مستويات مرونة الاقتصاد. وبحسب مجلس الوزراء، فإن الوثيقة نفسها تستهدف تحقيق التنمية المتوازنة وترسيخ الدور الفاعل للاقتصاد المصرى دوليا، مع تركز دعم رأس المال البشرى؛ حيث تشمل تحقيق نمو اقتصادى قوى وشامل ومستدام ومتوازن داعم لنهضة الدولة يتراوح بين 6% و8%، مع التركيز على نوعية النمو الاقتصادى، عبر تعزيز إسهامه فى كل من الصادرات والاستثمارات فى توليد الناتج، والتركيز على وتيرة نمو اقتصادى داعمة للتشغيل، لتوفير ما يتراوح بين 7 و8 ملايين فرصة عمل، خلال تلك المدة، وتبنى سياسات اقتصادية قابلة للتوقع وداعمة لاستقرار الاقتصاد الكلى تستهدف تحقيق الاستقرار السعرى، والانضباط المالى، ووضع الدين العام فى مسارات قابلة للاستدامة، وتنفيذ برنامج لتعزيز المتحصلات من النقد الأجنبى بحصيلة مستهدفة 300 مليار دولار، بنهاية عام 2030، أيضا تعزيز دعائم اقتصاد تنافسى مستدام، وتسريع وتيرة الانتقال إلى تقنيات الثورات الصناعية، مع التحرك بخطى مستدامة نحو الاقتصاد الأخضر.

وجميعها سياسات كفيلة بخلق حالة من الاستقرار الاقتصادى، أو على الأقل الترسيخ لسياسات قادمة من شأنها التعاطى الجاد مع أزمات كثيرا ما تسببت فى إرهاق المواطن، وهنا ينجح الاستشراف فى تقييد المستقبل حال ثبوت تمرده على الأوضاع والمعطيات، وفى مقدمتها المجتمعية واحتياجات المواطن.

الوضع إقليميا

من الصعب استشراف الأوضاع الإقليمية وقراءة تداعياتها، بمعزل عن القضية الفلسطينية الأكثر جوهرية، واستمرارية الحرب البرية الإسرائيلية على غزة، وفى ضوء تصاعد توترات المنطقة، وتعدد جبهات القتال، لا سيما الضربات الأمريكية الأخيرة على مواقع ونقاط تمركز الحوثيين وترسانتهم العسكرية باليمن، وعبر 150 ضربة استهدفت الولايات المتحدة وبريطانيا  30 موقعا عسكريا للحوثيين بأكثر من مدينة ومحافظة يمنية أبرزها صنعاء والحديدة وتعز وحجة وصعدة، تمكنت من خلالها من الوصول إلى ترسانة عسكرية شملت الصواريخ الباليستية والمسيرات، مع الرادارات وأنظمة الدفاع الجوى، ليعلن بايدن نجاح الضربات الأمريكية، معتبرا إياها الرد الحاسم على عمليات استهداف حركة الملاحة البحرية.

لعل أبرز الملاحظات هنا تتمثل، فى بروز الولايات المتحدة كطرف أصيل فى الصراع ومعها بريطانيا طبعا، بعد أعوام من حربها بالوكالة بالمنطقة، ودعمها لإسرائيل سياسيا وعسكريا ولوجستيا، أيضا محاولتها التحايل على الأوضاع وإجازة ضرباتها سياسيا وقانونيا بالحصول على موافقة مجلس الأمن، إلا أن اعتماد الحوثيين لمناورة من نوع خاص بين التذرع بدعم القضية الفلسطينية من جانب، والجانب الآخر تعطيل الحركة الملاحية بالبحر الأحمر تحديدا عند باب المندب جنوب البحر الأحمر، أثار بدوره إشكالية كارثية تمحورت حول إما القبول بتعطيل الملاحة أو التفريط فى القضية الفلسطينية، وجميعها تطورات تنذر بعام قادم قد تشغل الصراعات الحيز الأكبر منه، غير أن تعدد نقاط الضعف الاستراتيجية لدى إسرائيل قد يدفع بالصراع إلى مواطن تذكر من التسكين، وفى مقدمتها تزايد الانقسامات لدى حكومة الطوارئ ومجلس الحرب، وبحث تشكيل حكومة جديدة بديلا عن حكومة نتنياهو المتطرفة، مع تزايد جبهات القتال ، والأكثر فعالية هو تراجع مؤشرات الاقتصاد الإسرائيلى مع تزايد مؤشرات التضخم، وتراجع عوائد قطاعات السياحة والزراعة، خصوصا عقب عمليات التعبئة لجنود الاحتياط.

وربما مقاربات الحلول لهذه القضية لن تستقيم بغير اعتماد حماس كطرف أصيل فى معادلة الحل، وهنا تحتم الإشارة إلى ضرورة امتثال الجماعات المسلحة سواء المقاومة أو الميليشيات إلى الخضوع إلى الكبار بالمنطقة، خصوصا أن أى مكتسبات منتظرة لن تتحقق بمعزل عن السياقات السياسية، بدليل أن معظم الجهود المصرية التى انطلقت من أجل التخديم على القضية، لم تتحق إلا عبر المفاوضات السياسية، وإن لم نقلل من تحركات المقاومة التى نجحت فى إعادة تسليط الأضوء إلى جوهر القضية. 

الوضع دوليا

تتواصل وتترحل معنا الحرب الأوكرانية، على مدى أكثر من عامين، وفى التوقيت نفسه من العام الماضى، تناولناها ضمن أبرز الأزمات الدولية المعقدة والمتواصلة، فلأول مرة تفشل مفاهيم توازنات القوى وغيرها، فى التعاطى مع أزمة دولية، فتواصل الإمدادات من قبل الغرب سواء الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبى، أسهم فى تغليب الحلول العسكرية بالمقارنة بالحلول السياسية، إلا أن تراجع المؤسسات الأمريكية عن الدعم الأوكرانى قد يدفع بزيلينسكى إلى القبول بالمفاوضات مع الجانب الروسى، وهو ما قد يأتى نزولا على رغبة الداخل الأوكرانى؛ حيث طرحت أوكرانيا "صيغة سلام" لإنهاء الحرب ذكرت فى اجتماعات منتدى دافوس الاقتصادى.

أما على صعيد الأزمة الصينية - التايوانية، فقد سجلت تصعيدا ملحوظا على خلفية تهنئة وزراء خارجية أمريكا وبريطانيا واليابان أيضا لرئيس تايوان الجديد لاى تشينج - تى الذى يدعم استقلال الجزيرة، ما دفع بوزير الخارجية الصينى وانج يى إلى التحذير من أى خطوات استقلالية قد تنتهجها تايوان، مشيرا إلى أن تايوان لم ولن تكون بلدا مستقلا، حتى إن تمتعت بالحكم الذاتى.

تعد تايوان أبرز نقاط القلق الاستراتيجية لدى الصين التى تحرص على ضمها، فى وقت يصعد أعداء الصين الموقف عبر محاولات التطبيع مع الجزيرة، وهو ما تفعله واشنطن من وقت لآخر، وينبئ بعواقب غير محمودة من قبل الصين، على الرغم من الاستراتيجية الصينية التى ترسخ لدعائم استقرار السلام، وتسعى دوما من أجل اقتصاد متصدر المشهد بمؤشرات نمو متصاعدة؛ حيث حذرت وزارة الخارجية الصينية وسفارات الصين حول العالم الدول من تأييد الحزب الديمقراطى التقدمى الحاكم فى تايوان، ونددت بحكومات أجنبية هنأت لاى تشينج - تى عقب انتخابه رئيسا للجزيرة.

بناء عليه، قد يواجه الاستشراف وتوقعاته، وفى خضم تصاعد التوترات وتعدد مجريات الأحداث، بمفارقات سياسية وعسكرية من شأنها مخالفة هذه التوقعات، ومن ثم إخفاق هذا الاستشراف وصعوبة تحايله على معطيات الحاضر ومؤشرات المستقبل.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    إيرينى سعيد

    إيرينى سعيد

    صحفية وكاتبة مصرية - ماجستير العلوم السياسية