مقالات رأى

الحلقة الإسرائيلية- الفلسطينية المفرغة

طباعة

حملت الأنباء يوم السبت الماضي آخر تطورات اللقاءات الفلسطينية- الإسرائيلية في عمان التي يفترض فيها أن تستكشف آفاق استئناف المفاوضات بين الطرفين. ولا يمكن لأي متابع لتطورات الموقف الإسرائيلي أن يرى هذه الآفاق ولو في المدى البعيد طالما بقي هذا الموقف على ما هو عليه. فلماذا تقدم السلطة الفلسطينية على مثل هذه اللقاءات؟ قيل في تفسير ذلك -وهو قول منطقي- إن الاستجابة الفلسطينية جاءت بناءً على طلب جهات عديدة على رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واللجنة الرباعية. وقيل كذلك إن هذه الجهات اقترحت على إسرائيل تقديم مبادرات حسن نية تجاه الفلسطينيين من أجل استمرار هذه اللقاءات مثل إطلاق سراح بعض الأسرى، ونقل أجزاء من الضفة الغربية إلى إدارة السلطة الفلسطينية، وهو ما يكشف أن هذه الجهات إن كانت صادقة لا تعرف شيئاً عن جوهر الموقف الإسرائيلي، أو أنها تعرف ولكنها تقوم بالدور المطلوب منها في لعبة المفاوضات العبثية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.

ويثبت صحة هذا التحليل ما ذكرته التقارير من أن الطرف الإسرائيلي في هذه اللقاءات قدم إلى الجانب الفلسطيني أفكاراً بالية نعرفها منذ عقود، أو على الأقل منذ بدأت عملية التفاوض الإسرائيلي- الفلسطيني بعد اتفاقية أوسلو الموقعة في عام 1993، فهو يقدم عرضاً لإقامة دولة فلسطينية "مستقلة" لا تشمل القدس وأجزاءً واسعة من غور الأردن على أن يشكل الجدار الفاصل حدودها الغربية مع إسرائيل (لاحظ أنها عندما أنشأته ادعت أنه مسألة أمنية لا علاقة لها بالحدود التي ستأخذ بها التسوية النهائية)، ويتم تجميع المستوطنات في كتل خلف الجدار (بما يعني شرعية ما قامت به إسرائيل من عمليات استيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد 1967)، فضلاً عن الحفاظ على الوجود الأمني الإسرائيلي في غور الأردن، وهكذا تتحول الضفة الغربية إلى "كانتونات" معزولة عن بعضها بعضاً. والمهين أن صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية اعتبرت أن إسرائيل "غير جادة" في هذا العرض الذي لا يمكن قبوله فلسطينيّاً، وإنما قدمته كخطوة تكتيكية يراد منها ممارسة ضغوط على الفلسطينيين كي لا يقوموا بقطع المحادثات في عمان بذريعة أن إسرائيل ترفض طرح موقفها من الحدود.

والواقع أنه بغض النظر عما نعرفه عبر السنين عن المواقف الإسرائيلية من التسوية النهائية فإن الظروف الراهنة محليّاً وإقليميّاً وعالميّاً لا يمكن أن تفضي إلى زحزحة إسرائيل ولو بوصة واحدة عن هذه المواقف، فالانقسام الفلسطيني لا يزال قائماً على رغم كل محاولات تجاوزه، وقد يطول أمده نتيجة حسابات استراتيجية جديدة تتوصل إليها "حماس" بسبب غلبة تيار الإسلام السياسي على ثورات الربيع العربي حتى الآن، بمعنى أن "حماس" قد تتطلع إلى تحالفات عربية جديدة لا تجعلها بحاجة إلى تقديم أي تنازل فيما يتعلق برأب الصدع مع السلطة الفلسطينية، والوضع العربي مضطرب نتيجة مطالبات التغيير التي نجحت في بعض البلدان، وإن كانت لا تزال تواجه أوضاعاً قلقة، ولم تنجح في بلدان أخرى على رأسها سوريا التي كانت تعد -بغض النظر عن رأينا في نظامها- رقماً فاعلاً في معادلة الصراع العربي- الإسرائيلي، وها هي سوريا تنكفئ على نفسها منذ شهور قاربت العام بينما النظام العربي مشغول إلى أذنيه دون جدوى بوضع حد لما يجري فيها، الأمر الذي يقلص دون شك من موارده الموجهة للقضية الفلسطينية. وعلى رغم أن مواقف الإطار الإقليمي (تركيا وإيران) تعد في التحليل الأخير إيجابية من المنظورين الفلسطيني والعربي فيما يتعلق بالصراع مع إسرائيل فإنه لا يمكن الحديث حتى الآن عن تأثيرات فعلية في ساحة الصراع نتيجة لهذه المواقف. وأما الاتحاد الأوروبي فنعلم جميعاً أنه لم يمارس في أي وقت من الأوقات تأثيراً يذكر على مجريات التسوية، وإن كان في بعض الأحيان يعطي العرب "من طرف اللسان حلاوة" ويكتفي بتقديم مساعدات للطرف الفلسطيني، وأما روسيا فشغلها الشاغل الوحيد الآن هو إخراج النظام السوري من أزمته حتى تحافظ على موطئ قدم لها في المنطقة، وأخيراً فإن الجميع يعلم أن الولايات المتحدة كانت دائماً ولا تزال ورقة رئيسية في الجيب الإسرائيلي، فما بالنا وانتخابات الرئاسة الأميركية تقترب من شهور الحسم التي لا تعرف سوى المزايدات الرخيصة من المرشحين لصالح إسرائيل وسياساتها.

ويعني ما سبق أن الأمر برمته إلى حين إشعار آخر بيد الشعب الفلسطيني وقواه الحية، ومن هنا أهمية التأمل في النهج الفلسطيني تجاه هذه الغطرسة الإسرائيلية، وأول ما يلفت النظر في هذا الموقف الأخير أن رد الفعل الفلسطيني الرسمي (من قبل السلطة الفلسطينية) جاء باهتاً إلى حد يثير الأعصاب. صحيح أن المقترحات الإسرائيلية قد تم تفنيدها من قبل دوائر رسمية فلسطينية، ولكن تصريحاً رسميّاً فلسطينيّاً في الوقت نفسه علق على لقاء عمان الأخير بأن القيادة الفلسطينية ستجتمع للاستماع إلى تقرير من الوفد الفلسطيني الذي حضر اللقاء، وأن هذه القيادة ستتخذ قرارها في شأن استمرار لقاءات عمان أو وقفها بناءً على هذا التقرير. والسؤال البديهي هنا هل يحتاج الأمر تقريراً واجتماعاً على أعلى مستوى كي يتبين للقيادة الفلسطينية أن ما يحدث هو العبث بعينه؟ ألم يكن ممكناً لهذه القيادة أن تجري اتصالاً تليفونيّاً برئيس الوفد الذي حضر اللقاء أو أن يرسل هو إلى قيادته برقية مفادها ألا فائدة من كل هذا العبث؟

يُذكر للقيادة الفلسطينية دون شك أنها تمسكت بموقفها الصحيح القاضي بعدم استئناف المفاوضات مع إسرائيل إلا إذا أوقفت عمليات الاستيطان في الأراضي المحتلة، غير أن غيبة أية أدوات للفعل والتأثير بيد الجانب الفلسطيني لا تفضي بهذا الموقف الصحيح سوى إلى استفحال عمليات الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن هنا باتت مراجعة استراتيجية العمل الفلسطيني واجبة وإلا بقينا ندور في هذه الحلقة المفرغة حتى نكتشف أن كل ما تريده إسرائيل قد تحقق بفعل الأمر الواقع. ونقطة البداية أنه لابد من أن يملك الفلسطينيون أدوات الفعل والتأثير، ومن هنا ضرورة العودة للمقاومة، وأعلم تماماً أن القيادة الفلسطينية الحالية ضد المقاومة المسلحة تماماً، وقد تكون لها حججها في هذا الصدد، ولكنني لا أتحدث تحديداً عن المقاومة المسلحة وإنما عن مدى واسع من أشكال المقاومة السلمية، تتضمن المقاطعة الاقتصادية والعصيان المدني والتلويح بحل السلطة الفلسطينية بل وحلها بالفعل طالما بقيت إسرائيل متمسكة بهذه المواقف البغيضة، ولا مانع في ظروف معينة من اللجوء إلى النضال المسلح ضد قوات الاحتلال تحديداً، وقد تحررت الهند بنضال سلمي مئة في المئة، وصفي النظام العنصري في جنوب أفريقيا بمزيج من النضال المسلح والنضال المدني وإن كان الأخير قد رجحت كفته في السنوات الأخيرة للنضال.

أعلم بطبيعة الحال أن كتابة الاقتراحات على الورق أمر سهل وأن تنفيذها صعب، ولكن تغيير النهج الفلسطيني الراهن يبقى ضرورة لابد منها، وأول مقومات النجاح هو استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وقد سبقت الإشارة إلى بعض المستجدات في هذا الصدد التي قد تعقد من هذه المسألة، ولكن هذا لا يمنع من المحاولة والمثابرة عليها وإلا فإن النضال الفلسطيني سيضل الطريق إلى غاياته المشروعة أو يستمر في الدوران في هذه الحلقة المفرغة.

-----------------------
*نقلا  عن الاتحاد الإماراتية الثلاثاء, 31 يناير 2012.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. أحمد يوسف أحمد