مقالات رأى

حلول مقترحة :| متطلبات الانتقال الآمن للسلطة في دول الربيع العربي

  • 22-1-2012

طباعة

رغم الاختلافات الواسعة بين مختلف دول العالم فيما يتعلق بأنماط انتقال السلطة، لم تقدم الخبرة المعاصرة حتى اليوم ما يمكن تسميته بالحل الأمثل لهذه المشكلة، فأغلب دول العالم لم تتمكن من دعم وإرساء قواعد مقررة وآليات واضحة، وأشكال وقنوات مؤسسية مقبولة ومعترف بها لشغل فراغ أو تداول السلطة العليا فيها، وإن استطاعت بعض الدول الغربية حسم القضية في بلادها على نحو سلمي وسلس من خلال النمط الانتخابي، والذى يعد من أفضل الوسائل التي عرفتها الشعوب في تغيير حكامها. إذ أسهم في نقل الخلافة السياسية من أطرها السرية إلى الساحة الشعبية، وأصبح الاحتكام فيها إلى إرادة المجموع أو بالأحرى الإرادة الشعبية بما أعطى لكل القوى السياسية في المجتمع الحق في التطلع إلى شغل المنصب الأعلى أو المشاركة في تدبير شئونه.      

وإذا كانت الثورات العربية وما أفرزته من تداعيات قد كشفت عن غياب واضح لاستقرار تقاليد مؤسسية تسهم فى تحقيق  التداول السلمى للسلطة الذى يمثل جوهر الديمقراطية، فإن محاولة معالجة هذا المأزق تتطلب وجود ثلاث ركائز أساسية لتحقيق انتقال آمن للسطلة فى دول الربيع العربى .

 أولا- ضرورة وجود نصوص وقواعد قانونية ثابتة تحكم عملية انتقال السلطة:

يكفل الدستور بمثابة العقد الاجتماعى ما بين الحاكم والمحكومين تنظيم العلاقات ما بين مؤسسات الدولة المختلفة ويحقق التوازن المطلوب بينها.غير أن تاريخ التجربة الدستورية فى العالم العربى يتسم بخصوصية فريدة خاصة لسلطات الحاكم، وهو ما تبرزه طبيعة الحقوق التى كفلها له الدستور فى بعض الدول، ومنها مصر، والتى جعلته القوة الفاعلة الأهم فى النظام، أو بالأحرى جعلته  يفعل ما يشاء وقتما يشاء بلا وجود ضوابط تحد من هذه الهيمنة التى لا مثيل لها فى دساتير العالم المختلفة، وهو ما أدى إلى صناعة الديكتاتور. وبالتالى، فإن شروط الترشح لشغل المنصب الأهم فى الدولة يجب أن يأخذ فى الحسبان الوسائل الكفيلة باختيار أفضل عناصر النخبة لقيادة المجتمع. إذ إن العديد من المجتمعات المتقدمة استطاعت حسم هذه القضية من خلال وضع ضوابط على من يحق لهم الترشح لشغل هذا المنصب، أو من خلال إيجاد آليات أكثر قدرة على تجنيد وإفراز المؤهلين للقيادة ، فضلاً عن تحديد حدود قصوى لولايات شغل منصب الحاكم. وربما يعكس الإعلان الدستورى الصادر عن القوات المسلحة المصرية، باعتبارها الجهة المخولة بوضع التشريعات فى هذه المرحلة الانتقالية، هذا التوجه، عندما جعل مدة الرئاسة دورتين كحد أقصى، وهو تقليد متبع فى غالبية الدول المتقدمة. يضاف إلى ذلك ضرورة الحد من السلطات المخولة لرأس النظام فى الدستور، وذلك للحيلولة دون جعل كافة مؤسسات الدولة رهناً لرغبته بما يؤدى إلى شخصنة السياسات، وهو توجه يتنافى تماماً مع متطلبات الديمقراطية التى تدعو إلى إرساء قواعد العمل المؤسسى.

 ثانيا- امتثال أطراف العملية السياسية لقواعد نقل السلطة بما ينعكس على ضرورة توافر الرضا الشعبي:

 هذا الأمر يرتبط بالشرعية التى تعنى خضوع المحكومين للحاكم الذى تم اختياره طواعية. وفى الواقع، فإن النظم الديمقراطية تستمد شرعيتها من بعدين أساسيين، هما شرعية الحاكم الذى يأتى وفق قواعد مستقرة ومتفق عليها ، وشرعية النظام ذاته الذى يخضع له المواطنون طواعية، وقد يفقد الحاكم شرعية وجوده بانتهاء فترة ولايته المقررة وفق الدستور، أو عدم الرغبة شعبياً فى إعادة انتخابه مرة أخرى. لكن يظل الملمح الأهم فى النظم الديمقراطية فى أنها لا تفقد شرعيتها كنتاج لتغير الحاكم، ولكن تستمر شرعية النظام لوجود قواعد مؤسسية تحقق هذه الاستمرارية . وربما ارتبط اندلاع ثورات الربيع العربى فى أحد جوانبه بافتقاد بعض نظم الحكم العربية لهذه الشرعية. فعندما تتآكل الشرعية، فإن انتقال السلطة يصبح ضرورة حتمية، فلم يعد لهذه الأنظمة أى رأس مال سياسى أو أيديولوجى أو إنجازى تستطيع أن تستند إليه، وتستمد منه شرعية الحكم والبقاء فى سدة القيادة، من دون أى توكيل شعبى انتخابى واضح.هذه الأنظمة، جمهورية كانت أو ملكية ، تسلمت الحكم مباشرة بعد انقضاء الاستعمار الغربى للبلدان العربية، إما عبر حروب تحرير، أو معاهدات انسحاب فى حقبة الدولة المستقلة، وارتكزت هذه الأنظمة على شرعية الاستقلال نفسه. ثم  تبع ذلك شرعية الوعد بالإنجاز، ذلك أن النظام الحاكم الذى أعقب الحقبة الاستعمارية وعد الشعوب بإنجاز دولة قوية، واقتصاد ناجح، وعدالة اجتماعية. ومع الفشل الذى منيت به معظم الدول العربية فى تحقيق رفاهية مواطنيها، برغم ما تزخر به المنطقة من ثروات، فإن التحدى الأبرز الذى سيواجهها هو كيفية إنجاز تنمية اقتصادية مستدامة تحقق العدالة الاجتماعية.

 ثالثا- أهمية تعزيز دور الأحزاب السياسة ومؤسسات المجتمع المدنى:

 تعد الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني مؤسسات وسيطة تهدف إلى التنشئة السياسية، وملء الفراغ الذى خلفه غياب الدولة. فوجود حياة حزبية فاعلة يعزز من التعددية السياسية، ويحقق التداول السلمي للسلطة. من هنا، تبرز أهمية وجود  قنوات للمعارضة السياسية لتقديم البدائل، وطرح الحلول للمشكلات التى برزت فى الآونة الأخيرة كنتاج لأزمة الدولة فى العالم العربى، والتي تعاني غيابا واضحا لاستقرار تقاليد الممارسة الديمقراطية، والتي فشلت عبر السنوات الماضية في الاستفادة من تجارب دول عديدة استطاعت أن تحقق تراكمًا في مجال التحول الديمقراطي وتعميق المؤسسية. ويرجع هذا الإخفاق بالأساس إلى فشل المعارضة السياسية في تقديم رؤى، أو بالأحرى تقديم برامج تتعامل مع الواقع داخليًا وخارجيًا، فضلاً عن تشرذم هذه القوى، ليس فقط بفضل ممارسات أنظمة الحكم ضدها  - التي لم تختلف من دولة لأخرى - بل وفشلها أيضًا في توحيد صفوفها، ناهيك عن غياب الممارسة الديمقراطية داخل مؤسسات المعارضة نفسها. فقادة هذه الأحزاب كثيرا ما يرفعون شعارات بعيدة تمامًا عن حقيقة واقعهم وممارساتهم .    

أما مؤسسات المجتمع المدنى فى العالم العربى، وبرغم التحديات التى تواجهها فى ظل غياب القوانين التى تؤطر عملها بشكل مؤسسى، فإن دورها فى مراحل التحول يزداد أهمية، على أساس أن تطوير هذه المؤسسات يمثل سندا أساسيا لإحداث التغيير والتأثير الفاعلين فى مستويات الوعى، والقدرة على تعزيز العمل الجماعى، وهى أيضاً سند أساسى لدعم التوجه الديمقراطى وتطويره ، باعتباره عملية حيوية يجب تنميتها والحفاظ عليها والاستمرار فى تطويرها. كما أن تفعيل هذه المؤسسات هو الكفيل بتكريس قيم الديمقراطية، بما يؤدى إلى تحسين ودعم التحول الديمقراطي، وصولاً إلى مرحلة الرسوخ الديمقراطى، خاصة أن المجتمع المدنى شهد تطوراً ملموساً فى الآونة الأخيرة، حيث ظهر هذا القطاع كفاعل رئيسى فى عملية التنمية فى مختلف دول العالم، وشريكاً بارزاً للمؤسسات الحكومية فى عمليات المساعدة الإنمائية، ومواجهة الفقر والبطالة. وتوسع دوره من مجرد منظمات ترتكز على المنظور التنموى  إلى توفير مساحة أكبر من الحرية والممارسة الديمقراطية، والمشاركة فى صنع الأحداث، واتخاذ القرارات على مختلف الأصعدة، وتحسين إدارة الحكم، عبر تعزيز المساءلة والشفافية، إلى النظام السياسى وحماية الحقوف والتوفيق بين المصالح ، وايصال الخدمات الاجتماعية.  بل امتد تأثير هذه المنظمات فى تشكيل وتوجيه  السياسات العامة العالمية تجاه العديد من القضايا، مثل حقوق الانسان وحماية البيئة، وبشكل بدا معه هذا القطاع أحد أبرز الفاعلين على الساحة الدولية. ومن ثم، فإن تعظيم الاستفادة من هذا القطاع يسهم فى التهيئة السياسية لانتقال السلطة وتداولها. فثمة علاقة ما وثيقة بين آلية تداول السلطة العليا وآلية تداول السلطة فى باقى المؤسسات، سواء كانت أحزابا أو هيئات مجتمع مدنى ، ربما لأن الأولى تلخيص للثانية فى قمة النظام السياسى، ومن ثم فهى نتاج لها، وربما لأن الثانية تسعى إلى تقليد الأولى، والتأثر بها، باعتبارها القدوة فى القمة، وربما للسببين معاً. والمؤكد أيضاً أنه ليس من المنطقى أن تنفى الديمقراطية فى نقل السلطة العليا، ثم نعثر عليها فى باقى المستويات .     

رابعا- ضرورة ضمان العسكر لنقل السلطة إلى المؤسسات المنتخبة:

  عاد دور الجيوش فى حسم قضية الخلافة السياسية ليتصدر المشهد السياسى فى أكثر من حالة عربية، ولكن بتدخل مختلف ارتبط بخصوصية كل دولة عربية، وطبيعة العلاقة بين المؤسسة العسكرية والحاكم، ومدى مهنية الجيش وسجله التاريخى. فأداء الجيش فى سوريا واليمن واستمراره فى الدفاع عن سلطة فقدت شرعيتها يختلف عن أداء الجيش المصرى الذى كشف عن حرفية لا تقل عن مهنيته التاريخية. فلا شك فى أن الجيش المصرى لعب دوراً تاريخياً فى إنجاح الثورة المصرية. وبموقفه هذا، فإنه وضع نمطًا جديدًا لدور العسكر في السياسة، إذ نقل الشرعية من فوهة المدافع إلى شرعية صناديق الانتخاب، كما أسهم فى حماية مؤسسات الدولة من الانهيار. وبالتالى، فإن المجلس العسكرى مطلوب منه أن يلتزم بالجدول الزمنى لنقل السلطة إلى المؤسسات المنتخبة من قبل الشعب، ليبقى الشعب هو المصدر الحقيقى للسلطات.

والخلاصة أن الدول العربية بصدد عقد اجتماعى جديد ما بين الحاكم والمحكومين، يكفل آليات أكثر ديمقراطية لانتقال السلطة، خاصة فى الدول الجمهورية، وفى مقدمتها تونس، ومصر، وليبيا. وربما تأتى بعد ذلك اليمن، وسوريا. الفرصة الآن سانحة لتأسيس أنظمة عربية ديمقراطية، برغم كل التحديات التى تواجه ثورات الربيع العربى، فهل يمكن اغتنامها؟

-----------------------------

* مقالات خاصة بالسياسة الدولية

طباعة

    تعريف الكاتب