مقالات رأى

استراتيجيات التحيز السياسى فى مواقع التواصل الاجتماعى: حرب غزة نموذجًا

طباعة

 بدا لافتا للنظر صدارة مواقع التواصل الاجتماعى (فيس بوك وانستجرام) التى تمتلكها شركة ميتا METAالمعروفة سابقا باسم "فيس بوك"  كساحة جديدة من ساحات الصراع بين الفلسطينيين أصحاب الأرض والإسرائيليين المستوطنين؛ حيث إن التأثير الكبير الذى تمتلكه هذه المواقع فى تشكيل الرأى العام لا يمكن إنكاره، كونهامحطات رئيسة فى عرض وتحليل الأحداث الحالية، إلا أنها تواجه تحديات كبيرة فيما يتعلق بالنزاهة والحيادية فى نقل الخبر وتقديم وجهات النظر، وهو ما يُعرف بالتحيز الإعلامى. ويُعرف مصطلح التحيز عموما فى سياق دراسات نظم الاسترجاع بأنه التوجيه المقصود للمستخدم عبر الإنترنت نحو نتائج مُضللة قد تؤثر فى معتقداته أو سلوكياته. والشاهد من الأمر أن مواقع التواصل الاجتماعى لم تعد تقوم بوظيفتها الأساسية وهى عرض الأخبار وفقا للمعلومات المتوافرة، بل تعدَّى دورها ليُصبح توجيه المستخدم بوصفهِ جزءًا مكونًا للرأى العام لنتائج وأخبار مضللة لتعزز الصور النمطية السلبية تجاه قضايا معينة. والتحيز هنا قد يكون عمدا - بأجر مدفوع – من خلال الشركات المُصنعة لمصلحة دولة أو مؤسسة أو شركة ما لتحقيق أهداف معينة، وذلك لقصور خوارزميات البحث والاسترجاع بمواقع الإنترنت ومحركاتها مثل "جوجل Google".

استراتيجيات التحيز السياسى فى مواقع التواصل الاجتماعى:

انتهجت مواقع التواصل الاجتماعى المملوكة لشركة ميتا METAثلاث استراتيجيات تشكل تحيزا سياسيا لتقييد المحتوى الداعم للقضية الفلسطينية، حيث يعد التشتيت إحدى الاستراتيجيات الحالية التى يتبعها موقع فيس بوك لتشويش انتباه المستخدمين عن متابعة الأحداث الجارية فى غزة. يعمل الموقع على تحليل ملفات المستخدمين وفهم اهتماماتهم بعناية فائقة، ومن ثم يقوم بتقديم إعلانات ومنشورات مصممة خصوصا لتتناسب مع تلك الاهتمامات، بهدف جذب المستخدم وتحويل انتباهه نحو مواضيع أخرى، ما يجعله ينغمس فى محتوى آخر، ويركز على مواضيع فرعية بدلا من التركيز على الموضوع الرئيس الذى كان يبحث عنه. كما يُعد حجب المنشورات تجسيدا آخر للتحيز السياسى بهذه المواقع، ويُطبق هذا الإجراء على حسابات الشخصيات البارزة، والصفحات ذات الجماهيرية العالية؛ حيث قيّد موقع فيس بوك منشورات كثيرين ممن تضامنوا مع الهاشتاجات التى تدعم القضية الفلسطينية وتندد بالعدوان الإسرائيلى على الفلسطينيين، وحذف منشورات لصحفيين وناشطين حول العالم وثّقوا هذه الاعتداءات، زاعما أنها تحمل خطابات كراهية وتحرض على العنف، ما يعد مخالفا لسياسة استخدام الموقع. ويأتى انخفاض معدل التفاعل مع المنشورات ليمثل شكلا آخر من أشكال التحيز السياسى؛ حيث تزايدت شكاوى المستخدمين فى الآونة الأخيرة بخصوص تراجع التفاعل على منشوراتهم وصفحاتهم، خاصة على موقع "فيس بوك" حيث من المفترض أن يظهر منشور لصفحة تمتلك مليون متابع أمام عشرة آلاف شخص فى البداية، ويتضاعف العدد بناء على التفاعل. ومع ذلك، لم يتحقق هذا المعدل المتوقع فيما يتعلق بمنشورات الأحداث فى غزة، والذى يُمكن عده تكتيكا جديدا لتقييد القضية الفلسطينية. وظهر ذلك بوضوح عندما أطلق مستخدمو فيس بوك حول العالم الهاشتاج #غزة_تحت_القصف بالعربية والإنجليزية دفاعا عن الأسر الفلسطينية المهددة بالتهجير القسرى والإبادة، وبدأوا فى نشر صور الاعتداءات التى يقوم بها جيش الاحتلال على الفلسطينيين؛ حيث تخطى عدد المتفاعلين مع الهاشتاج 146 مليون متفاعل حول العالم، والذى واجهه الموقع بتقييد التفاعل معه وحجبه عن مواقع قياس الرأى العام.

شواهد التحيز السياسى فى موقع التواصل الاجتماعى:

تزامنا مع قصف قطاع غزة، تواجه مواقع التواصل الاجتماعى، وفى مقدمتها فيس بوك، اتهامات بالتحيز وزيف المعايير، ما يفضى إلى ممارسة تضييق حرية الرأى والتعبير لمصلحة إسرائيل. وقد وصلت هذه الاتهامات إلى مستوى إغلاق حسابات تم تخصيصها لنشر الصور ومقاطع الفيديو التى توثق الوضع اليومى الصعب الذى يعيشه الشعب الفلسطينى. والجدير بالذكر أن التحيز السياسى المتجسد فى إخفاء المحتوى الرقمى الفلسطينى ليس ظاهرة جديدة على موقع فيس بوك. قبل نحو عام، أطلق ناشطون داعمون للقضية الفلسطينية هاشتاج"#فيسبوك_عنصرى" للتنديد بإغلاق الموقع لعدة حسابات تابعة لناشطين وصحفيين فلسطينيين، بالإضافة إلى حذف منشورات تدين جرائم الاحتلال ضد الشعب الفلسطينى. وحسب تصريح لوزيرة العدل الإسرائيلية السابقة "إيليت شاكيد" أن شركات التكنولوجيا العملاقة، تويتر وجوجل، ومعها فيس بوك استجابت لطلبات إسرائيلية لحذف المحتوى المناهض للدولة؛ حيث امتثلت هذه الشركات لنحو 95% من طلبات إسرائيل لحذف المحتوى المتعلق بالأحداث الفلسطينية. كما جاء فى تقرير منشور عبر  موقع "بزفيد Buzzfeed" أن عناوين الأخبار  المرتبطة بالفلسطينيين كانت تظهر عبر الفيس بوك مقترنة بتحذيرات التفجير لخلق انطباع لدى الرأى العام أنهم مصدر الإرهاب والعنف بالمنطقة، فيما ذكرت صحيفة فايننشال تايمز أن 50 موظفا من موظفى فيس بوك أبدوا قلقهم بسبب الإخفاء المتعمد للمحتوى المؤيد للفلسطينيين. جاء ذلك فى وقت متزامن مع إعلان موقع التواصل الاجتماعى "انستجرام" تغيير خوارزمياته بعد اتهامه بالتحيز ضد الفلسطينيين فى عرضه محتوى العنف فى غزة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل حيث اختفى حساب @eye.on.palestineعلى "انستجرام" الداعم للقضية الفلسطينية، الذى يمتلك أكثر من 6 ملايين متابع بشكل مفاجئ قبل عدة أيام، ما أثار استياء كبيرا بين جمهوره من المتابعين الذى عدوه دليلا صريحا على الرقابة المعادية للفلسطينيين. وهذا ما أكده موقع سكاى نيوز الإخبارى أن شركة (ميتا) المالكة لفيس بوك حذفت ما يقرب من 795 ألف منشور خلال الأيام الأولى للحرب فى غزة، فيما حذف (تيك توك) 500 ألف مقطع فيديو، وأغلق 8 آلاف بث مباشر مرتبط بالاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطينى.

ختاما، يمكن القول: إن مواقع التواصل الاجتماعى، وخاصة تلك التى تمتلكها شركة ميتا، أصبحت أداة لا يستهان بها فى توجيه الرأى العام، وتشكيل وجهات النظر، وتوجيه الانتباه نحو قضايا معينة، وأن التحيز السياسى الملحوظ الذى تنتهجه هذه المواقع فى تقديم الأخبار حول أحداث غزة أصبح مثيرا للقلق، ما استوجب الإشارة إليه والتنديد به؛ حيث إن معظم الشواهد المقدمة تُشير إلى أن هناك توجيها واضحا للرأى العام بما يخدم الجانب الإسرائيلى، وهو أمر يتناقض مع السياسات الدولية المتعلقة بحيادية وسائل الإعلام الرقمية وشفافيتها. لذا؛ على المستخدمين أن يكونوا واعين لتأثيرات هذا التحيز، وأن ينتقوا مصادر المعلومات، ويُفضل أن تكون متنوعة وليس مصدرا واحدا.كما يتعين على مجتمعاتنا العربية إقامة حوار مفتوح حول هذه القضية (التحيز السياسى فى وسائل الإعلام الرقمية) فإذا كانت وسائل التواصل الاجتماعى تمتلك القدرة على تشكيل الرأى العام، فإن تحقيق التوازن والعدالة فى تقديم المعلومات أمر أساسى لتحقيق التناغم السياسى والثقافى بين المجتمعات.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. عمـرو حسـن فتـوح

    د. عمـرو حسـن فتـوح

    أستاذ مساعد تكنولوجيا المعلومات، ومدير وحدة المكتبة الرقمية والانتحال العلمى بجامعة الوادى الجديد