تحليلات

استدعاء مقاربة أوسلو فى مصير غزة عقب الحرب

طباعة

تخطت الحرب الإسرائيلية على غزة ما يقرب الشهر؛ حيث تواصل إسرائيل عمليات القصف على جميع أنحاء القطاع، دون أى اعتبارات لأى جهود دولية أو إقليمية، أو حتى مراعاة لأى قيم إنسانية أو مدنيين عُزل، ومن ثم تظل المناقشات حول وقف إطلاق النيران وعقد الهدنة الإنسانية بعيدة عن التنفيذى الفعلى لا سيما مع تعنت رئيس الوزراء الإسرائيلى وإصراره على المضى فى عمليات الاجتياح البرى لغزة، لدوافع عدة أبرزها، إبادة حماس والقضاء على الأنفاق، والأهم تحرير الرهائن، أيضا موقف الولايات المتحدة ومحاولتها المناورة أمام المجتمع الدولى، فبينما تطالب من أجل هدنة إنسانية، تتعمد التركيز على حق إسرائيل فى عدم القبول بوقف إطلاق النيران، أيضا فى الدفاع عن نفسها وحسبما ترى، وهو ما يفهم فى سياق إزالة كل المعوقات أمام إسرائيل، من أجل مخالفة جميع المواثيق الدولية وما يراعى المدنيين وحقوقهم إبان الحروب، لا سيما جنيف وبنودها.

غير أن تصريحات نتنياهو بشأن تولى إسرائيل عملية إدارة القطاع عقب الحرب، وهو ما قوبل بمعارضة واشنطن، فلأول مرة تقوض الولايات المتحدة ومنذ اندلاع الشرارة فى السابع من أكتوبر قرارا لتل أبيب، كونها ترى فى هذه الإدارة احتلالا واضحا للقطاع، عقب انسحاب إسرائيل منه 2005 وبموجب اتفاقية أوسلو 1993، استدعت استحضار مقاربة 1995 وبنودها.

استدعاء مقاربة أوسلو:

بعد تمهيد استمر قرابة السنوات الثلاث وقعت اتفاقية أوسلو عام 1993، بين إسرائيل وفلسطين برعاية أمريكية، ومن ثم جرى الاعتراف لأول مرة بدولة إسرائيل. فى المقابل أُقيمت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1994، وجرت وقائع اتفاقية ثانية عام 1995، ومنه تولت إدارة شئون الفلسطينيين بالأراضى المحتلة، فى المقابل عنيت إسرائيل بالسيطرة على الحكم المركزى عبر الإمساك بالمصالح الاستراتيجية والموارد كافة، إضافة إلى معظم الإيرادات من قطاعات الضرائب والصادرات، اتسمت الاتفاقية أيضا بعدة بنود مثلت مرتكزات لدى الجانبين، أبرزها:

- الهدف من هذه الاتفاقية: وتمثل فى السلام الشرق أوسطى إلى جانب تشكيل سلطة فلسطينية ذاتية، أيضا مجلس منتخب للفلسطينيين بالضفة وغزة، وعبر مرحلة انتقالية لا تتجاوز السنوات الخمس.

-  إجراء انتخابات سياسية بالضفة وغزة، حتى يتمكن الفلسطينيون من السيادة وحكم أنفسهم وفى ظل إشراف دولى.

- الانتخابات خطوة أولية تجاه الاعتراف بالحقوق الشرعية والمطالب العادلة للشعب الفلسطينى.

- الضفة الغربية وغزة وحدة جغرافية واحدة تخضع للسلطة الفلسطينية، باستثناء قضايا بعينها سيتم التفاوض فيها.

-  يتم البدء فى السنوات الخمس الانتقالية حال انسحاب إسرائيل من قطاع غزة ومنطقة أريحا.

-  مراعاة القضايا الأخرى والمتعلقة بالمستوطنات والقدس والترتيبات الأمنية والعلاقات والتعاون.

-  نقل مهام الصحة والتعليم وغيرهما من مجالات الثقافة والشئون الاجتماعية إلى ممثلى الفلسطينيين،وهكذا تضمن ميثاق أوسلو تنظيم الأوضاع عامة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، أيضا شئون الأمن العام وانتشار القوات الإسرائيلية وتنظيم العلاقات مع مصر والأردن.

 وفيما كان الفلسطينيون يتطلعون إلى إقامة دولتهم مستقلة على حدود 1967، تمكنت إسرائيل من صياغة نظام فيدرالى، إن جاز التعبير، أتاح لها السلطة المركزية على الأراضى الفلسطينية، بينما تركت إلى ممثلى الشعب الفلسطينى صلاحيات متواضعة، بل بموجبها تخلصت إسرائيل من أعباء عسكرية ومالية، مع حصر عدة من المكاسب فى مقدمتها الاعتراف العربى بها، وفك عزلتها عن الاقتصاد العربى.

وهو ما لا يُفهم بمعزل عما كتبهدوف فايسجلاس، المستشار السابق لرئيس الوزراء الإسرائيلى آرييل شارون "اليوم، ونتيجةً لاتفاقيات أوسلو، أصبحت السلطة الفلسطينية، وليس إسرائيل، مسئولة عن الحياة اليومية لنحو 3.5 مليون فلسطينى فى الضفة الغربية وقطاع غزة، واستطرد قائلا: أخبرنى فلسطينى مرةً أن صفقة أوسلو كانت "ترتيبا إسرائيليا ذكيا"، سألته: كيف ذلك؟ فأجاب: "لقد أنشأَت أول سجن فى العالم يتعيّن فيه على السجناء إعالة أنفسهم من دون أن تسهم الإدارة العليا فى ذلك".

تصورات مرحلية:

ثمة عدة تصورات مرحلية من الممكن صياغتها حول مستقبل غزة المتوقع، يفترض أن تجرى صياغتها، على نحو يتماشى وبنود أوسلو، أو على الأقل لا يقوض الاتفاقية التاريخية، التى جرى بموجبها الاعتراف المتبادل بين الجانبين، لكن ما زالت إسرائيل تقوض أى مقاربة من شأنها إتاحة استقلال فلسطين وسيادتها على شعبها وأراضيها.

السيناريو الأول: استمرار عمليات القصف والهجمات المتبادلة بين حماس وإسرائيل، ومن ثم تنجح الضغوط الدولية على إسرائيل فى وقف إطلاق النيران، ومن ثم تعيد حماس ترتيب أوضاعها، بما ينعكس سلبا على إسرائيل وقواتها، وقد تكون النهاية أشبه بنهايات حروب غزة الخمس السابقة، وعليه تظل حماس الحاكم للقطاع.

السيناريو الثانى: تمكن إسرائيل من تحجيم حماس، وربما القضاء الجزئى عليها، وإزاحتها عن الحكم تماما، وهنا إما أن تتولى السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس إدارة شئون القطاع، وهو ما لن يلاقى القبول من قبل الفلسطينيين، أو أن تتجه إسرائيل إلى انتقاء مدنيين لحكم غزة، وهو ما سيحوز على عدم قبول أكبر من قبل سكان القطاع.

غير أن السيناريو الثالث تم طرحه من قبل تصريحات نتنياهو حول تبنى إسرائيل حكم غزة، ومن ثم سُلطت الأضواء مرة أخرى على تقويض جديد لأبسط مكاسب فلسطين من أوسلو، وربما المكسب الوحيد، وهو انسحاب إسرائيل من القطاع الفعلى 2005، ولعل رئيس الوزراء الإسرائيلى أراد تطبيق ما يحدث حيث منطقة ج بالضفة الغربية، من جراء التعاون المشترك فى نظام الحكم بين سلطة فلسطين وإسرائيل، وهو ما لن يُقبل به أيضا من قبل غزة أو الأوساط العربية.

السيناريو الرابع طرحه وزير الخارجية الأمريكى بلينكن، عبر تأكيده عدم قدرة إسرائيل على إدارة قطاع غزة، مشددا على ضرورة ألا تعاود إسرائيل احتلال قطاع غزة بعد نهاية الحرب التى تخوضها حاليا ضد حماس. فى المقابل أيضا أكد وجوب عدم استمرارية حماس فى إدارة القطاع عقب انتهاء الحرب، لكنه تصور ضرورة وجود فترة انتقالية، كما وضع بعض البنود المهمة خلالها منها، عدم تهجير الفلسطينيين، وعدم استخدام غزة كمنصة للإرهاب، والأهم عدم إعادة احتلال غزة، مشيرا إلى حتمية تبنى السلطة الفلسطينية دورا فى القطاع.

 

تحرك عربى مُلح:

 

فى ضوء البحث عن تصور جديد من قبل كل الأوساط الإقليمية والدولية، لأجل كيفية إدارة القطاع وسكانه، والذين تتجاوز أعدادهم ما يقرب من 2,2 مليون نسمة، لا بد من التحرك العربى بشأن صياغة مقاربة تقتضى حكم القطاع، وبما يسمح من حفظ ما تبقى من الأراضى الفلسطينية، أيضا يبقى على الهوية العربية الفلسطينية وثوابتها، والأهم يضمن رعاية القطاع، وإجراء آليات الإعمار للبنى التحتية لغزة، والأهم أن يرافق الدعم العربى أى سلطة من المقرر أن تحكم القطاع وقبل أى دعم دولى أو إقليمى، ولعل قمة الرياض المقرر عقدها عقب أيام، من شأنها التخديم على قمة القاهرة التى عقدت بمجرد اندلاع الشرارة وعقب أيام، وجميعها تأتى للوقوف على فك حصار غزة وترتيب أوضاعها.

ختاما، يمكن القول: إن الفلسطينيين يعيشون تقويضا جديا لأوسلو بشكل أو بآخر، حتى فيما نصت عليه أوسلو وما تعلق بالحكم المشترك بين الجانبين، عُدَّ تقويضا أيضا لفلسطين وحقوقها، وهو ما يفهم فى سياق أن الاتفاقية التاريخية قُبل بها فقط لإنقاذ ما تبقى من المقدرات الفلسطينية، وتحقيق أقصى استفادة ممكنة للفلسطينيين، ومنه تراجعت مطالب الفلسطينيين من الحق فى إقامة دولتهم وقتها، إلى مجرد هدنة إنسانية يلتقطون فيها أنفاسهم هذه الأيام، حتى وقف إطلاق النيران لم يعد بمقدور المجتمع الدولى، لا سيما بعد أن فشلت الولايات المتحدة فى تحجيم نتنياهو، متعللة بأن قرار إيقاف الحرب ليس قرارها، فلم تعط إشارات للبدء، أيضا ليس بوسعها تحديد نقطة التوقف، فى تغييب تام للمجتمعين الدولى والإقليمى عن دعمها لإسرائيل على كل المستويات؛ وأهمها ، عسكرية ولوجستية، وأيضا مخابراتية وتقنية.

طباعة

    تعريف الكاتب

    إيرينى سعيد

    إيرينى سعيد

    صحفية وكاتبة مصرية - ماجستير العلوم السياسية