من المجلة - ملف خاص: 50 عامًا على انتصار أكتوبر 73

المشهد الثقافى والفنى بعد نكسة 1967

طباعة

يستدعى الحديث عن حرب الخامس من يونيو 1967 أو ما سُمى النكسة، إلى النفس الإحساس بالمرارة والغضب نتيجة لما حدث فى تلك الأيام الحالكة السواد فى تاريخ العسكرية المصرية بوجه خاص، وتاريخ مصر بوجه عام. فقد أدى العدوان الصهيونى على مصر وسوريا والأردن، فى الخامس من يونيو 1967، إلى تدمير الغالبية من القوات الجوية والبحرية والبرية للدول العربية الثلاث، واحتلال كل من  سيناء و الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان، فضلا عن الانهيار المعنوى الذى خلفته الحرب على المستويين المصرى والعربى(1).
وبالرغم من كل التحديات التى واجهت مصر والعالم العربى عقب ذلك، فإن النجاح الكبير الذى أحرزته مصر فى حرب أكتوبر 1973 ما كان سيتحقق لو لم تلتفت القيادة السياسية/العسكرية إلى الضرورة الكبرى وهى إعداد الشعب نفسه لمجابهة مختلف التحديات والخسائر، وهو ما يُعرف بـ «إعداد الجبهة الداخلية». فقد كانت الهزيمة كبيرة، أو بحسب قول الرئيس الراحل جمال عبدالناصر «أكبر مما نستحق»، كما كان النصر الذى حققته إسرائيل أكبر مما تستحق، بل وأكبر من حجمها. إن الذى قام به الشعب المصرى من مجابهة للهزيمة بجسارة نادرة وجهد كبير أسفر عن ترتيب هائل لأوضاع كل من الجبهة الداخلية والجبهة العسكرية والبيئة الإقليمية والدولية. فقد جسد إرادة حقيقية لشعب عظيم تحمل برضا وثبات ودون تبرم إلا بعض من فصيل واحد من المعارضين عدَّ الهزيمة نجاحًا لأفكارهم التى تقع فى أقصى اليمين أو فى أقصى اليسار.ففى التاسع من يونيو 1967، خرج الزعيم جمال عبدالناصر ليعترف أمام الشعب بالهزيمة، وأننا «واجهنا نكسة خطيرة فى الأيام الأخيرة»، وأنه يتحمل المسئولية كاملة عنها، وأنه قرر التنحى عن منصب رئيس الجمهورية لينضم الى صفوف المواطنين. حينها، انتفضت جموع المصريين برجالها ونسائها وشيوخها وشبابها وأطفالها، وهى تصرخ بكلمة واحدة «حنحارب.. حنحارب بالملايين طالعين مش راجعين.. حنحارب»(2).

أولا- السياسات الثقافية بعد النكسة:

فى محاولة إعادة التخطيط السياسى والثقافى لملاءمة ظروف الدولة المصرية بعد الهزيمة، ولإزالة آثار العدوان واختزال مرحلة التحول الاشتركى، قال الرئيس جمال عبدالناصر: «يجب أن نستمر فى تثقيف وتعبئة الشباب سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا ضد الوجود الصهيونى فى الشرق الأوسط، وألا تقتصر هذه التعبئة على المدن، بل يجب أن تشمل بنفس القوة أو أكثر الريف والقرى، فالمعركة قائمة ومستمرة لإزالة العدوان وإعادة البناء»(3). انعكست مجريات الأمور بعد النكسة على تشكيل الوزارة المصرية، ومن ثم وزراء الثقافة، فيقرر جمال عبدالناصر فى 19 يونيو تشكيل وزارة برئاسته، أى بعد 11 يوما فقط من النكسة، ويستمر فيها الدكتور ثروت عكاشة وزيرًا للثقافة ويحتل المركز السادس فى ترتيب الأقدمية بعد وزراء: العمل، والتخطيط، والاستصلاح الزراعى، والنقل، والإسكان والمرافق، وقد سبقهم أربعة نواب لرئيس مجلس الوزراء، هم: زكريا محيى الدين، وحسين الشافعى، وعلى صبرى، ومحمد صدقى سليمان. استمرت هذه الوزارة حتى 20 مارس 1968؛ لتتشكل بعدها الوزارة العاشرة، وقد رأس أيضا هذه الوزارة الرئيس جمال عبدالناصر، واستمرت حتى 28 سبتمبر 1970، ومعه نائب وحيد هو حسين الشافعى، تولى فى الوقت نفسه منصب وزير الأوقاف، واحتل د. ثروت عكاشة الترتيب الخامس فيها، متقدمًا مركزا عن التغيير الوزارى السابق، وجاءت أقدميته فى هذه الوزارة بعد وزراء: الكهرباء، والعمل، والصناعة، والإدارة المحلية. وبعد رحيل جمال عبدالناصر، أصدر الرئيس أنور السادات قرارًا بتشكيل وزارة جديدة فى 20 أكتوبر 1970، استمرت أقل من شهر برئاسة د. محمود فوزى، واستمر فيها ثروت عكاشة وزيرًا للثقافة. ثم شُكِّلت فى 18 نوفمبر 1970، وزارة محمود فوزى الثانية، وعُيِّن فيها بدر الدين أبو غازى وزيرًا للثقافة، وبعد ما يقرب من ستة أشهر، تم تشكيل وزارى جديد ليخرج منه بدر الدين أبو غازى ويُعَّين إسماعيل غانم، ويظهر فى التشكيل اسم د. عبدالقادر حاتم لأول مرة بوصفه نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للإعلام. وبعد مرور أربعة أشهر من التشكيل، تتشكل الوزارة الرابعة لمحمود فوزى فى 19 سبتمبر 1971 وتستمر ما يقرب من أربعة أشهر وتشهد توسيع سلطات عبدالقادر حاتم لتنضم لأول مرة وزارة الثقافة إلى وزارة الإعلام ويُعين نائبًا لرئيس الوزراء، واستمر الأمر هكذا فى وزارة عزيز صدقى التى تشكلت فى 17 يناير 1972. وفى 26 مارس 1973، يشكل الرئيس أنور السادات وزارة برئاسته، وهى التى يُطلق عليها وزارة السادات الأولى، واستمرت حتى انتهاء حرب أكتوبر المجيدة فى 25 أبريل 1974، وظل فيها عبد القادر حاتم النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، وفى الوقت نفسه وزيرًا للثقافة والإعلام(4).  شهدت تلك الوزارات منذ عام 1967 وحتى نصر أكتوبر 1973 فترة من أصعب الفترات فى تاريخ مصر بوجه عام، وحملت على عاتقها إصلاح وبناء الجبهة الداخلية للبلاد ورفع الروح المعنوية للشعب المصرى. كما شهدت الحياة الثقافية والإبداعية أحداثا مهمة وتطورا ملحوظا أثَّر بشكل قوى فى مجريات الأمور لدى المصريين وإعادة بناء الجيش المصرى وتسليح الشعب بإرادة قوية تسعى لتحقيق النصر. على مستوى المؤسسات ونخبة اتخاذ القرار، أراد ثروت عكاشة وزير الثقافة، عقب هزيمة 67، أن تلعب الثقافة دورا مهما وبارزا فى إزالة آثار العدوان وبناء الجبهة الداخلية. ففى 19 يونيو 1967، عقد ثروت عكاشة اجتماعات متتالية مع كبار المثقفين والمسئولين لبحث سبل إزالة آثار العدوان على المستوى الثقافى. فنُشرت كتب مبسطة وسريعة للتعريف بأبعاد المعركة وحقيقتها  ووُزعت  على فرق المقاومة، كما أطلقت مؤسسة فنون المسرح والموسيقى ما عُرف بالمسرح فى المعركة وتم تقديم عروض مسرحية وشعرية(5). وطالب عكاشة الثقافة الجماهيرية بضرورة الاهتمام بنوع وعمق التوعية الثقافية فى مدن القناة، لتتناسب مع المعركة القائمة(6). وحرص عكاشة فى 29 يونيو 1967، أى بعد أيام من النكسة، على استمرار العمل والحث على الاستمرارية فى الإنتاج، فعمل على إصدار تنظيم جديد لمجلات وزارة الثقافة، وشكلت لكل مجلة هيئة تحريرية متخصصة تكون مسئولة عن إدارتها، حيث كانت هناك مجلة المسرح التى تتضمن دراسات كاملة عن الديكور والمسرح الغنائى والموسيقى، ومجلة «المجلة» التى تتضمن موضوعات ثقافية معنية بالدراسات الأدبية والأكاديمية، ومجلة الفكر المعاصر المختصة بالفكر الفلسفى والاقتصادى والعلمى، ومجلة الكتاب العربى التى تقدم خلاصة وافية عن القراءة والتأليف، ثم مجلة الفنون الشعبية التى تصدر كل ثلاثة أشهر متضمنة بحوثا أكاديمية عن الفنون الشعبية(7). أقام المعهد العالى للموسيقى، فى 21 يوليو 1967، معرضا خُصصت إيراداته للمجهود الحربى، وكانت معظم المعروضات من إنتاج أساتذة المعهد وأسر الطلبة(8). واستكملت خطط الدولة لترميم الآثار فى مناطق القاهرة والجيزة ومناطق مصر الوسطى والعليا وكشف ما بها من آثار وإضافة المساحات الخالية منها إلى الرقعة الزراعية والامتداد العمرانى(9).

ثانيا- الأغنية الوطنية بعد النكسة:

كانت الكلمة المغناة قادرة على لملمة الجراح فى زمن الضياع، والانتصار على آلام الهزيمة فى وقت الانكسار، وتجاوز مخلفات النكسة. فكانت الأغانى الوطنية التى ظهرت عقب هزيمة 1967 بمنزلة قنابل بعيدة المدى، حولت الهزيمة إلى انتصار، أصاب إسرائيل بضربات موجعة وجعلها تعترف أمام العالم بالهزيمة وقوة الجيش المصرى. جاءت نكسة 67، فأصبحت الأغانى الوطنية وقتئذ أكذوبة كبيرة فى نظر  الشعب المصرى،  فجاء عبدالرحمن الأبنودي وكتب «عدى النهار» ليكسر بها حاجز الخوف واليأس فى نفوس المصريين والجنود على الجبهة. ولعل أشهر أغنية بقيت فى الذاكرة من أغانى التنحى هى أغنية أم كلثوم «حبيب الشعب» من كلمات صالح جودت وألحان رياض السنباطى، وتم تسجيلها فى 12 يونيو 1976 وتقول كلماتها: «قم وإسمعها من أعماقى فأنا الشعب / ابق فأنت السد الواقى لمنى الشعب / ابق فأنت الأمل الباقى لغد الشعب / أنت الخير وأنت النور/ أنت الصبر على المقدور / أنت الناصر والمنصور/ ابق فأنت حبيب الشعب.. دُم للشعب»، وتضمنت الأغنية اعترافا بالنكسة كما وصفها ناصر فى قول أم كلثوم: «قم واتبعنا بعد النكسة وارفع هامة هذا الشعب»(10). كانت أم كلثوم فى مقدمة الداعمين للمجهود الحربى، فتبرعت بإيراد عشر حـفـلات له، ولــم تتصل بــأى صـحـيـفـة لـتـنـشـر هــذا الخبـر، ولكنه أذيــع فـى قائمة الـتـبـرعـات. كما تبرعت أيضا بعـشـريـن ألــف جنيه استرلينى إلــى خـزانـة الدولة وغيرها من التبرعات التى تبرعت بها. واختار الأبنودى الموسيقار بليغ حمدى، ليضع لحنا لــ «عدى النهار» يواكب الظروف القاسية التى كانت تعيشها البلاد. وبعدما انتهى بليغ من وضع اللحن المناسب للأغنية، رفضت الإذاعة تسجليها، خوفا من رد فعل الشارع والجنود على الأغنية. ولكن مع إصرار الثلاثى وحكمة الإذاعى وجدى الحكيم، تم تسجيلها، ونجحت فى استعادة الشعب للاستماع للأغنية الوطنية من جديد وبثت الروح القتالية للجنود على الجبهة. وتقول كلماتها «عدّى النهار والمغربية جايّة، تتخفّى ورا ضهر الشجر، وعشان نتوه فى السكة، شالِت من ليالينا القمر، وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها، جانا نهار مقدرش يدفع مهرها، يا هل ترى الليل الحزين، أبو النجوم الدبلانين، أبو الغناوى المجروحين، يقدر ينسيها الصباح، أبو شمس بترش الحنين، أبدا بلدنا للنهار بتحب موال النهار». وفى عام 1968، كان الجيش المصري بحاجة إلى بث الروح فيه من جديد بعد نكسة 67، واتفق عبد الحليم حافظ مع الشاعر أحمد شفيق كامل والملحن كمال الطويل على تنفيذ أغنية «خلى السلاح صاحى»، ونجحت الأغنية وكان مفعولها كالسحر الذى أذاب روح الهزيمة وحولها إلى نصر كبير. ظلت الأغنية يرددها الشارع والجنود حتى تمت مفاوضات السلام المصرية-الإسرائيلية، وتقول كلماتها «خلى السلاح صاحى صاحى، لو نامت الدنيا صاحى مع سلاحى، سلاحى ف ايديه نهار وليل صاحى، ينادى يا ثوار عدونا غدار».  «مدد مدد مدد مدد».. كتبها الشاعر إبراهيم رضوان ولحنها وغناها الفنان الكبير محمد نوح، وأصبحت الأغنية النشيد الرسمى لكل الشهداء، كما غنتها أيضا فرقة «أولاد الأرض» فى الخنادق وعلى خط النار، من أجل شد أزر الجنود خلال معارك الاستنزاف. تعد هذه الأغنية إحدى الأيقونات الغنائية فى أوقات المحن، وتتردد فى كثير من المناسبات حتى يومنا هذا، وتقول كلماتها «مدد مدد مدد مدد، شدى حيلك يا بلد، إن كان فى أرضك مات شهيد، فيه ألف غيره بيتولَد، بُكره الوليد جاى من بعيد، راكب خيول فجره الجديد، يا بلدنا قومى واحضنيه، ده معاه بشاير ألف عيد، قومى انطقى وسيبك بقا، من نومه جوا فى شرنقة، ده النصر محتاج للجَلَد، ومدد مدد مدد مدد». «ابنك يقولك يا بطل..» كان عبدالرحمن الأبنودى يريد كتابة أغنية خاصة للجنود المصريين لتحفزهم على الانتصار، فطلب من الملحن كمال الطويل تلحين أغنية «ابنك يقولك يا بطل». وبعد تنفيذ اللحن، أسندت الأغنية إلى عبدالحليم حافظ. وبعد تسجيلها وإذاعتها، استقبلها الجنود على الجبهة بسعادة بالغة وبدأت تبث فى نفوسهم روح الانتصار والعزيمة القوية. وتقول كلماتها «ابنك يقولك يا بطل هاتلى نهار، ابنك يقولك يا بطل هاتلى انتصار، ابنك يقول أنا حواليا الميت مليون العربية، ولا فى مكان للأمريكان بين الديار». كتب الشاعر عبدالرحمن الأبنودى أغنية «أحلف بسماها وبترابها»، ولحنها الموسيقار كمال الطويل وقدمها عبدالحليم حافظ ليؤكد أن الشمس لن تغيب عن مصر والأمة العربية. فبرغم نكسة 1967، فالنصر قادم، كما حرص العندليب فى تلك الفترة فى بداية كل حفلاته على ترديد هذه الأغنية، وتقول كلمات الأغنية «أحلف بسمــاها وبترابها، أحـلف بدروبها وأبوابها». وكذلك غنى عبدالحليم أغنية «المسيح» من كلمات الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى ولحنها الموسيقار بليغ حمدى ووزع موسيقاها على إسماعيل. وفى أثناء وجود العندليب فى إحدى الحفلات فى قاعة ألبرت هول فى مدينة لندن، وصلته تهديدات بعدم غناء تلك الأغنية، لكنه لم يبد اهتماما وقدمها أمام أكثر من ثمانية  آلاف متفرج، وتبرع وقتها بأجره لمصلحة المجهود الحربى. تقول كلمات الأغنية «يا كلمتى لفى ولفى الدنيا طولها وعرضها، وفتحى عيون البشر للى حصل على أرضها، على أرضها طبع المسيح قدمه، على أرضها نزف المسيح ألمه، فى القدس فى طريق الآلام، وفى الخليل رنت تراتيل الكنايس»(11).

ثالثا- النكسة فى الأعمال المسرحية والروائية:

أما عن حركة المسرح والرواية والشعر عقب هزيمة 1967 وحتى فتح أبواب نصر أكتوبر 1973، فقد كان لنكسة ٦٧ عظیم الأثر على كتّاب هذه المرحلة فنجدهم جمیعا یربطهم هَم واحد، هو الهزیمة التى جسدها كل منهم فى أعماله بطریقة رمزیة أو حتى مباشرة كما أثرت فى الاتجاه الفنى لبعض الكتاب. فنجد بعض رواد المسرح كألفرید فرج یلجأ للمسرح التسجیلى لیعرف الشعب بعدوه. كما كتب محفوظ رواية «حب تحت المطر» عام 1973، ويذكر فى هذه الرواية «لم يعد الوطن أرضا وحدودا جغرافية ولكنه وطن الفكر والروح»، وجسد نجيب محفوظ المعاناة والظروف الإنسانية التى عاشها الناس فى تلك الفترة(12). أما الشاعر صلاح جاهين، فقد سطر عشرات الأغانى، وكتب عقب تأثره بهزيمة 5 يونيو 1967 «على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء.. أنا مصر عندى أحب وأجمل الأشياء.. بحبها وهى مالكة الأرض شرق وغرب.. وبحبها وهى مرمية جريحة حرب.. بحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء.. وأكرهها وألعن أبوها بعشق زى الداء.. وأسيبها وأطفش فى درب وتبقى هى فى درب.. وتلتفت تلاقينى جنبها فى الكرب».  لكن بعد أن غنت أم كلثوم أغنيته راجعين بقوة السلاح، عشية النكسة، أصابه الاكتئاب، وهذه النكسة كانت الملهم الفعلى لأهم أعماله «الرباعيات»، التى قدمت أطروحات سياسية تحاول كشف الخلل فى مسيرة ثورة 1952، والتى يراها الكثيرون أقوى ما أنتجه فنان معاصر. وقد كانت وفاة الرئيس عبدالناصر السبب الرئيسى لحالة الحزن والاكتئاب التى أصابته(13). وبصدد الأيديولوجية الفكرية لبعض الكتَّاب والشعراء الذين اختلفت وجهات نظرهم تجاه أسباب هزيمة 1967 وعبروا عن مرارتها فى كتاباتهم الشعرية وأعمالهم، كان الشاعر أحمد فؤاد نجم الذى اعتقل نتيجة كلماته الشعرية التى تهاجم النظام وقتذاك بين عامى 1967وحتى وفاة الزعيم عبدالناصر. إلا أن نجم يقول إن هزيمة 67 صنعت منه شاعرا، بل إنه أشاد بعبدالناصر بعد وفاته بسنوات فى إحدى قصائده. ففى قصيدة «زيارة إلى ضريح ناصر» رفع نجم عبدالناصر إلى مصاف القديسين وأنهاها قائلا «إن كان جرح قلبنا.. كل الجروح طابت» كما يقول نجم «كان ناصر رجلا شريفا، وزعيما وطنيا حقيقيا»(14). فى مجال السينما، يذكر الفنان فؤاد المهندس فى مذكراته أن الرئيس جمال عبدالناصر أمر بالعمل على خروج الشعب من الصدمة، وأن  يتوازن المصريون بسرعة، ولم يجد عبدالناصر أفضل وأهم من  الضحك والفكاهة للخروج من حالة الحزن العام.  «شنبو فى المصيدة» كان أحد أهم المسلسلات الإذاعية بعد الهزيمة، ثم أصبح أحد أشهر الأفلام الكوميدية فى تاريخنا. وكما سجل فؤاد المهندس  فى مذكراته، فإن المسلسل ظهر للنور بناء على اقتراح من الرئيس جمال عبدالناصر نفسه. أنتجت السينما المصرية عام النكسة 33 فيلما، تنوعت بين استعراضى، وغنائى، وحركة، ورومانسى، واجتماعى، وسياسى لتمثل تنويعة قَّلما توجد فى أعوام سابقة أو لاحقة لعام النكسة. اللافت أن 15 عملا منها أخذت عن أعمال أدبية لكبار الكتاب والأدباء، مثل توفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وإحسان عبدالقدوس، ويوسف السباعى، ويوسف إدريس، وعبدالحميد جودة السحار،  ومحمد التابعى، وعبدالله الطوخى، وأحمد رشدى صالح، وإبراهيم البعثى، وعبدالمنصف محمود، وفوزية مهران. مع اقتراب نهاية عام 1972، عرض فيلم «أغنية على الممر» بطولة محمود مرسى، ومحمود ياسين، وصلاح السعدنى، وصلاح قابيل، وأحمد مرعى، وهو الفيلم المصرى الذى رصد بأمانة وصدق هزيمة يونيو من خلال مجموعة من الجنود المحاصرين فى الجبهة، كاشفا عن الجانب الإنسانى من حياتهم، كما سجلت انفعالاتهم المختلطة والمتباينة حول الموت والحياة والنصر، ويعد أبرز الأفلام التى تحدثت عن الجنود المصريين وحالهم(15).  وقد تضافرت عوامل وضغوط داخلية شهدها عام 1972 دفعت الرئيس محمد أنور السادات إلى اتخاذ قرار الحرب، كان من أهمها إتمام الاستعدادات العسكرية، وقلق الجبهة الداخلية، وثقل المناخ النفسى للحالة التى كانت تعرف بـ(اللاحرب واللاسلم) التى أدت إلى حدوث اضطرابات فى أوساط الطلبة والعمال، حيث استقبل خطاب السادات فى 13 ديسمبر 1972 بمظاهرات طلابية غاضبة، ما دفعه إلى اتخاذ خطوات سريعة نحو الحرب(16). بدأت الحرب بعد الساعة الثانية من يوم 6 أكتوبر 1973. وفى أقل من 6 ساعات، تمكنت خمس فرق مشاة مصرية من اقتحام قناة السويس بقوة 80 ألف جندى. وبحلول صباح الأحد 7 أكتوبر 1973، كانت القوات المصرية قد اجتازت خط بارليف وتحقق النصر(17).

ختامـــًا:

لعب المشهد الثقافى والأدبى والفنى دورًا مهما عقب هزيمة 1967 على مستوى الأفراد والمؤسسات، مؤثرا فى البيئة المجتمعية للمصريين ومتأثرا بأسباب الهزيمة وكيفية المعالجة من أجل استرداد ما سلب. لم تقف الثقافة عند الحدود الفنية والأدبية، بل امتدت إلى تغيير المفاهيم الأيديولوجية للفكر السائد عند النخبة قبل وبعد حرب 67.  ولا شك فى أن مصر واجهت خلال ست سنوات منذ حرب 1967، مرورا بحرب الاستنزاف، وصولا إلى حرب أكتوبر 1973 ظروفا فى غاية الصعوبة سياسيا وعسكريا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا حتى تستطيع بناء الجبهتين الداخلية والخارجية، ورفع الروح المعنوية أملا فى النصر، حتى قامت حرب أكتوبر وتحقق النصر المجيد. 


-

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. انتصار محمد

    د. انتصار محمد

    كاتبــــة وباحثــــة