تحليلات

الذكاء الاصطناعى وسوق العمل بين الاستغناء والتعزيز

طباعة

لا يتوقف الحديث عن سيطرة الذكاء الاصطناعى على البشر، على عقولهم وتوجهاتهم وأفكارهم وأسلوب حياتهم وصولا إلى وظائفهم وأعمالهم أيضا، هذا الحديث يذكرنا بما طالعناه من قبل عن مخاوف البشر فى بدايات الثورة الصناعية من سيطرة الآلة وإحلالها محل البشر، تلك الإشكالية التى تناولها النجم الأمريكى تشارلى شابن فى فيلمه"العصور الحديثة"Modern Times  عام 1936.وعلى الرغم من مرور 90 عاما على صدور هذا الفيلم فإن تلك المخاوف تتجدد كلما حدثت طفرة تقنية فىمجال من المجالات، نتذكر ذلك فى ستينيات القرن الماضى وما بعده إبان بدء عصر المعلومات، وانتشار أجهزة الحاسب وشبكات نقل البيانات، وصولا إلى شبكة الإنترنت وما تحتويه من تطبيقات متطورة. لا أنكر أن هذا قد أثر فى بعض الوظائف، ولكن لم يكن التأثير ولا المخاوف مثلما هى حاضرة اليوم مع انتشار تطبيقات الذكاء الاصطناعى واحتكاك أغلب البشر بها وخاصة بعد إطلاق شركةOpenAIلتطبيق معالجة اللغات الشهير ChatGPTفى نوفمبر الماضى، وما تلاه من تطورات وانتشار لتطبيقات أخرى تعالج الصوت والصورة الثابتة والمتحركة على حد سواء.

المخاوف كثيرة ومتعددة منها الخوف على مستقبل سلامة وقوة الإنسان الذهنية وقدرته على التفكير والتحليل والمقارنة والتذكر واتخاذ القرار وخلافه، كما تشمل التخوفات أيضا ما هو مرتبط بالوعى والهوية والعادات والتقاليد والأخلاقيات وكيفية الحفاظ عليها فى ظل تطبيقات يتحدث إليها الطفل والكبير ويستشيرها فى كل شىء تاركا نصيحة الأب، والمعلم، والصديق، وخبرات المفكرين، والحكماء الذين تركوا الكثير للبشرية فى شكل مطبوعات او حتى صور رقمية منها.

ولأن تلك الأنظمة ماهرة بالفعل وتتطور مهارتها وكفاءتها يوما بعد يوم فإنها مرشحة بقوة لإزاحة نسبة ليست بالقليلة من القوى البشرية الموجودة فى سوق العمل حاليا، فإذا كان الأمر مرتبطا بالتعليم والتحصيل فالروبوت قادر على القيام بهذه الوظيفة بكفاءة ودقة تعتمدان على ما يوجد لدى هذا النظام من بيانات مهولة مخزنة، وكذا أيضا قدرة البرمجيات المرتبطة بها على الغوص فى تلك البيانات بالبحث والتحليل والمقارنة والصياغة ما يهدد وظائف كثيرة كالمعلم، والصحفى، والمذيع، وأرباب الأسر أيضا.

لن يتوقف الأمر عند هذا الحد، فلدينا حاليا تطبيقات تستطيع الاطلاع على نتائج التحاليل الطبية، وتستطيع تشخيص المرض وكتابة العلاجات اللازمة، منها ما يمكنه المشاركة فى إجراء عملية جراحية، وقد نجد فى المستقبل جراحا آليا بالكامل قادرا على إجراء عملية جراحية دون الاستعانة بأى عنصر بشرى مشارك، أمر مشابه قد يحدث للمحامى، والمبرمج، والمهندس، والمحاسب، وباقى الأعمال الإدارية والمكتبية المختلفة، مثل المحلل المالى وموظفى الدعم الفنى وغيرهما، تشمل المخاوف أيضا المجالات الإبداعية مثل الكتابة والتأليف الموسيقى وباقى أنواع الفنون التشكيلية أيضا.

الذكاء الاصطناعى... إلى أين؟

مع كل تطور فى أنظمة الذكاء الاصطناعى تتصاعد التقديرات عن أعداد العاملين الذين سيفقدون وظائفهم فى المستقبل حين يتم استبدالها بهم، فأرباب الأعمال لا يعنيهم كثيرا أى اعتبارات إلا اعتبارات الجودة والكفاءة والدقة والسرعة والتكلفة، وهى الاعتبارات التى يتم على أساسها الاستغناء عن موظف أو توظيف آخر، فماذا عن تطبيق تلك الاعتبارات على أنظمة الذكاء الاصطناعى؟

لنأخذ مثالا على دخول تكنولوجيا المعلومات والاتصالات فى إحدى الوظائف كمثال على هذا الأمر، وهى وظيفة الدعم الفنى من خلال الهاتف، تلك الوظيفة التى تستخدم بكثرة فى التواصل مع العملاء فى العديد من المجالات، فالمتابع لهذه الوظيفة يجد أن خدمات الدعم الفنى والمرتبطة بتلقى شكاوى أو طلبات العملاء قد تطورت كثيرا خلال السنوات الماضية، فالبداية كانت بتوافر خطوط تليفونية عادية يستطيع طالب الخدمة أو مقدم الشكوى من خلالها الاتصال بأحد موظفى خدمة العملاء الذى تم تدريبه جيدا على مثل هذا النوع من المكالمات ليقوم بمحاولة حل المشكلة أو تلقى الشكوى وإعادة صياغتها، حل المشكلات البسيطة هو إحدى المهام الرئيسية للدعم الفنى، فعلى سبيل المثال فى حالة وجود مشكلة فى حساب بنكى أو خدمة أو منتج، يقوم الموظف بإتباع عدد من الخطوات المحددة سلفا لمحاولة حل المشكلة للعميل وذلك قبل أن يطالبه بالانتقال إلى البنك أو الشركة، وذلك فى حالة المشكلات العويصة.

تطور الأمر بعد ذلك، فأصبح المتصل يدخل فى عدد من القوائم الجاهزة من خلال الضغط على الرقم المقابل لكل قائمة في ما يعرف بنظام الـInteractive Voice Recognition أو اختصاراIVR ؛ حيث يتم التعامل بصورة أوتوماتيكية بين العميل وبين المنظومة، وفى حالة عدم قدرة النظام على الوصول إلى نتيجة مرضية يمكن للعميل طلب التحدث إلى أحد موظفى خدمة العملاء.

هذا التطور أدى إلى تقلص عدد موظفى خدمة العملاء من البشر كثيرا، وهنا تشير الدراسات إلى أن نسبة المشكلات التى يمكن أنيتم حلها باستخدام هذا النظام تتراوح بين 60% إلى 80% فى حالة المشكلات البسيطة ونسبة 20% إلى 40% فى حالة المشكلات المعقدة.

أما اليوم فإنه وبعد دخول أنظمة الذكاء الاصطناعى على الخط، فإن الأمر قد اختلف كثيرا، فبدلا من استخدام النمط القديم المعتمد على الـ  IVRوالعنصر البشرى معا، يمكن فى الكثير من الحالات-وليس كلها- الاستعاضة عن هذا بنظام للذكاء الاصطناعى الذى يعمل بصورة أوتوماتيكية تماما، ويستطيع حل الكثير من المشكلات وتلبية الكثير من الطلبات أيضا، وفى هذا الصدد قامت مؤسسة جارتنرGartner بعمل دراسة اتضح منها أن تكلفة الـAgent  الواحد من أنظمة الذكاء الاصطناعى تتراوح بين ألف إلى ألف وخمسمائة دولار، مع قدر بسيط من المصاريف الجارية مقارنة بحالة أن يكون الـAgent من البشر؛ حيث تترواح بين 20 ألفا إلى 30 ألف دولار سنويا، هذا بالإضافة إلى المحددات العادية المرتبطة بعمالة البشر، مثل الإجازات وساعات الراحة وخلافه وهى التى لا نجدها تقريبا فى حالة استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعى بدلا منه، بالطبع هذا الاستبدال لن يكون فى كل الحالات فحتى الآن يفضل الكثير التحدث إلى إنسان وليس إلى نظام للذكاء الاصطناعى، وفى الوقت نفسه لن تستطيع أنظمة الذكاء الاصطناعى حل المشكلات المعقدة، هذا بالإضافة إلى القصور فى استخدامها فى بعض اللغات الأخرى، مقارنة باللغة الإنجليزية، ولكن هذا يجب ألا يجعلنا ننظر إلى مستقبل تلك الصناعة كما كنا قبل طغيان وانتشار أنظمة الذكاء الاصطناعى مثلما هو الحال اليوم.

المثال السابق يدل -على بساطته- يشير إلى أين يتجه مستقبل الوظائف، وهذا المثال نستطيع أن نطبقه على عدد كبير من الوظائف الإدارية البسيطة كالسكرتارية أو موظفى حجز الخدمات مثلا، ولذلك نجد التقديرات تصل إلى عشرات الملايين حول العالم من البشر الذين من المتوقع أن يتم استبدال تلك الأنظمة المتطورة بهم.

بالطبع، فإن نسب الاستبدال تختلف من دولة لأخرى بناء على درجة اعتمادها على أنظمة الذكاء الاصطناعى وتطورها فى هذا المجال على المستويين التقنى والتشريعى، ولكنها حتى بالنسبة للمجتمعات الأقل اعتمادا على تلك التقنيات فإن نسب البطالة فيها قد ترتفع نتيجة استغناء الدول الأكثر تطورا عن أعداد كبيرة من البشر القادمين من الدول الأقل تطورا الذين كان يتم الاستعانة بهم فى مثل هذا النوع من الوظائف البسيطة.

بين الاستغناء والتعزيز:

فى هذا الصدد أصدرت منظمة العمل الدولية يوم 21 أغسطس الجاري تقريرا مهما بعنوان"الذكاء الاصطناعى التوليدى والوظائف: تحليل عالمى للتأثيرات المحتملة على كمية الوظائف ونوعيتها "Generative AI and Jobs: A global analysis of potential effects on job quantity and quality"

التقرير يقسم القضية إلى قسمين رئيسيين:

· القسم الأول: إحلال الذكاء الاصطناعى محل البشر نهائيا.

·القسم الثانى: تعزيز الذكاء الاصطناعى للوظائف التى يمتهنها البشر.

التقرير يتحدث لأول مرة بصورة موضوعية متزنة عن إمكانية استخدام تلك التقنيات لتعزيز كفاءة الوظائف الحالية، وهو منظور أراه الأكثر منطقية وخاصة فى حالة الوظائف المعقدة فى مقابل الإحلال التام للبشر الذي من المتوقع أن تكون نسبته أكبر فى الوظائف البسيطة التى لا تحتاج إلى الكثير من المهارات أو القدرات العقلية لأدائها.

على سبيل المثال، يشير التقرير إلى أن الوظائف المتوقع فقدانها ستكون نحو75 مليون وظيفة على مستوى العالم، منها 27مليون وظيفة يقوم بها الذكور فى مقابل 48 مليون وظيفة تقوم بها الإناث. وعلى الجانب الآخر فإنه من المتوقع أن يكون مساعدا ومعززا للعمل فى 427 مليون وظيفة، منها 246 مليون وظيفة يقوم بها الذكور، فى مقابل 181 مليون وظيفة تقوم بها الإناث.

الخلاصة:

التقرير به العديد من الإحصاءات المهمة ولكنه يخلص إلى ما يلى:

· من المرجح أن يكون للذكاء الاصطناعى التوليدى تأثير كبير فى سوق العمل، لكن تلك التأثيرات ستختلف بحسب البلد ونوع الوظيفة.

· فى البلدان ذات الدخل المرتفع، من المرجح أن يعمل الذكاء الاصطناعى التوليدى على ميكنة الوظائف الكتابية، وبعض أنواع العمل المعرفى البسيط؛ حيث يتم الاستغناء عن العاملين فى تلك المجالات.

· فى البلدان ذات الدخل المنخفض، من المرجح أن يكون تأثير الذكاء الاصطناعى التوليدى محدودا، وذلك لأسباب مرتبطة بارتفاع تكلفة تلك الأنظمة واحتياجها إلى بنية تكنولوجية قوية ومستقرة.

· للذكاء الاصطناعى جانب إيجابى فى مجال وظائف المستقبل تلك المرتبطة بتطوير الأنظمة وعلوم تحليلالبيانات.

·  مواثيق وتشريعات تطوير واستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعى أصبحت مطلبا عالميا، ومن الضرورى أن يبدأ الجميع فى إصدار تلك التشريعات.

*للاطلاع على التقرير الكامل:

https://www.ilo.org/wcmsp5/groups/public/---dgreports/---

inst/documents/publication/wcms_890761.pdf

طباعة

    تعريف الكاتب

    م. زياد عبد التواب

    م. زياد عبد التواب

    خبير التحول الرقمي وأمن المعلومات، الرئيس السابق لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار برئاسة مجلس الوزراء