دراسات

ماذا لو توقف القتال المسلح فى السودان؟.. السيناريوهات المحتملة

طباعة

بات أقصى طموحات الشعب السوادنى داخل الحدود الوطنية وخارجها هو وقف إطلاق النار بين طرفى القتال المسلح - القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع- المندلع منذ قرابة مئة يوم؛ حيث انطلقت شرارته الأولى فى الخامس عشر من أبريل عام 2023، ولكن؛ ماذا لو توقف القتال المسلح فى السودان؟

تنطوى هذه الدراسة على مناقشة فرضية مدى إمكانية توقف القتال المسلح فى السودان، معتمدة فى ذلك على طرح العديد من التساؤلات الجوهرية عن مدى جاهزية القوى السياسية والمدنية والعمالية والثورية فى المشاركة فى اكتمال البناء الوطنى للسودان، وتفهمها لتطور التركيبة السياسية الداخلية فى جميع ولايات السودان عبر الفترات الزمنية التى مرت بها الحياة السياسية فى السودان منذ الاستقلال وحتى أحداث الإطاحة بالرئيس عمر البشير عام 2019، وذلك من أجل العبور بهذا المشهد المعقد إلى مرحلة أكثر هدوءا واستقرارا، يمكن خلالها أن يجلس طرفا القتال على طاولة الحوار من جديد؟ وإن أمكن ذلك؛ فمتى تجمعهما طاولة دون أن تضمر الأنفس أمرا ما؟ وأين يمكن عقد هذا اللقاء؟ وإن استمر القتال؛ فلماذا يجب أن يتوقف؟ وأخيرا؛ كيف يمكن تفادى انزلاق القتال إلى صراع العرقيات أو الحرب الأهلية؟

تعتمد الدراسة فى مقاربتها للموضوع على السيناريوهات المختلفة المشروطة للأزمة السودانية؛ حيث يتم رصد وتحليل شروط ومتطلبات تحقق كل سيناريو مع تحديد السيناريو/ السيناريوهات الأكثر احتمالا.

أولا- نظرة فلسفية للأزمة السودانية:

أ- الانتقال من السلم إلى الحرب:

منذ الحرب العالمية الثانية شهد العالم ما يقرب من 250 نزاعا مسلحا دوليا وداخليا، وبلغ عدد ضحايا هذه النزاعات أو الصراعات أو الحروب 170 مليون شخص، وهو ما يعادل نزاعا كل 5 أشهر، تنتج عنه خسائر فى الأرواح والممتلكات والمعدات[1].

ارتبط مفهوم الحرب كمصطلح عسكرى بمفهوم آخر لصيق به؛ وهو السلم؛ إذ إن المفهومين لديهما تأثير كبير فى بناء وتأسيس الآخر، فلا سلم إلا بعد الحرب، ولا حرب إلا بعد سلم، وهذا ينطبق تماما على الوضع فى السودان، تلك الفترات التى انتقلت فيها الدولة من السلم إلى الحرب والعكس صحيح منذ عقود عدة.

ولقد استطرد العديد من الفلاسفة والمفكرين منذ العصور القديمة والوسطى والحديثة فى الوقوف على تعريف لمفهوم هذه الحالة التى ينتقل فيها الإنسان من حالة السلم إلى الحرب، وأيضا ماهية شروط الخروج من الحرب والدخول فى حالة السلم، وقدموا العديد من الرؤى والنظريات والاجتهادات الفلسفية، وخاض الفلاسفة اليونانيون قديما جدلا واسعا حول إذا ما كانت الحرب تبدأ دون مقدمات، وبين الحالة الوسيطة بين الحرب والسلم، وأضاف إليها الفيلسوف السويسرى جان جاك روسو، وآخرون؛ منهم الفيلسوف الإنجليزى توماس هوبز، والفيلسوف الألمانى إيمانويل كانط، وجهات نظر عدة، انتهت إلى خلق جدل جديد بين مفكرين العصر الحديث حول ما إذا كانت الحرب من الطبيعة البشرية أم هى وليدة تأثير المجتمع؟

ب- مفهوم الحرب:

تتفق معظم تعريفات مصطلح الحرب على أنها:"القتال المسلح بين دولتين أو مجموعتين أو أكثر"، ويعد هذا هو التعريف الأكثر دقة وإيضاحا وإيجازا بحسب ما ورد فى قاموس كامبريدج لتعريف الحرب، خاصة أن علماء علم الاجتماع والعلوم السياسية ذهبوا بتعريفهم للحرب إلى اقتران الأعمال العدائية بدوافع اجتماعية أو سياسية أو عسكرية تنعكس على شكل القتال المسلح، ويؤيدهم فى ذلك الكُتاب العسكريون فى تعريفهم للقتال المسلح، فلديهم تصنيفات لمصطلح الأعمال العدائية تعتمد على نوع الجماعات المتنافسة ومدى تساويها فى القوة.

ثانيًا- ماذا يحدث فى السودان؟

وقد يكون السؤال المناسب الآن:ما نوع القتال المسلح فى السودان؟ وتكمن الإجابة عن هذا السؤال فى معرفة طرفى القتال، وبعدها نستطيع أن نحدد مفهوما صحيحا لما يحدث فى السودان.

اندلعت أعمال العنف المسلح بين قوات الجيش تحت قيادة رئيس المجلس السيادى السودانى الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو الملقب بـ"حميدتى"، فى الساعات الأولى من صباح السبت 15 أبريل 2023، الموافق للرابع والعشرين من شهر رمضان المعظم عام 1444 هجريا.

وأشارت الأحداث السابقة لتاريخ اشتباكات الجيش والدعم السريع، إلى أن السودان منذ أكثر من 17 شهرا كان يشهد فراغا سياسيا فى ظل عدم وجود حكومة تنفيذية، وتولت حكومة مكلفة مؤقتا تسير شئون الدولة  إلى أن يتم الانتقال السياسى للسلطة المدنية بإدارة البلاد، ولكنها واجهت صعوبات شديدة، فمنذ أكثر من عام ونصف العام، يعانى السودان اضطرابات كبيرة فى ظل عدم وجود حكومة تنفيذية، بعد رحيل حكومة عبد الله حمدوك على خلفية الإجراءات التى اتخذها الجيش فى 25 أكتوبر 2021.

ورغم ذلك؛ وصل السودان فى 5 ديسمبر 2022 إلى إبرام الاتفاق الإطارى لبدء الانتقال السياسى لمدة عامين، وتحدد 1 أبريل 2023 موعد توقيع الاتفاق السياسى النهائى، ونشأت خلافات عسكرية أجلت توقيع اتفاق نقل السلطة، وفى 6 إبريل 2023  قامت قوى الحرية والتغيير بتأجيل التوقيع على الاتفاق النهائى.

وفى 15 أبريل اشتبكت قوات الجيش مع قوات الدعم السريع اشتباكات عنيفة بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وهنا أضحت الصورة واضحة عما يحدث فى السودان، ومن هم أطراف القتال، فالطرف الأول الجيش السودانى، والطرف الثانى قوات الدعم السريع.

أ- أسباب الاشتباكات المسلحة:

ظهرت أسباب الخلاف بين الجيش السودانى وقوات الدعم السريع، فى أنباء تناولتها المواقع الأخبارية الدولية خلال الساعات الأولى من اندلاع أعمال العنف المسلح بين الطرفين، وحملت هذه الأنباء روايتين عن طرفى القتال حول أسباب الاشتباكات، الأولى: من جانب الجيش السودانى الذى اتهم قوات الدعم السريع بالغدر والخيانة، ومحاولة الهجوم على قواته المتمركزة فى المدينة الرياضية ومواقع أخرى، وأنه تصدى لهذا الهجوم.والثانية: من جانب قوات الدعم السريع التى اتهمت الجيش بدخول مقر وجود قواتها صباح 15 أبريل فى أرض معسكرات سوبا بالخرطوم، ما عرضها لهجوم كاسح بكل أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة.

وتعد مسألة دمج قوات الدعم السريع فى القوات المسلحة أحد أبرز مسببات الصراع بين الجيش والدعم السريع إلى جانب قضايا سياسية أخرى، من بينها رفض الدعم السريع الاندماج فى الجيش والتخلى عن المشاركة فى الحياة السياسية وتقاسم السلطة.

ب- أوجه الخلاف بين "الجيش" و"الدعم السريع":

الخلاف بين "الجيش" و"الدعم السريع" يخلص إلى:أن "الجيش" يريد دمج قوات الدعم السريع وفقا لآليات ومواقيت وشروط دمجهما فى قوات مسلحة موحدة، وإخضاع ضباط "الدعم السريع" للشروط المنصوص عليها فى الكلية الحربية، ووقف التعاقدات الخارجية والتجنيد والابتعاد عن العمل السياسى.

فيما يشترط "الدعم السريع" هيكلة القوات المسلحة قبل الدمج، وتجريم الانقلابات العسكرية وفرض الرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية عبر البرلمان، ومراجعة وتطوير العقيدة العسكرية وتنقية القوات المسلحة وقوات الدعم السريع من عناصر النظام السابق وأصحاب الأيديولوجيات. ومن هنا خلقت الاختلافات بين "الجيش" و"الدعم السريع" انقسامات؛ زادت اتساعها اختلافات أخرى، أحدثت انشقاقا تاما بين الطرفين ما جعل فكرة دمجهما أمرا شبه مستحيل فى الوقت الراهن.

ج- نوع القتال المسلح فى السودان:

ويتبين أن القتال بين قوات الجيش السودانى وقوات الدعم السريع يسير على نهج "حرب الاستنزاف"، ذلك القتال المسلح الذى يخوضه الطرفان على مدى فترة زمنية طويلة ولا تنتهى إلا بافتقار أحد الطرفين للجنود والمعدات أو العزم على مواصلة القتال[2]، ربما هذا ما سوف يئول إليه المشهد السودانى المعقد الآن، وهو ما يحذر منه الخبراء والمحللون، فيما يخشى أكثرهم تفاؤلا من أن المواجهات فى السودان قد تتحول إلى حرب عرقية وأهلية مع طول أمد القتال المسلح.

وما يجب الوقوف أمامه الآن، هو كيف وصلت قوات الدعم السريع إلى ما هى عليه فى الوقت الراهن من سلطة ونفوذ وقوى وعتاد؟ ما أتاح لها السيطرة على بعض التمركزات الخاصة بالقوات المسلحة السودانية، وباتت قوى تنافس الجيش السودانى فى السيطرة على دولة الشمال.

ثالثا- تاريخ نشأة "الدعم السريع".. "الجنجويد":

انضم إلى صفوف الجيش السودانى عام 2007 عدد من الجماعات المسلحة لدعمه فى الحرب ضد المتمردين فى جنوب السودان، و كان من بينها جماعة "الجنجويد"، آنذاك؛ بلغ عدد سكان "الجنجويد" 10 آلاف نسمة، وعدد المقاتلين 1600 مقاتل، ومثلت نسبة المقاتلين 0.5% من قوام الجيش السودانى آنذاك، بحسب ما جاء فى تقرير مشروع  التقييم الإساسى للأمن الإنسانى البشرى (HSBA) بعنوان"عسكرة السودان: مراجعة أولية لتدفق الأسلحة وحيازتها" فى أبريل 2007، (وهو مشروع يشرف عليه برنامج"رصد الأسلحة الصغيرة" الذى يمثل مشروعَ بحثٍ مستقلا تابعا لمعهد الدراسات العليا للدراسات الدولية بجنيف) المطور بالتعاون مع وزارة الشئون الخارجية الكندية وبعثة الأمم المتحدة فى السودان (UNIMIS) وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية(UNDP).

وقد استعان الرئيس عمر البشير بجماعة الجنجويد فى دعم الجيش السودانى فى الحرب ضد التمرد فى إقليم دارفور، في الصراع القائم حول الحدود آنذاك منذ عام 2003، وتسببت ممارسات "البشير" لتعرض السودان لعقوبة حظر نقل الأسلحة إلى دارفور، ورغم ذلك أصر "البشير" على تزويد الجنجويد بالسلاح والذخيرة، فضلا عن الدعم المتبادل مع المتمردين التشاديين فى الحرب على الجماعات المتمردة فى درافور.

واستخدم مصطلح الجنجويد تاريخيا فى دارفور للإشارة إلى الرجال المسلحين أو قطاع الطرق أو الخارجين على القانون. وبدأ يطلق المصطلح منذ أزمة عام 2003 على ميليشيا قبائل العرب الرحالة التى تدعمها الخرطوم، وجذبت الميليشيا عددا كبيرا من مجموعة الأبالة زريقات. ودعمت"الجنجويد" الجيش السودانى فى سحق التمرد فى منطقة دارفور الغربية، وكان الجيش السودانى يشن الهجوم بالطائرات، فيما يستخدم "الجنجويد" الأسلحة الثقيلة فى الهجوم على الأرض.

وبحسب الأمم المتحدة، قُتل ما يقدر بنحو 300 ألف شخص فى الصراع بين عامى 2003 و2008، ونزح 2.5 مليون إنسان. ووجهت المحكمة الجنائية الدولية اتهاما للرئيس البشير بالإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية عام 2009.

وأراد "البشير" أن يكافئ "الجنجويد" على دعمهم له، فقرر إضفاء مظهر مؤسسى رسمى للجماعة عام 2013، بمنحهم مهام رسمية بنشر أعضائها ضمن قوات حرس الحدود، تحت مسمى قوات الدعم السريع. وتحول "حميدتى" من زعيم لـ"الجنجويد" لرئيس الدعم السريع، ثم انقلب على "البشير" وساعد على الإطاحة به خلال انتفاضة شعبية عام 2019. وعام 2021، قام "حميدتى" وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان، بانقلاب آخر وتقاسما السلطة، ومع تنامى نفوذ "حميدتى" وتطلعاته لقيادة البلاد، أصبح الجنرالان عدوين. وضغط الجيش لدمج قوات الدعم السريع فى صفوفه، لكن المجموعة شبه العسكرية قاومت[3].

ويقدر الخبراء والمسئولون الغربيون أن عدد قوات الدعم السريع يتراوح بين 70 و 150 ألف مقاتل فى الوقت الراهن. من بين أعضائها ضباط سابقون فى الجيش والمخابرات، وفقا لرولاند مارشال، عالم الاجتماع فى جامعة ساينس بو فى باريس وخبير فى الحروب الأهلية فى إفريقيا.

رابعا- بداية خوار الدولة:

لقد انطوت عملية إحلال السلام الشامل بين الشماليين والجنوبيين- فى التاسع من يوليو عام 2011- فى الممارسة الفعلية على إدارة الصراعات العديدة التى ضربت السودان، لا على حسمها، كما لم تثبت أنها فاعلة على نحو كبير فيما يخص الأهداف المبتغاة من انفصال الشمال عن الجنوب، وخلقت عملية السلام دولة جنوبية ضعيفة غير ذات فاعلية تذكر فى يد حزب حاكم تابع للمجتمع الدولى، كما ظلت دولة الشمال على ما كانت عليه عند بداية المشهد قبل الانفصال: دولة خائرة خسرت جنوب البلاد، ونظرا لعدم قدرتها على فرض هيمنتها على قطاعات عدة بالشمال، فقد أضحت تحت سيطرة حزب المؤتمر الوطنى وصارت مهيأة لتحقيق مصالحه[4].

ويعد أبرز أسباب هشاشة وخوار دولة شمال السودان بعد الانفصال هو أن عملية السلام الشامل وما شابها من عوار فى الاستفتاء لم تحسم أيا من قضايا ما بعد الاستفتاء بما فيها قضايا الحدود، والاتفاقات، وقضايا المواطنة، وعائدات النفط، ومصير كل من النيل الأزرق وجنوب كردفان. لذا، كان من الصعب أن تشهد دولتا الشمال والجنوب أى تحول ديمقراطى يذكر بعد الانفصال فى ظل تصارعهما فى موجات من الحروب والجرائم مع غياب أمنى وتراجع اقتصادى، ما أثر بشكل كبير فى دولة الشمال التى لم تستطع بعد الانفصال من تحقيق أى نمو يذكر، حتى على المستوى السياسى من حيث تأسيس ولايات قوية وفاعلة[5]

خامسا- تاريخ سياسى مضطرب:

ومنذ حقبة ما بعد الاستقلال عن الاحتلال الإنجليزى، لم يشهد السودان سلمية الحراك السياسى، فهو ذو تاريخ سياسى مضطرب، فمنذ تولى الرئيس جعفر النميرى السلطة كأول رئيس عسكرى منتخب للجمهورية فى عام 1969، والاضطرابات لاحقته، بعد إعلان حكم السودان بالشريعة الإسلامية، ما خلق مشاعر الاستياء والخوف لدى السكان غير المسلمين وخصوصا فى الجنوب، كما أصدر قرارا بإلغاء مجلس النواب المنتخب فى الجنوب، وقسم المنطقة إلى ثلاثة أقاليم منفصلة[6].

وبحلول عام 1983 كانت البلاد تنزلق من جديد إلى أتون الحرب والأنماط القديمة من الصراعات، وكان الصراع بين الشمال والجنوب يتحرك تصاعديا، وعام 1985 تفاقمت حدة عدم الاستقرار فى الشمال، بعد الإطاحة بالنميرى، ودخل السودان فترة من الحكم المدنى وانقلاب عسكرى آخر عام 1993، أوصل تحالفا من القادة العسكريين والإسلاميين إلى السلطة برئاسة عمر البشير.

ومع بداية حكم الرئيس عمر البشير زادت وتيرة الصراعات فى السودان شمالا وجنوبا، وعجزت الحكومات على السيطرة وفرض وجودها ونظامها الجديد، ولاقت حكومات البشير تحديات فى بناء دولة جديدة، إلا أن النظام السياسى كان باليا؛ يهيمن العجائز على الحكومة والمعارضة والجيش على حد سواء[7].

سادسا- دور الأحزاب السياسية فى الصراع:

أ- تاريخ الأنظمة الديمقراطية والعسكرية فى السودان

تعاقب على حكم السودان منذ الاستقلال ثلاثة أنظمة ديمقراطية(56- 58- 65- 86 ) وثلاثة أنظمة عسكرية (عبود: 58-64، نميرى: 69-85، البشير: 89- 2019) وذهبت الأنظمة الديمقراطية بسبب ضعف التكوين الحزبى وتكالب قادة الأحزاب على كراسى الحكم وهشاشة الدولة من مجتمع ينزلق سريعا بالحرية إلى دائرة الفوضى والاضطراب[8].

ورغم التعدد الحزبى الذى من المفترض أن يثرى الحياة السياسية فى السودان؛ فإنه كان مصدرا لإشعال الصراع بين القوى السياسية المشكلة على أساس طائفى وقبلى وجغرافى وسياسى، كما أن هشاشة وضعف البنية التحتية والمؤسسات الاقتصادية والسياسية فى السودان أدت دورا كبيرا فى ظاهرة التبدل والتغيير المفاجئة التى تعانيها توجهات الدولة السياسية[9].

وتعد الأحزاب السياسية ضمن إحدى فعاليات تأجيج الصراع فى الساحة السياسية فى السودان، وذلك بواسطة قواعدها الشعبية والشبابية وفروعها بولايات السودان الأخرى خاصة فى شرق السودان وغربه، وهى حزب الأمة والحزب الاتحادى الديمقراطى والحزب الشيوعى والبعث، وكان الاهتمام بـ"الأمة" و"الاتحادى الديمقراطى" و"الحركة الإسلامية"[10]، خاصة أنها الأحزاب التى قامت على أسس عقائدية، وخلطت بين الدين والسياسية بشكل لم يسمح بقبول الاختلاف السياسى واعتبار الرأى الآخر إعلانا بازدراء المعتقدات الدينية.

ومن هنا يجدر بنا أن نقول إن الحروب قد تنشب داخل المجتمع نفسه إذا ما انبثقت منه مجموعات معادية بعضها بعضا، ويطلق على تلك الحروب تسمية "أهلية" مثل (إسبانيا 1937-1939)، أو "إثنية" (البوسنة أو رواندا، تسعينيات القرن العشرين)، أو "حرب طبقية" (المكسيك، 1911-1917) أو "دينية" ( فرنسا، خلال القرن السابع عشر). أو "المواطنون" الذين يتعايشون مع بعضهم بعضا منذ القدم يخرقون معاهدة الوحدة باستخدام متغيرات مادية وروحية فى الوقت عينه، هادفين بذلك خلق توازن جديد فى المجتمع، وإعادة توزيع للسلطات والثروات عن طريق استخدام العنف[11].

ب- طبيعة الحراك السياسى وتوجهاته

بعد انفصال الشمال عن الجنوب، كانت لهذا الانفصال آثار شديدة الخطورة بدرجة عصت على حكومة شمال السودان التعامل معها، ما جعلها تذهب للتفاوض مع الأحزاب السياسية الرئيسة فى محاولة لاحتواء الآثار المترتبة على الانفصال. آنذاك؛ كانت حكومة الشمال لا توفر صلاحيات حقيقية للأحزاب السياسية، بل إن التحرك الحكومى إزاء الأحزاب كان "ديكوريا"، وأسهم فى تآكل مصداقية الحكومة والأحزاب معا، كونه لا يفضى إلى تغيير فى المعادلة السياسية الداخلية ولا إلى أى نوع من التداول على السلطة، ولا خفض مستوى التهديدات الناجمة من تمرد الأقاليم على الدولة[12]، وبطبيعة الحال جميعها عوامل تسهم فى تفاقم معاناة المواطن السودانى فى كل الولايات، ما فجر أزمة حقيقية نتيجة انسداد الأفق السياسى فى السودان.

ويتضح مما سبق ذكره أن فرضية توقف القتال المسلح فى السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، أمر يتطلب بذل الكثير من الجهود الوطنية والإقليمية والدولية، واستعدادات داخلية يقع عبء القيام بها على القوى السياسية والمدنية والأحزاب التى انفرطت وحدتها بين الانقسامات والانشقاقات والتشرذم القائم على الطائفة والقبلية والتوزيع الجغرافى والانتماء السياسى.

الأمر الذى يضع السودان أمام عدد من السيناريوهات المتوقعة و/أو المحتمل حدوثها بنسبة ليست ضعيفة، وذلك نظرا لما تفرضة معطيات الوضع الراهن بين طرفى القتال المسلح فى السودان.

سابعا- سيناريوهات متأزمة وتداعيات كارثية:

تفرض سرعة وتيرة القتال المسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع فى السودان مؤشرات سلبية عن مدى قابلية الطرفين لقبول الدعوات بوقف إطلاق النار المؤقت، والجلوس من أجل التفاوض على اتفاقية سلام تنهى هذا الصراع المتعدد الأبعاد، فى ظل دعوات الفاعلين الإقليميين الرئيسيين،  إلى السلام؛ إذ لا يرغبون فى وجود صراع إقليمى يشكل عبئا آخر على الإقليم. كما أدان الشركاء الدوليون، مثل الاتحاد الأوروبى والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، العنف ودعوا إلى استئناف المحادثات، لكنهم يفتقرون إلى القوة اللازمة لفرض واتخاذ إجراء قسرى.

فيما تؤكد جميع التقارير الاستراتيجية والأمنية الإقليمة والدولية لمراكز الأبحاث والمنظمات الإنسانية الدولية إلى أن الوضع فى الخرطوم وأم درمان ومدن أخرى فى أرجاء البلاد لا يزال متقلبا ويتطور بسرعة، نتيجة للتكافؤ النسبى بين قدرات القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، فى عدد الأفراد والمعدات، ما يزيد من خطر نشوب صراع أهلى طويل الأمد يهدد مساعى التحول إلى الحكم المدنى، ويفاقم معاناة الشعب السودانى على كل الأصعدة.

أ- السيناريو الأول.. وقف إطلاق النار وعقد اتفاق سلام نهائى:

يعتمد هذا السيناريو على مدى قوة الفاعلين الرئيسيين والإقليمين والدوليين فى الضغط على طرفى الصراع أو أحدهما بوقف إطلاق النار ولو بشكل متقطع أو دورى، إلى أن يتم إيقاف القتال لفترة زمنية يمكن خلالها إحداث شىء من الهدوء النسبى والاستقرار المؤقت يتيح للوسطاء بمشاركة القوى السياسية والمدنية الفاعلة فى المشهد السودانى من خلق تقارب فى بين طرفى الصراع من أجل عقد اتفاق سلام بينهما، يحد من العنف والتنحار بين القوتين.

مع الأخذ فى الحسبان ضرورة مشاركة المعارضة ومؤججى الانقسامات داخل الجيش السودانى أولئك الذين شكلوا قيودا على الهدنات المؤقتة التى دعت لها مبادرات السلام ودعوات وقف إطلاق النار على مدى مئة يوم سابقة منذ اندلاع القتال المسلح فى الخامس من إبريل 2023، والضغط عليهم بأنه لا نصر فى هذه المعركة نظرا للتكافؤ النسبى بين الجيش وقوات الدعم السريع.

1- قيود تحيق وقف إطلاق النار واتفاق السلام

دعا الفاعلون الإقليميون والدوليون إلى وقف إطلاق النار وعقد اتفاق سلام نهائى لإنهاء الصراع ومنع تفاقمه إلى صراع إقليمى أو انزلاقه إلى حرب أهلية تفتح على فوضى لا نهاية ليها فى السودان، ورغم عدم التوافق فى الآراء والاختلاف فى مناهج مبادرات السلام وأهدافها الخاصة، فإن جميعها يرمى إلى التحذير من إطالة أمد الصراع الذى يفاقم الأزمة الإنسانية على الشعب السودانى.

- فى البداية دعت محادثات وقف إطلاق النار الأمريكية والسعودية منذ الأسبوع الثانى من الصراع، إلى مفاوضات وقف إطلاق النار فى جدة، وعلى الرغم من المحاولات المتعددة، فإنه لم يتحقق وقف إطلاق النار بعد.

- كما دعت مبادرة مجموعة الإيجاد فى يونيو 2023، إلى تعيين لجنة رباعية مؤلفة من قادة كينيا، وإثيوبيا، وجنوب السودان، وجيبوتى، برئاسة الرئيس الكينى وليم روتو لمتابعة وقف إطلاق النار، ووصول المساعدات الإنسانية، والحوار السياسى، بهدف إعادة انتقال السودان إلى الديمقراطية.

ومع انعقاد اللجنة الرباعية يوم الاثنين 10 يوليو 2023، فى أديس أبابا بإثيوبيا، اتخذت خطوات من شأنها تدويل الأزمة السودانية وتكوين قوة تدخل داخل الخرطوم، لحماية المدنيين، بالتعاون مع الولايات المتحدة والسعودية لترتيب لقاء مع قادة القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، بهدف تأمين الوقف المستدام لإطلاق النار، مع الاتفاق على استكمال الانتقال السياسى للسلطة بحلول أغسطس 2023.

ولاقت دعوة مجموعة الإيجاد رفضا من "البرهان" مبررًا بظهور تحيز نحو "الدعم السريع" من قبل الرئيس الكينى، ودعم رفض "البرهان" قادة الأحزاب المدنية، وعزز شكوكهم حضور "حميدتى" اجتماع قمة أديس أبابا رغم امتناع الجيش السودانى عن المشاركة.

- مع استمرار تصاعد الصراع، يصبح دور الجهات الفاعلة الخارجية بارزا بشكل متزايد، مع سعى دول مختلفة لتحقيق مصالحها الخاصة والتنافس على النفوذ فى المنطقة. ويمكن التذكير بأن مشاركة القوى الإقليمية الكبرى لها أهمية خاصة فى الملف السودانى. فمصر، على سبيل المثال، لها مصالح استراتيجية بحكم علاقات القربى والاتصال الحضارى والثقافى بين الشعبين المصرى والسودانى، وهو الأمر الذى يجعل السودان شأنا مصريا ومصر شأنا سودانيا فى المقابل. وقد اتضح ذلك فى سرعة طرح القيادة المصرية لمبادرة لتسوية الصراع بين الطرفين بالتنسيق مع جنوب السودان[13].

- لعل أهم ما يميز المبادرة المصرية أنها أفضت إلى انعقاد قمة برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسى، جمعت كل دول جوار السودان فى القاهرة من أجل تحقيق تسوية سلمية فى السودان. وكان من بين القادة المشاركين رئيس وزراء إثيوبيا ورئيس مجلس الدولة الليبى،بالإضافة إلى رؤساء جنوب السودان، وتشاد، وإريتريا، وجمهورية إفريقيا الوسطى[14].

وتضمنت عدة عناصر رئيسية وهى:

1-  اتفاق وقف إطلاق النار الطويل الأمد والمستدام؛بهدف وقف العنف المستمر وتوفير أساس لجهود بناء السلام.

2- ممرات إنسانية آمنة- كعنصر حاسم فى المبادرة المصرية- لتسليم المساعدات الإنسانية للمدنيين المتضررين من الأزمة، ما يضمن وصول المساعدات الأساسية إلى المحتاجين.

3- إطار للمفاوضات تشارك فيه جميع القوى السياسية فى السودان، ويهدف هذا النهج الشامل إلى توفير منصة للحوار الهادف والمشاركة السياسية بين مختلف أصحاب المصلحة داخل السودان لمعالجة الأسباب الكامنة وراء الأزمة والعمل من أجل حل مستدام.

4- آلية الاتصال الفعال مع الأطراف المتحاربة لتسهيل المفاوضات وبناء الثقة.

وتظل المبادرة المصرية هى الأكثر شمولا لمحاولات فتح أفق جديدة للأزمة السودانية، وخلق قنوات للتواصل بناء على تاريخ العلاقات المصرية السودانية فى الوصول إلى الحل السلمى المستدام.

2- أثر وقف إطلاق النار فى السودان ودول الجوار

أ- أثر وقف إطلاق النار فى السودان

على الرغم من أن احتمالية تحقق هذا السيناريو ضعيفة، نظرا للمعطيات الراهنة للوضع المتأزم فى السودان، فإنه فى حال الاتفاق بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع على وقف إطلاق النار التام، والعودة إلى طاولة الحوار والتفاوض على شروط الاتفاق الإطارى بينهما، فلهذا آثار إيجابية فى السودان منها:

أولا- وقف إزهاق أرواح المدنيين الأبرياء من أبناء الشعب السودانى وحماية ما تبقى من الممتلكات العامة والخاصة وإعادة إعمار ما تم إتلافه.

ثانيا-سد الهوة الواسعة بين الجيش وقوات الدعم السريع.

ثالثا- فتح آفاق جديدة للمشاركة والتعاون فى العمل السياسى الجماعى.

رابعا-عودة الحياة الطبيعية إلى المدن الثلاث التى استضافت القتال بين القوتين.

خامسا- معالجة القضايا والأوضاع الإنسانية التى عانى وما زال يعانيها الشعب السودانى فى الداخل والخارج.

ب- أثر وقف إطلاق النار فى دول الجوار

لدى دول الجوار السودانى حساباتها الاستراتيجية تجاه وقف إطلاق النار والوصول إلى اتفاق سلام يكفى المنطقة من تداعيات تصعيد الصراع العسكرى واحتمال تمدده إلى خارج الحدود السودانية بما يهدد الأمن والاستقرار الإقليمى، خاصة أن السودان يحظى بأهمية استراتيجية متنامية بفضل موقعه الجغرافى الذى يجعله بمنزلة نقطة اتصال استراتيجى بين منطقة شرق إفريقيا - بما فى ذلك القرن الإفريقى والبحر الأحمر – ومنطقتا الساحل ووسط إفريقيا؛ حيث يتماس السودان مع خمس دول فى إفريقيا جنوب الصحراء هى إريتريا، وإثيوبيا، وجنوب السودان، وإفريقيا الوسطى، وتشاد، وأيضا نقطة اتصال مع البحر المتوسط وشمال إفريقيا عبر حدودها مع مصر.

ولقد كشفت قمة دول جوار السودان المنعقدة فى القاهرة فى 13 يوليو 2023 بالقاهرة- التى سعت إليها مصر- بعد ما أظهرت المبادرات السابقة تضاربا فى المصالح وصراع فى الإرادات المنطوية على رؤى وأهداف خاصة بعد فشل المساعى الدبلوماسية والإقليمية الهادفة إلى تحقيق وقف دائم لإطلاق النار-عن الوصول إلى تهدئة الأوضاع لاستقرار السودان يحتاج إلى بذل جهود كبيرة وخطوات جادة وسريعة.

فإن أمن السودان هو أمن مصر ودول الجوار السودانى، ووقف إطلاق النار وعقد اتفاق للسلام ينهى بشكل كبير الضغوط المباشرة التى تتعرض إليها مصر ودول الجوار التى يشكلها استمرار الصراع وإطالة أمده، خاصة أن أبرز هذه الضغوط تتعلق بالأمن القومى المصرى أحد أوجه المصالح الاستراتيجية لمصر ودول الجوار السودانى.

وكذلك؛ لوقف إطلاق النار فى السودان آثار بالغة فى مصالح مصر ودول الجوار فى المنطقة، خاصة فيما يتعلق بالتداعيات الجيوسياسية والاقتصادية على مصر وأثر الصراع فى أزمة سد النهضة، وقد تتباين بعض تداعيات الصراع على دول الجوار السودانى، ولكن نتائج وقف إطلاق النار تتسق لدى الجميع.

ب- السيناريو الثانى.. استمرار القتال المسلح بين الجيش والدعم السريع فى السودان

يبدو أن السيناريو الأكثر ترجيحا هو استمرار القتال المسلح بين الجيش والدعم السريع داخل المدن،على الرغم من الضغوط المتزايدة من قبل الفاعلين فى المبادرات الإقليمية والدولية الدبلوماسية وتأثير قمة القاهرة لدول جوار السودان فى موقف طرفى الصراع من توقف قصير لإطلاق النار.

ولكن الخطر الأكبر على السودان من استمرار القتال المسلح بين طرفى الصراع؛ مع استمرار تكافؤ القوة العسكرية النسبى بينهما من خلال تدخل بعض الدول بالمنطقة فى الصراع بشكل مباشر أو غير مباشر عبر تزويد "طرفها المفضل" فى الصراع بالمال والأسلحة وأشكال الدعم العسكرى الأخرى.

يشكل استمرار القتال المسلح فى السودان مصدرا لتهديد مصالح دول الجوار الإقليمى -وخاصة فى منطقتى القرن الإفريقى والساحل والصحراء-التى تتأثر بشكل أساسى بالتفاعلات الإقليمية فى المنطقة.

ويعد مدى تأثر مصالح دول الجوار الإقليمى باستمرار القتال المسلح فى السودان شديد للغاية؛ إذ إن أبعاده ذات صلة بالمصالح السياسية فى المحيط الإقليمى، ما يخشى من انتقال الصراع إلى بعض الدول التى تعانى بالفعل توترات سياسية وأمنية وهشاشة الأنطمة السياسية فيها، مثل تشاد، وإفريقيا الوسطى، وجنوب السودان، وإريتريا، وإيثوبيا، كما يخشى من تحول السودان لبؤرة صراعية تتدافع نحوها العديد من القوى الدولية، بما يهدد استقلالية دول المنطقة وأمنها[15].

كما يهدد استمرار القتال المسلح بين الجيش والدعم السريع تفاقم الاضطرابات القائمة فى القرن الإفريقى والساحل والصحراء، خاصة أن السودان سيكون مؤهلا لإيواء المزيد من الحركات المسلحة التى ستنطلق نحو مهاجمة دول الجوار، متخذة الحدود السودانية فى ظل سيولتها ممرا لعبور الأسلحة والمسلحين إلى دول القرن الإفريقى، والساحل والشمال الإفريقى أيضا خاصة ليبيا التى مثلت عبئا ثقيلا لدول الساحل خلال العقد الأخير، مع تهديدات بمزيد من مرور المهاجرين الأفارقة إلى أوروبا، ما يعنى تجاوز مخاطر الصراع السودانى محيطه الإقليمى إلى بعض المناطق الأخرى مثل القارة الأوروبية[16].

ج- السيناريو الثالث..الانزلاق إلى الحرب الأهلية:

يعد هذا هو السيناريو الأسوأ لمستقبل الأزمة السودانية، وهو أن ينتقل القتال المسلح من المدن الثلاث فى العاصمة الخرطوم إلى باقى الولايات الأخرى، وذلك مشروط بشرط قريب الحدوث، هو أن تضعف إحدى القوتين أمام الأخرى، بعد أطالة أمد القتال، واستنزاف عزيمة وإرادة جنودها وانخفاض أعداد المقاتلين وهلاك معادتها ونفاد عتادها، أو لاسيما أن يكون انقطاع الإمدادت الخارجية من مال وأسلحة، جميعها عوامل عند توافرها جميعا أو بعض منها يؤدى إلى إضعاف قوة أحد طرفى الصراع، ما يمنح أفضلية على الأرض للطرف الآخر.

1- تداعيات الانزلاق إلى الحرب الأهلية فى السودان

من المتوقع فى هذا السيناريو، أنه عند تقدم طرف على الآخر، بسبب استنزاف موارده، سوف يفر الطرف المهزوم إلى مواقع جديدة يستطيع خلالها إعادة حشد موارده ورفع معنوية جنوده، ما يفجر الصراع فى مناطق جديدة خارج ساحة القتال الأولى.

إذا استمرت المواجهات المسلحة بين الجيش وقوات الدعم السريع لفترة طويلة نسبيا، فإنها يمكن أن تتحول إلى حرب أهلية شاملة، وخاصة فى ظل عمق الانقسامات الرأسية فى المجتمع السودانى من ناحية، وإرث الحروب الأهلية منذ عهد الاستقلال. وإن اتساع نطاق القتال سوف يسمح لقوى قبلية أو عرقية بالتدخل من خلال دعم أحد الأطراف وفقا لمصالحها، ما يغذى استمرار القتال، مثلما حدث فى إقليم دارفور.وقد تنشط حركات التمرد المسلحة لدعم أحد الأطراف، ما يعزز تدخل قوى خارجية لدعم أحد الأطراف التى تبحث عن دعم عسكرى واقتصادى من قبل أطراف خارجية، من أجل تعزيز قدرتها على مواجهة الخصم والاستمرار فى القتال المسلح[17].

2- تداعيات سيناريو الحرب الأهلية على دول الجوار:

يتوقع الخبراء والمحللون الدوليون أن استمرار القتال المسلح فى السودان وانزلاقه إلى حرب أهلية ينذر بآثار كارثية فى دول الجوار السبع، مصر، وليبيا، وتشاد، وجنوب السودان، وإفريقيا الوسطى، وإثيوبيا، وإريتريا، وهى فى جلها دول تعانى أزمات مختلفة، سياسيا واقتصاديا، وتتشابك مع عدة قضايا إقليمية، تمتد عبر السودان مثل قضية سد النهضة، هذا بالإضافة إلى ما يخشى منه من إمكانية تصاعد النشاط الإرهابى ونشاط العصابات الإجرامية على الحدود.

مصر: 

تأتى مصر ضمن قائمة الدول المهددة بالآثار الكارثية من تحقق سيناريو الحرب الأهلية فى السودان؛ إذ يعد المراقبون أن ما يجرى فى السودان، قد تكون له انعكاسات سلبية على ملف سد النهضة نفسه؛ لأن استمرار الحرب واحتمالات انهيار الدولة السودانية، ربما يغرى إثيوبيا ويقوى موقفها الذى تتمسك به فى الخلاف الناشب بينها وبين مصر والسودان، فانهيار السودان سيضعف الجبهة المصرية فى مواجهة إثيوبيا، ولا يقل ملف اللاجئين السودانيين بالنسبة إلى مصر أهمية؛ عن "سد النهضة"، نظرا لحجم الضغط الذى يشكله أعداد المتدفقين على الاقتصاد المصرى ومرافق الدولة المستضيفة، فى ظل أزمة اقتصادية عالمية18.

ويعد السودان موردا رئيسيا للمواشى واللحوم الحية وهى إحدى السلع الاستراتيجية لمصر؛ حيث يمد السودان مصر بنحو 10% من احتياجاتها من هذه السلع، وهو ما يزيد الضغط على أسعار اللحوم محليا، مما قد يؤدى إلى مزيد من التضخم فى الأسواق المصرية. ويحتل السودان المرتبة الثانية بقائمة أكبر 5 أسواق مستقبلة للصادرات المصرية بقيمة 226 مليون دولار، كما يعد السودان بوابة لنفاذ الصادرات المصرية إلى أسواق دول حوض النيل وشرق إفريقيا. ومع استمرار الحرب وانعدام الأمن، سيتأثر حجم التبادل التجارى بين البلدين، كما تتخوف مصر بامتداد الحرب نحو البحر الأحمر والتأثير فى حركة الملاحة فى قناة السويس، وهو ما ينعكس سلبا على الاقتصاد المصرى الذى يعانى بعض الأزمات فى الوقت الراهن19.

ليبيا:

تعانى ليبيا من أزمات داخلية عدة، وتحاول توحيد المؤسسة العسكرية؛ حيث تتخوف ليبيا من تأثير الحرب فى السودان فى ملف ترحيل المرتزقة إلى بلادهم، كما تتخوف من اللاجئين فى ظل عدم الاستقرار الأمنى والسياسى والاقتصادى فى ليبيا، وحذر وزير الدفاع الليبى السابق محمد محمود البرغثى "من أن ما يحدث بالسودان – بغض النظر عن نتائجه النهائية – سينعكس على الأوضاع فى ليبيا، نظرا لوجود حدود مشتركة هشة أمنيا"، يشير بذلك أن عناصر الفريق الخاسر بهذا الصراع قد يجدون بها ملاذا آمنا وينطلقون منها نحو الأراضى الليبية"20.

تشاد:

صرحت الفرق التابعة لمفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين الموجودة على الحدود بأنه فر بين 10 آلاف و20 ألف شخص من المعارك الجارية فى السودان بحثا عن ملاذ فى تشاد المجاورة، لكن تشاد تتخوف من تسلل فئات مسلحة إلى البلاد، لذلك أغلقت الحدود بينها وبين السودان21. 

إفريقيا الوسطى:

تعانى إفريقيا الوسطى العديد من الأزمات الداخلية، وتأثرت بالصراع المسلح فى السودان بسبب الاضطرابات الأمنية على طول الحدود بين البلدين، تضررت حركة المرور بينهما، ما أدى إلى زيادة كبيرة فى أسعار السلع الأساسية. يزود السودان العديد من البلدان فى إفريقيا الوسطى بالسلع الأساسية مثل مناطق فى محافظتى فاكاجا وبامينغوى بانغوران، كما تضاعف سعر العديد من السلع بمقدار الضعفين ما أدى إلى مزيد من التضخم بالنسبة إلى بعض السلع، فمثلا سعر كيس السكر الذى كان يزن 50 كيلوجراما كان يباع قبل اندلاع الحرب بالسودان مقابل 40 ألف فرنك محلى (70 دولارا) صار يباع مقابل 80 ألفا (140 دولارا) بعدها، ما يؤدى إلى مزيد من التدهور الاقتصادى والضغوط على معيشة المواطنين22.

جنوب السودان:

تعد دولة جنوب السودان إحدى الدول المتضررة من الصراع المسلح فى السودان؛ حيث تعتمد خمس من أصل عشر ولايات بجنوب السودان على سلع وبضائع منتجة فى السودان، وأى تداعيات أمنية ستؤثر مباشرة فى مجمل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لمواطن بجنوب السودان. تشارك دولة جنوب السودان جمهورية السودان فى أشياء كثيرة على رأسها الشريط الحدودى الطويل الذى يربط بين البلدين، كما يوجد بطول هذا الشريط الحدودى نسبة مقدرة من سكان هذين البلدين، ويشكل هذا الشريط خط الإمداد الاقتصادى للبلدين؛ حيث توجد فيه حقول البترول ومزارع الصمغ العربى، وأكبر مشروعات لإنتاج المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية خاصة الماشية، وسوف تتأثر فى حال امتداد الحرب إليها، كما أغلقت المجال الجوى الأعلى لجنوب السودان، نتيجة لإغلاق الأجواء السودانية؛ لأن السودان يدير المجال الجوى الأعلى لجنوب السودان، ما يسبب المعاناة لمواطنى جنوب السودان الذين يعتمدون على الطيران لتسهيل حركتهم من وإلى البلاد23.

إثيوبيا:

أدت الحرب الحالية إلى فرار عشرات الآلاف من السودانيين إلى بلدان مجاورة مثل إثيوبيا التى لا يزال مئات الآلاف من سكانها يعيشون فى السودان هربا من الحروب هناك أيضا. وعلى الرغم من توقيع اتفاق سلام فى نوفمبر 2022 لوقف الحرب فى إقليم تيجراى الإثيوبى، فإن أكثر من مليون إثيوبى لا يزالون يعيشون فى السودان، ويواجهون تداعيات القتال الحالى فى الخرطوم وعدد من مدن البلاد الأخرى، مع تعسف السلطات الإثيوبية فى استقبال اللاجئين تخوفا من اشتعال الحرب مرة أخرى فى إقليم تيجراى الإثيوبى24.

إريتريا:

تتخوف إريتريا كغيرها من البلدان المجاورة من استقبال مجموعات مسلحة وتوغلها داخل إريتريا.

ختاما:

لكى يجلس طرفا القتال على طاولة الحوار من جديد؛ يجب أولا؛ وقبل كل شىء وقف إطلاق النار، فى ظل توافر الأسلحة بين طرفى القتال وهو أمر ذى صلة بإطالة أمد القتال الداخلى بينهما، خاصة أن السودان يقع فى بؤرة أحد أنشط أسواق السلاح فى العالم، فإن تعدد المداخل والمصادر والفاعلين يسهم فى تدفق السلاح إلى السودان؛ حيث تشترك دول راعية وجماعات مسلحة أجنبية ومحلية وسماسرة فى كامل سلسلة توريد السلاح.

وفى حال تحقق هذه الفرضية، يمكن أن يتم تدخل فاعلين دوليين من أصحاب المبادرات المطلقة سابقا؛ لاسيما تكون المبادرة المصرية لدول جوار السودان، نظرا لكونها الأكثر طموحا وشمولا لتحقيق آمال جموع الشعب السودانى -  إلى إجراء مفاوضات ثنائية أولا لاتساع الأفق والرؤى حول مستقبل التعاون بين الطرفين فى إدارة مستقبل السودان. وبناء عليه، يتم تحديد الزمان والمكان لعقد لقاء ثلاثى يجمع طرفى القتال فى السودان وممثلى الوساطة الدولية.

إن هذه الحرب أو القتال المسلح يستنزف موارد الدولة السودانية بشكل لن يسمح بإعادة إعمارها فى عقود محدودة، ويضعف من قدرتها على استثمار موقعها الجيواستراتيجى فى منطقة القرن الإفريقى، وكبوابة إفريقية فى جنوب البحر المتوسط، وبوابة فى الشمال الإفريقى نحو أوروبا، ما يجعل وجوب إيقاف القتل أمرا حتميا حتى لا تنزلق الدولة نحو صراع عرقى أو حرب أهلية، تحقق نبوءات بعض الخبراء بأن السودان مؤهل لتجزئة جديدة بعد انفصال الجنوب عن الشمال؛ إذ قد يكون هناك تقسيم لدولة الشمال إلى دولتى شمال وجنوب جديدين.

وفى الأخير؛ إن تنامى قوة الدولة يعتمد بشكل كبير على طبيعة سياستها الداخلية المرتبطة بإتاحة المشاركة الجماعية دون إقصاء على الأصعدة السياسية والعرقية والثقافية، وأن تسهم الأحزاب فى إعادة تنامى الحياة السياسية مرة أخرى، دون أن تكون هى الفاعل الرئيسى فى تفجير الأزمات الهيكلية التى تهدد كيان الدولة.

المراجع :

1-   عبدالسلام حمود غالب الأنسى، "مفهوم الحرب فى الفقه والقانون" ( مجلة الفقه والقانون، الطبعة (9)، 2013).

2-   https://dictionary.cambridge.org/dictionary/english/war.

3-   the Rapid Support Force

https://www.nytimes.com/2023/04/17/world/africa/paramilitary-rsf-explainer.html

4-   جون يونغ، ترجمة أحمد جمال أبوالليل، السودان صراعات المصالح ورهانات المصير( سطور الجديدة، 2014) ص30.

  5-   جون يونغ، ترجمة أحمد جمال أبوالليل، السودان صراعات المصالح ورهانات المصير( سطور الجديدة، 2014) ص31.

6-   السودان من صراع إلى صراع، مؤسسة كارنيجى للسلام الدولي، المركز الدولى للدراسات المستقبلية والاستراتيجية (2012) ص6. 

7- السودان من صراع إلى صراع، مؤسسة كارنيجى للسلام الدولي، المركز الدولى للدراسات المستقبلية والاستراتيجية (2012) ص9.

 8-  طلعت حسن رميح، مستقبل السودان، دار الطباعة الحديثة، ص2.

9-   حسن موسي، شبهات حول الهوية، كتابات سودانية، ع3 ( إبريل 1993) ص5.

 10-  بدر الدين عبدالله الإمام موسي،"الصراعات القبلية فى السودان .. الجذور والأبعاد"،(مكتبة جزيرة الورد، الطبعة (2)، (2017))، (2004) ص47.

 11-  فرانسوا جيريه،"الجيوسياسية الجديدة: السلم والحرب فى عصرنا الحالي"،(مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية:كتاب المجلة العربية (142) الطبعة (1)، الرياض 2014) ص24.

 12-  أمانى الطويل، "مستقبل السودان: واقع التجزئة وفرص الحرب"، (المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، يوليو2011) ص14.

13-  حمدى عبد الرحمن حسن، " المعركة من أجل السودان: آفاق المواجهة بين الجيش والدعم السريع"،(مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية، مقال). الربط على الأنترنت : :  https://acpss.ahram.org.eg/News/18861.aspx

 14-  حمدى عبد الرحمن حسن، "المقاربة المصرية: قراءة فى دلالات قمة دول جوار السودان بالقاهرة"،(مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية، مقال). رابط:  https://acpss.ahram.org.eg/News/20947.aspx

15- أحمد عسكر،"الجوار القلق..مخاطر التداعيات الإقليمية للصراع فى السودان"،(مركز الإهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، الملف المصري: الصراع فى السودان..خريطة المصالح والتحديات، العدد 107،( يوليو 2023) ص 31.

16- المصدر السابق.

17- حسنين توفيق إبراهيم، "الحرب فى السودان: سيناريوهات قاتمة وتداعيات كارثية"،( مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية، دراسة، يونيو(2023) ص 8. رابط: https://acpss.ahram.org.eg/News/20918.aspx

18- "كيف ترون تداعيات انهيار السودان على دول جواره؟" تقرير" بى بى سى عربى"، رابط: https://www.bbc.com/arabic/interactivity-65945178

19- كيف تؤثر الحرب فى السودان على اقتصاد مصر؟, العربية. 26 إبريل ,2023. متاح على الرابط التالى: https://www.alarabiya.net

20- جاكلين زاهر،"تخوفات من تداعيات الصراع فى السودان على جنوب ليبيا"، (الشرق الأوسط. 19 إبريل 2023) رابط: https://aawsat.com

21- "الحرب فى السودان.. أكثر من 10 آلاف شخص فروا إلى تشاد"، (سكاى نيوز بالعربية. 20 إبريل 2023). رابط: https://www.skynewsarabia.com

22- "دولة جارة للسودان تشعر بتداعيات مدمرة للصراع"، (سكاى نيوز بالعربية، 29 إبريل 2023). رابط  https://www.skynewsarabia.com

23-   ضيو مطوك ديينق وول.وزير الاستثمار بدولة جنوب السودان،"تداعيات الصراع المسلح فى السودان"،(القاهرة24، 19إبريل 2023).رابط: https://www.cairo24.com

24- سودانيون وإثيوبيون يتبادلون مآسى الحروب.. و"المرقد الأخير". سكاى نيوز بالعربية. 1 مايو 2023. رابط: https://www.skynewsarabia.com

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    عمرو خان

    عمرو خان

    كاتب صحفى، باحث ماجستير- كلية الدراسات الأفريقية العليا-جامعة القاهرة