مقالات رأى

الربيع وأهدافه: فوات الانتفاضات؟

طباعة

الفرق بين ما يحدث في «وول ستريت « وما يجري في «العالم العربي»، كبير قطعاً. فالغرب دائماً متقدم، واحياناً يكون قد استهلك ما نسعى نحن بكل طاقتنا للوصول اليه. هنالك الآن اتهامات بالاشتراكية والشيوعية. حتماً هي مبتذله، والثوار هناك في الولايات المتحدة، يردون عليها، رافعين بمقابلها راية المحافظة والاصولية الرأسمالية، وهم يستهجنون الرأسمالية الصينية، المدارة شيوعيا، ويذمون نمط الاشتراكية المنهارة عام 1990. لسنا شيوعيين، لكن مشاعيي معرفة ومجال عام، وضد الدولة الراعية المقيدة. كأنما هم يقترحون او يستشرفون، نمطاً آخر من الحرية، الا انهم بلا شك دعاة «عدالة»، وعلى ذلك يركزون، وليس على الحرية فقط كما نفعل اليوم.

يعني ذلك ببساطة انهم يتركون ضجيجنا الحالي، مرة اخرى، وراء ظهورهم، وكأنهم يلحقونه بالمتحف، بينما نحن نلهث، ونملأ الميادين، ونتلقى الرصاص بالصدور ونحن نصرخ «سلمية». وعليه، فان التساؤل الذي تقتضيه الضرورة، كما تعلمناها من دروس العصر الحديث، قد يبدو قاسياً. فالعدالة عادت في الغرب لتصبح هي المطلب، بينما «الديموقراطية» ازيحت الى الخلف. وبما ان القانون المتبع، يقول بأن الغرب في المقدمة، اذاً فان ما نفعله في ساحاتنا، اصبح خارج الاستعمال، «متخلفاً» وفي المؤخرة.

الغرب هو الذي يحدد، اليس كذلك؟ هكذا هو القانون الساري، منذ ان تكرس الغرب ونموذجه الحضاري. وهذا الجانب قد يتحول اليوم، الى إشكال مضاعف، وغير مسبوق، بينما العالم العربي لا يجد مسوغات نظرية مقنعة ترافق «ربيعه» الحالي. فالسرديات الخاصة معطلة عند ما هي عليه، وتبدو اليوم، وبمناسبة الربيع بالذات، بائسة، وغائبة كلياً، برغم ان الصحف والقنوات الفضائية، لا تتوقف عن الوصف، واسداء النصيحة. ومن حسن الحظ ان «وول ستريت» وشوارع مدن بريطانيا، لن تفصح عن موضوعاتها بعد. اي ان شعار او قضية «العدالة» اللاحقة على الرأسمالية والديموقراطية، لا تزال في طور المراقبة، قبل الاستخلاص. غير ان هذا قد يحدث، واذا حدث، فإن وضع الربيع العربي سيكون صعباً للغاية. الحرج سيزداد، والتضاربات المفهومية تتراكم، والانسداد والعقم السياسي والفكري الحالي يتضخمان.

فالديموقراطية عالمياً، وكما تبدو في اللحظة الراهنة، ليست هي المطلب الذي يستحق ان تموت الجموع من اجله في الشوارع. على الاقل ليست الديموقراطية المتعارف عليها حتى الآن، اي الديموقراطية التي عممها الغرب في العصر الحديث، والتي يقول المتظاهرون في «وول ستريت»، وشوارع لندن ومدن اوروبا، انها صارت بالية، غير صالحة، وأنها لم تحقق المرجو انسانياً، بينما مطلب «العدالة» عاد الى صدارة المشهد. وهذا ليس الحال في العالم العربي طبعا، فهنا لا عدالة ولا ديموقراطية. ومع ذلك يقال مثلاً، بأن التجمعات تحت شعار احتلال «وول ستريت» متأثرة بالميادين العربية. وصحيح ان المرء يرى احيانا يافطات صغيرة، محمولة تهدي التحيات او الشكر لمصر، كما ان هذه الانطلاقة الاوروبية التكميلية زمنياً، تبدو حتماً من نسيج حقبة ولحظة مشتركة. ولكن ان يكون ذلك «ربيعاً عالمياً»، فالاحرى بنا ألا ننسى ان ترابطاً من هذا القبيل سيكون له معنى آخر، وان خطر تغييره للمواقع والدلالات حاصل وقريب. وحين تتعثر الثورات هنا، بالدماء وبالطوائف، وبالخيارات المتضاربة والمتناقضة، ببطء الوصول الى الاهداف، بصعوبة تعيين اللازم والضروري، وما اكثره، قبل ان تتحول الانتفاضات الى ثورات، فان انتفاضات الغرب، تكون قد رسخت مفهومها. وشيئاً فشيئاً، سيدخل الحسابات عنصر الفارق في وتائر الدينامية والفعالية، وفي الطاقة الخلاقة. وعندها تصبح ثوراتنا خربة، ومن عالم غير مكتمل، وعاجز وضعيف.

ومرة اخرى ستنبعث مواجهة معتادة، مع الاسباب التي تجعلنا نطارد هدفا، يتم تجاوزه بنيوياً. فعلى مستوى ديناميات التغيير، يبدو الغرب مرة اخرى، اقدر على تجاوز ذاته، بينما نظل نحن ندور في المربع نفسه. والخطوة التي ننتقلها الى الامام، نعود بعدها خطوات الى الخلف. واذا وسعنا رؤيتنا، فلا بد ان نحسب ايضاً قوة سطوة او تأثير المثال المتقدم، والاكثر رقياً، انضباطاً وتنظيماً على سبيل المثال، وما اسرع تفجر سيل المقارنات. ان في الامر شيئاً، او ملمحاً، من «النموالمتفاوت» في الثورات، يتطور ليمتد على مستوى المعمورة. وثمة خشية، من ان نجد انفسنا، بعد فترة، ندور في فلك آخر من تعظيم منجز الماضي، فنتمسك بالاولوية، ونصر على انهم قد «تعلموا منا»، واننا نحن مصدر الثورات الاول.

الحديث هنا فيه قدر واضح من التحامل المسبق على ظاهرة لا تكف عن ان تكون هي الاولى. ومن بعض الجوانب على مظهر «سطوة»، قررته التواريخ، حتى خارج الهيمنة الاقتصادية والعسكرية. فاستعمار الثورات الشرقي والغربي، لم يكن في يوم من الايام غريباً. فروسيا «المتأخرة» اوروبياً، ظلت لعقود تعامَل وكأنها قبلة الثورة. ولا يبدو اننا سنجد انفسنا، وأن يصبح لنا مكان، لا في الاقتصاد، ولا الثقافة، ولا الاستعمار، ولا الثورة، فما الحل؟ نوقف الثورات، مع شرط ايقاف الازمة في الغرب، او نتمنى توقف هذه الاخيرة؟ ليس هذا في صالحنا ايضاً. فغرب غير مأزوم، وليس فيه ثورات، هو غرب قوي جبار، مستعمر وقادر. فهل الغلبة في الثورات ارحم، واقل كلفة؟ لنقبلها، اذاً، على امل ان تكون اقل الهيمنات ضرراً، واكثرها مناسبة لنا، هذا اذا تصورنا انفسنا معها ليس خارج العالم والتاريخ.
 

-----------------------------------

* نقلا عن  الحياة اللندنية الثلاثاء, 15 نوفمبر 2011.

طباعة

    تعريف الكاتب

    ستيفن لارابى