مقالات رأى

مشكلة تركيا وسياسة "صفر مشاكل"

طباعة

كانت سياسة تركيا المتعلقة بوجود “صفر مشاكل مع الجيران” سياسة جيدة في حينها . لقد ساعدت تلك السياسة التي صاغتها الحكومة المنتخبة الجديدة في تركيا سنة ،2002 على الصعود إلى مصاف القوى الإقليمية التي تتمتع بالنفوذ . لقد بدا الهدف من تلك السياسة -وهو بناء روابط اقتصادية وسياسية واجتماعة قوية مع جيران تركيا المباشرين بينما في الوقت نفسه تقوم تركيا بتخفيف اعتمادها على الولايات المتحدة الأمريكية- وكأنه في متناول اليد، لكن الربيع العربي كشف أوجه الضعف في تلك السياسة، ويجب على تركيا الآن أن تسعى إلى مبدأ توجيهي جديد يحكم انخراطها بالوضع الإقليمي .

لقد كان مصطلح “صفر مشاكل مع الجيران” حتى بداية الانتفاضات العربية يعني صفر مشاكل مع الأنظمة السلطوية الراسخة في الشرق الأوسط، ولكن عندما بدأت المعارضة السياسية بتحقيق تقدم ملموس هذا العام، واجهت حكومة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان خياراً لا يمكنها تجنبه وهو إما أن تحافظ على سياستها في الانخراط مع القادة العرب السلطويين، وإما الإقرار بأن مواطني بلدانهم لم يكن لديهم “صفر مشاكل” .

إن الثورة في ليبيا شكلت التحدي الملموس الأول لسياسة تركيا تلك، وبالرغم من أن شركاء تركيا الغربيين قطعوا علاقاتهم مع الزعيم الليبي معمر القذافي بشكل سريع دعماً للمعارضة، فإن مبدأ “صفر مشاكل” كان يقتضي أن تحتفظ الحكومة التركية بعلاقات مع النظام القديم، وبعد أن قامت في بادئ الأمر بتبني موقف محايد، أدركت تركيا سريعاً أن ترددها يضر بصورتها .

وهكذا واجهت تركيا صراعاً أساسياً بين سياستها التي تعتز بها والمتعلقة بالانخراط مع الحكام السياسيين الإقليميين من دون توجيه انتقادات إليهم، وبين حتمية دعم الطموحات الديمقراطية للشعب الليبي، وفي نهاية المطاف قررت الحكومة أن تدعم الخيار الثاني بدلاً من الأول ما يعني عملياً إنهاء سياستها المتعلقة “بصفر مشاكل” مع الجيران . لقد أصبحت تركيا آخر عضو في (الناتو) تقدم دعمها للثوار الليبيين .

كانت سوريا في نواح كثيرة تمثل تجسيداً حياً لسياسة “صفر مشاكل مع الجيران”، لكن الأزمة السورية أصبحت مثل مسمار آخر في نعش سياسة تركيا الاقليمية . لقد كانت سوريا وتركيا على حافة الحرب في نهاية التسعينات بسبب دعم سوريا للإرهاب الكردي، ولكن الحكومتين قامتا بتحسين علاقتهما حتى إنهما كانتا تفكران في إنشاء سوق مشتركة إقليمية .

وعليه، عندما انطلقت الاحتجاجات الشعبية في سوريا في مارس/ آذار كانت تركيا تأمل أن تستخدم علاقة الثقة المتبادلة التي من المفترض أن البلدين قد قاما بتطويرها، أي عملياً دفع الرئيس السوري بشار الأسد تجاه الإصلاحات الديمقراطية . لكن عندما وجدت حكومة أردوغان أن هناك تصلباً في موقف الأسد، أظهرت تلك الحكومة أنها تعلمت من الخبرة الليبية وفي هذه المرة لم تتردد تركيا قبل أن تنتقد الأسد بشدة، وفي خروج واضح عن السياسة التركية الراسخة، قام أردوغان بفرض عقوبات أحادية ضد سوريا، وهذا شيء له دلالة أكبر، وخاصة إذا علمنا أن تركيا عادة ما كانت تدين العقوبات علماً أنه حتى وقت قريب قامت تركيا في العام الماضي بالتصويت ضد عقوبات جديدة على إيران في مجلس الأمن الدولي .

في الوقت نفسه تغيرت لهجة خطاب الحكومة التركية أيضاً حيث قدمت تلك الحكومة دعمها الكامل للمعارضة السورية، كما بدأ القادة الأتراك في التعبير عن واجب بلدهم بحماية الناس المضهدين في الشرق الأوسط .

من المرجح أن تكون عواقب هذا التحول الأساسي في النظرة الإقليمية لتركيا كبيرة فنظرة تركيا الجديدة توحي بأنها مصممة ولأول مرة في تاريخ الجمهورية التركية، على الترويج للمبادئ الديمقراطية في المنطقة .

إن سياسة تركية أكثر صخباً في ما يتعلق بالحريات الأساسية والإصلاح الديمقراطي في المنطقة، سوف تقوم بالضرورة بتغيير علاقات تركيا مع جيرانها الأقل تقدمية، وحتى تتمتع الأجندة التركية الجديدة بالصدقية، فإنه ليس بإمكان حكومة أردوغان الاستمرار في تجاهل الانتهاكات الكبيرة لحقوق الإنسان في إيران المجاورة، علماً أن حكومة أردوغان كانت أول حكومة تهنئ الرئيس محمود أحمدي نجاد بعد انتخابات إيران سنة 2009 .

إن من العناصر المهمة الأخرى لصدقية السياسة الجديدة قدرة تركيا على حل أوجه القصور الديمقراطي في تركيا، وخاصة ما يتعلق بحرية التعبير وعدم التدخل في وسائل الإعلام إضافة إلى حقوق الأقليات . إن إحراز تقدم في تلك المجالات سوف يكون حاسماً لنجاح أجندة السياسة الخارجية التركية .

إن دور تركيا الجيوسياسي كبلد أوروبي وشرق أوسطي أكثر تعقيداً من أي وقت مضى وبالنسبة إلى هذا البلد، لا يوجد شيء يدعى “لا مشاكل”، وفي بيئة يتم إعادة تشكيلها بطرق غير متوقعة من قبل الصحوة العربية، فإنه سوف يتوجب على تركيا إعادة تعريف معنى أن تكون جاراً طيباً .

---------------------
* نقلا عن دار الخليج الاثنين ,21/11/2011.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. أحمد زايد

    د. أحمد زايد

    أستاذ علم الاجتماع السياسي - جامعة القاهرة.