مقالات رأى

الخليج من أمن الدينار إلى أمن الديار!

طباعة


لقد قامت دول الخليج مجتمعة، أو بعضها، بدور القابلة، مباشرة أو مداورة، في وصول بعض حراك العرب الربيعي إلى نهايته المنطقية وميلاده الجديد، حدث ذلك في اليمن بشكل واضح وجلي، وحدث ذلك في ليبيا أيضا، كما يحدث الآن ومن خلال الجامعة العربية باتجاه سوريا، مرورا بدعم واضح أيضا إلى كل من العهد الجديد في مصر وتونس. كل هذا يترتب عليه تبعات ثقال. ولا شك عندي أن هناك من رجال السياسة في الخليج الذين يشخصون بأبصارهم إلى ما بعد انقضاء العام الذي نحن فيه، مادين بصيرتهم إلى ثلاث أو أربع سنوات مقبلة. هذا الحراك الإيجابي باتجاه الربيع سوف يتبعه استحقاقات كثيرة ومتعددة من دول مجلس التعاون.

من هذه الاستحقاقات أن من تم مساعدتهم للوصول إلى بر الأمان سوف ينقلب بعضهم على تلك المساعدة، ومن ثم يحملون دول الخليج كل أو بعض فشلهم، وبعضهم بدأ بالفعل يقوم بذلك.

في اليمن هناك من يرى أن المبادرة الخليجية أنقذت علي صالح وحوارييه أكثر مما أنقذت اليمن، وهو أمر قد يسوق بسهولة إلى جمهور متعطش للثأر، وغير قابل أن يرى، أن من أنقذ في الحقيقة هو اليمن، وغير مقتنع أن الثمن الذي دفع في تخليص علي صالح من المتابعة هو ثمن بخس إن تصورنا نتائج عكس ذلك في بلاد تعج بالسلاح وتعجب بالخلاف، إن حقيقة لوم دول الخليج واردة في اليمن وفي غيرها.

ومن جهة أخرى لا يريد أحد في عصر «تويتر» و«فيس بوك» ووسائل الاتصال الحديثة السريعة، أن يتجاهل ما نشر في تلك الوسائط الأسبوع الماضي، حيث طالب أحد أساتذة الجامعة السوريين، وعلى رؤوس الأشهاد، طالب إيران بتحريك من تستطيع تحريكهم لزعزعة الاستقرار في الخليج، ردا في رأيه على ما اعتقده، أنه تدخل نشط لدول الخليج في بلده! وليس خافيا من جهة أخرى أن تحالفات المضطرين اليوم، قد تنقلب في وقت قريب ولأسباب سياسية متغيرة إلى خلافات تصل إلى العداء المستحكم، إما لتحميل الخليج الفشل الممكن للحكومات الجديدة، وإما صرف أنظار الناس عن تلك المشكلات.

وليس خافيا أيضا أن الولايات المتحدة ترى بعض دوائرها أن الخليج بوضعه الحالي يستدعي التغيير على الأقل في الهيكلية السياسية، حيث يلاحظ ضمور في هيكليات الدولة دون مشاركة واسعة من قطاعات أكبر من الناس في اتخاذ القرار، ويجري التسويق السياسي لمثل هذه الأفكار علنا في وسائل الاتصال التي ترعاها الدول الغربية والناطقة بالعربية، معطوفا على التأثر التاريخي لمنطقة الخليج بما يحدث حولها.

كما أنه ليس خافيا إمكانية تحريك الحشود للضغط على بعض دول الخليج من الداخل من أجل توسيع المشاركة في السلطة والقرار والثروة والمال. إن القوة الناعمة التي حركت الحشود العربية في عواصم وأطراف دول «الربيع العربي»، يمكن أن تفعل فعلها في دول الخليج، خاصة إن سارت الأمور على ما هي عليه من استبعاد لأي حراك ابتكاري.

سوف تعقد القمة الخليجية الدورية في الرياض الشهر المقبل، وهي لأول مرة تعقد في خضم تحولات ضخمة، تذكرنا بقمة الدوحة عام 1990 التي كانت قد عقدت في «شيراتون الدوحة»، والكويت وقتها تحت الاحتلال العراقي، كان الاضطراب هائلا في المنطقة وقتذاك، وهو يعود اليوم إلى الاضطراب، ليس من الداخل، ولكن من الجوار والخارج. فإن لم يأت أهل القمة بتصور سياسي ابتكاري لتخفيف الآثار المترتبة على كون الخليج قابلة للتغيير في أماكن أخرى، وقابلا للتغيير أيضا، وأن تقل المتغيرات تتطلب الانتباه إلى البيت الداخلي، فإن فرصة تاريخية قد تمر دون الاستفادة منها.

الاقتراح أن تنصرف العقول والأذهان من توحيد الدينار (التكامل الاقتصادي والإداري وغيره من سوق مشتركة إلى اتحاد جمركي) الذي عمل عليه مجلس التعاون حتى الساعة، إلى توحيد شبكة الأمان العام في المنطقة، أي اتخاذ خطوات سياسية موضوعية، من خلال طرح فكرة الكونفدرالية التي تقرب مواقف تلك الدول تجاه القضايا الكبرى الداخلية والخارجية، في تساند قانوني معروف للعالم، لكونها تشكل مجتمعة كتلة بشرية مكونة من نحو 40 مليون نسمة بناتج محلي إجمالي سنوي يقارب 900 مليار دولار.

دون هذه الخطوة التاريخية، يعني البقاء في دول متعددة كثير منها صغيرة غير قادرة بشريا على تحمل أو مقاومة صدمات كبيرة قد تواجهها، مستفيدة من داخلها وأيضا من تباعدها.

من الواضح أن عام 2011 هو عام المفاجآت العربية، ومن المحتم أن تنضم دول الخليج إلى المفاجآت تلك بطريقة إيجابية تجعل من نجاحها في تعضيد الحراك الذي انشغلت به في الجوار العربي بحيث ينتج حراك طوعي في محيطها.

هناك احتمال كبير أن يحدث استقطاب في المحيط العربي عندما تهدأ الأمور قليلا في دول «الربيع العربي» باتجاه وسط ونهاية عام 2012، ومن المحتمل أن يتوجه ذلك الاستقطاب بشيء من العداء السياسي تجاه دول الخليج، لأسباب ما قامت به من جهة، أو لأسباب تخيل ما لم تقم به من جهة أخرى، وأن يحاول أطراف الاستقطاب النيل من دول الخليج، كل على حدة، وليس من الضروري أن يصبح أهل «الربيع العربي» أو بعضهم حاملين لصيغ الامتنان والشكر، بل قد تنمو العداوة ويطالب البعض حتى بالثأر أو تصدير الربيع كما عرفوه لدول الخليج.

لدينا مثال واضح في عدم الامتنان في سياسات الدولة العراقية الحالية، فعلى الرغم من كل التضحيات الخليجية التي جلبت أهل الحكم الحالي إلى سدة الرئاسة مباشرة، افتقد بعضهم الكياسة، فقام بتعضيد معنوي علني بمجرد ظهور بوادر الاضطراب في الخليج، وعلنا على رؤوس الأشهاد، وقد يتكرر ذلك من عواصم أخرى، فقد كانت ولا تزال السياسة متقلبة ومراوغة إلى حد بعيد.

من هنا، فإن دعوة دول الخليج للتفكير الاستراتيجي، بعيدا عن الاسترخاء للظاهر السياسي الحالي، تدعوها إلى تقديم أفكار تضامنية تتعدى الشكل لتجتمع وبطريقة تكاملية حديثة لمواجهة متطلبات الثورات الناعمة التي قد تكون تحت رؤيتها المباشرة حتى تتفادى النيران الصديقة والعداوة على حد سواء.

آخر الكلام..

كم هي فقيرة المخيلة العربية السياسية، تسير دون ابتكار!.. فما إن نجح حزب العدالة والتنمية في تركيا، حتى أصبح للعرب نفس اسم الحزب في تونس وفي المغرب، يذكرنا بالاتحاد الاشتراكي الذي انداحت تسميته لدى العرب من المحيط إلى الخليج، عندما كان موضة العرب السياسية «الاشتراكية»!

-----------------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية الثلاثاء 29/11/2011.

طباعة

    تعريف الكاتب

    عثمان ميرغني