مقالات رأى

"إعلان الأهرام" .. الصحافة الورقية لن تموت!

طباعة

كان يمكن لإعلان عن سيارة مستعملة للبيع مطلع إبريل الجارى أن يمر مرور الكرام، لولا جملة من الملاحظات أبداها نشطاء بمواقع التواصل الاجتماعى عن مضمون الإعلان وملابساته، وهى الملاحظات التى أثارت جدلا واسعا ورآه البعض انهيارا وبداية النهاية للصحيفة العريقة، ورأيته دليلا قويا على أن الأهرام – أتحدث عنها هنا كنموذج للصحف الورقية- باقية ومازالت مؤثرة وقادرة أكثر وأكثر على التأثير فى مصر وخارجها، وما أثير من جدل يقودنا إلى طرح أسئلة عن مكانة صحيفة الأهرام ومستقبل الصحف المطبوعة عموما.

بداية، لست من القائلين إن اختفاء الصحف الورقية مسألة وقت لأن من يقول هذا الكلام يتهرب من المواجهة والاعتراف بالأسباب الحقيقية لتراجع الصحافة الورقية، فنحن اليوم نخاطب قراء مختلفين وهم بخلاف قراء الأمس وصحافة الأمس، وإذا ما عرفنا احتياجات القارئ ورغباته يسهل علينا التعامل معه وفهم اللغة التى يرتاح إليها.

 يؤكد الواقع كل يوم أن "البديل الرقمى" لم "ولن" يسد الفراغ، وأنه لم يكن على مستوى التحدى والقدرة على الانتشار، ودعنى أسأل هنا سؤالا بسيطا، من منا يبدأ يومه بفتح موقع إلكترونى؟ ومن منا يبدأ بفتح مواقع التواصل الاجتماعى؟ الإجابة هنا ستحدد من يعانى حقيقة ومن فى طريقه للاندثار. فى رأيى المواقع الإلكترونية هى أيضا تعانى سيطرة "السوشيال ميديا"، وأن لا أحد يذهب إليها مباشرة، وهى فى الطريق للاندثار وليست الصحافة الورقية. ولكن هل معنى ذلك أن الصحافة الورقية لا تعانى؟ نعم تعانى لكنها ستستمر بعد أن تعالج أخطاءها وتسير فى الطريق الصحيح، الصحف الورقية لم "ولن" تموت كما يتم الاستسهال بقوله، بل المشكلة أنه لم يتم إنتاج محتوى ورقى جديد يتماشى مع أسلوب العصر وأدواته الرقمية، وهذا ما سنعود له بعد قليل، لكن دعونا نكمل ما فعله الإعلان.

الجدل الشديد حول إعلان فى الصفحة الأولى لجريدة الأهرام كان كاشفا لأهمية الصحافة الورقية واستمرارها وقدرتها على التأثير، وفى ظنى أنها فرصة جوهرية يمكن البناء عليها وتطوير الأدوات لخروج تجربة مصرية ناضجة وملهمة تقود عودة الصحف الورقية بقوة كما حدث فى دول كثيرة منها الهند والصين وإنجلترا وفرنسا، فهناك صحف فى تلك الدول توزع ملايين النسخ يوميا، وما زالت معظم الصحف البريطانية العريقة تصدر "دستة" من الملاحق المتخصصة والورقية أيام العطل الأسبوعية، ولديها قراء يتزايدون يوميا.

الجدل الذى انصب على نوعية الإعلان نفسه، كونه المرة الأولى تقريبا التى تنشر فيها الأهرام إعلانا لبيع سيارة مستعملة فى صفحتها الأولى فى مكان مميز، أراه مؤشرا واضحا على ارتفاع "وعى" القراء، ويقينهم أن قيمة الأهرام – كممثل للصحافة الورقية – يجب ألا تهتز، ومؤشرا أيضا على وعى المصريين بأهمية صحافتهم وانتظارهم دائما أن تكون على قدر المسئولية وأن تقدم لهم كل ما يثقون فيه.

"الوعى" يبدو جليا أيضا فى المناقشات التى ثارت حول مضمون الإعلان، فرغم طرافة بعض التحليلات التى ذهبت إلى أن مضمون الإعلان هو شفرة سرية لإيصال رسالة ما من جهة ما مجهولة إلى مجهولين، إلا أنها تظل تؤكد ثقة القراء بالصحافة الورقية، وخوفهم فى الوقت نفسه على بلدهم وعلى صحافتهم التى لا يريدون لها أن تتورط فيما يشين.

نعود إلى النقطة الرئيسية، كيف يمكن البناء على ما حدث؟ وكيف نستثمر التأكيد الذى جاء من القراء كون الإعلان بات "تريند" وأثار جدلا كبيرا ما يؤكد أن الصحافة الورقية باقية ومؤثرة ولها متابعوها وباهتمام شديد؟ فى رأيى البداية تكون من الإجابة عن تساؤلات من نوعية: لماذا هذا الإحجام عن قراءة الصحف الورقية؟  نعم هناك إحجام عن قراءتها، وليس متابعتها، فهل ما يحدث بسبب ضحالة المحتوى وعدم التجديد أم بسبب "ثورة الاتصالات والمعلومات"، أم بسبب عدم الفصل بين صحيفة ورقية كاملة الدسم وصحيفة إلكترونية مختلفة تماما؟

ويبدو أيضا أن الخطوط الأولى التى يجب أن تسير عليها الصحافة الورقية هى الذهاب إلى  صحافة التحليل والرأى وصحافة الاستقصاء، والإضافة المتميزة للحدث وذلك للحفاظ على حيوية الصحف الورقية لتكون أكثر فاعلية، خصوصا لجيل الإنترنت و"السمارت فون" وخلافه. وعلينا أن نؤمن بأنه لا سبيل لإيقاف الفجوة بين الصحافة الإلكترونية والورقية سوى بتقديم حلول غير تقليدية من شأنها أن تساعد الصحف الورقية على استعادة دورها.

وتتمثل أبرز هذه الحلول فى حتمية تركيز الصحف الورقية على كتابة الموضوعات التحليلية والقصص الخبرية الأكثر عمقا بدلا من الاقتصار على نشر الأخبار العادية أو بالأحرى الأخبار العاجلة التى تحظى فيها الصحافة الرقمية بميزة أسبقية النشر دائما، فضلا عن استهلاك وسائل الإعلام المرئية والمسموعة لمثل هذا النوع من الأخبار وتكراره على رأس كل ساعة، وعلينا الذهاب إلى ما وراء الأحداث ومحاولة طرح فهم أعمق للقضايا ووضعها أمام  الجمهور.

أيضا ضرورة أن تفرد كل مؤسسة أو صحيفة ورقية قسما مستقلا للصحافة الاستقصائية التى تعتمد على التجربة الذاتية للمحرر، ما يمكنه من طرح تجربته وأفكاره بشكل مختلف ومتميز يجذب القارئ. مع حتمية الإيمان بتعدد وجهات النظر، بما يخدم فى النهاية نجاح منظومة الصحافة الورقية فى جذب أكبر عدد من القراء، واستحداث قسم خاص لنشر وجهة نظر القراء، للوقوف على آرائهم وتطلعاتهم وكل احتياجاتهم ومتطلباتهم وما ينتظرونه من كل مطبوعة على حدة، ببساطة لأنه من غير المقبول أن يستمر محررو مطبوعة ما فى الكتابة لقراء لا يعرفون شيئا عن وجهة نظرهم وما يريدونه تحديدا من مطبوعتهم.

أما الحل الأهم من وجهة نظرى فهو تدشين وحدة تلفزيونية وإذاعية داخل كل مطبوعة تنصب مهامها على بث الأخبار العاجلة أولا بأول سواء عبر وسائل الإعلام الثابتة كالتلفزيون والراديو أو عبر وسائل الإعلام المحمولة كأجهزة الموبايل وغيرها من وسائل التقنية الحديثة، بينما ينصب دور الصحافة الورقية على تناول الأخبار ذاتها ولكن من خلال قصص أكثر عمقا وتحليلا. ويستلزم هذا الأمر ضرورة تدشين غرفة أخبار مشتركة بين محررى الكتابة والبث والإذاعة بما يضمن التنسيق البينى بين الجميع لخدمة مستقبل الصحيفة واستمرار عملها وزيادة معدلات توزيعها وبثها وإذاعتها. 

الخلاصة، ما يحدث من تأثير للسوشيال ميديا يفرض على الصحف والمواقع الإلكترونية أن تعيد تقديم نفسها من خلال البحث عن الموضوعات المتخصصة، والاهتمام بشكل أكبر بالقارئ واهتماماته والذهاب إليه من خلال مطبوعات أو ملاحق فى المحافظات المختلفة تتحدث عن الناس هناك وتقدم حلولا لأزماتهم.

طباعة

    تعريف الكاتب

    رشدى الدقن

    رشدى الدقن

    مدير تحرير روزاليوسف