مقالات رأى

قري عينًا .. مريم المصرية

طباعة

تبدو السيدة العذراء في الأيقونات كما تعرض لنا كتب تاريخ الفنون المسيحية صامتة ساكنة، ظهرها مستقيم، وتنظر إلى المشاهد، وتحيط الطفلَ بيديها في رقّة وحنان، ويجلس الطفل في حضنها مستقرًّا بوقار، يمسك بيده اليسرى لفافة ورق، بشرى الخلاص الّتي أعلنها للخليقة، ويبارك باليد الأخرى.. هذا ما عبّر عنه يوحنّا الدمشقي في أحد أناشيده: "يداها تحملان الأزلي وركبتاها عرش أسمى من الشاروبيم، إنّها العرش الملكي الّذي يتأمّل الملائكة عليه سيّدهم وخالقهم"..

في غالب الأحيان، يرسم الفنّانون صاحبة الجلالة في صورة كلّيّة، أي من الرأس حتّى أخمص القدمين، ولا تلبس في رجليها صندلًا، كما هو الحال في أيقونات القدّيسين، بل تبدو قدماها شبيهة بأقدام الملائكة، دلالة على سموّ مقامها، ولعلّ أفضل نشيد يفي بمعاني ما تعبّره الأيقونة من هذا النمط هو نشيد الذّهبي الفم الّذي يُتلى في قدّاس القدّيس باسيليوس الكبير: "إنّ البرايا بأسرها تفرح بكِ يا ممتلئة نعمة، محافل الملائكة وأجناس البشر لكِ يعظّمون، أيّها الهيكل المتقدّس والفردوس الناطق وفخر البتوليّة، الّتي منها تجسّد الإله وصار طفلًا، وهو إلهنا قبل الدهور.. لأنّه صنع حضنكِ عرشًا، وجعل بطنكِ أرحب من السموات، لذلك، يا ممتلئة نعمة، تفرح بكِ كلّ البرايا وتمجّدكِ.." ..

في الإيمان المسيحي يطرح القديس غريغوريوس سؤاله، لماذا العذراء، أما للمسيح الكلمة المتأنسن، ويجيب إجابة مختصرة ورائعة، يتحدث الصمت القلبي والصمت العقلي لمريم، يتحدث عن اتحادها الكامل بالله بالصلاة والتأمل في صمت، يتحدث عن اختيار الله لها دونًا عن غيرها، لأسباب يرى غريغوريوس أنها تتمثل في هذه الإنسانة الصامتة في صلاة والمصلية في صمت، يفسر لنا القديس غريغوريوس الصانع العجائب لماذا اختارت النعمة الإلهية العذراء مريم دون سواها من النساء، إنها اتحدت بالله بالصلاة والتأمل وبرهنت على حكمتها ورزانتها (أم الله اتحدت عقليًا بالله بدوام الصلاة والتأمل وفتحت طريقًا نحو السماء جديدًا.. سمت به فوق المبادئ والظنون الذي هو الصمت العقلي وصار لها الصمت القلبي، وكما يقول الكتاب المقدس (أما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها)..

وفي آيات القرآن الكريم:

الآية: ﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾.. السورة ورقم الآية: مريم (٢٦).

وفي الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي: ﴿ فَكُلِي ﴾ من الرطب ﴿ وَاشْرَبِي ﴾ من الماء السرى ﴿ وَقَرِّي عَيْنًا ﴾ بولدك ﴿ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا ﴾ فسألك عن ولدك ولامَكِ عليه ﴿ فَقُولِى إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ صَمْتًا، أي: قولي له: إني أوجبت على نفسي لله سبحانه ألا أتكلَّم، وذلك أن الله تعالى أراد أن يظهر براءتها من جهة عيسى عليه السلام، يتكلم ببراءة أمِّه وهو في المهد، فذلك قوله: ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾..

وهناك آيات أخرى:

(إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي وإِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

)• فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).

)• فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).

)• وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ).

)• يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ).

(ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ

إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ).

إنها صورة وسورة السيدة العذراء مريم في القرآن الكريم والعقيدة الإسلامية، وهي المرأة الوحيدة التي تم تخصيص سورة للحديث عن شخصها وقدرها وأمومتها في آياته..

وفى إصدار حديث للكاتب والإعلامى د. محمد الباز رئيس تحرير جريدة الدستور يقدم للمكتبة المصرية والعربية كتابه "مريم المصرية"..

يرى"الباز" في مقدمة كتابه أنه قد لا نعرف كثيرًا عن الذين استقبلوا السيدة مريم العذراء عندما جاءت بصغيرها إلى مصر طالبة الأمن والحماية، لكننا نثق فى أنهم فتحوا لها بيوتهم لتأمن، وقدموا لها طعامهم لتأكل، وأحاطوها بدفئهم، حتى لا تشعر أنها غريبة، بل صاحبة بيت، هؤلاء في النهاية أجدادنا نفتقد الأسماء ورسمهم، لكن ما فعلوه معها يبقى ميراثًا لنا، نتحرك به تجاهها حتى الآن، لا تنساه، ولا تنساها، يمكننا أن نعتبر هذا هو سر المصريين مع السيدة مريم العذراء، بعيدًا عن سرنا الديني معها، فهى عندنا لاتزال الضيفة العزيزة التى لا تنقطع حفاوتنا بها، ولن تنتهي، فالمصري الذي يكرم ضيفه للدرجة التي يقول له فيها إنه يمكن أن يذبح له ولدًا من أولاده، لايزال يؤكد للسيدة العذراء أنها لم تكن ضيفة أبدًا، بل واحدة من أهل البيت، لها ما لهم، دون أن يكون عليها ما عليهم..

ويضيف "الباز" مؤكدًا أن المصريات كن أقرب إلى السيدة مريم.. استقبلنها، ورحبن بها، وحفظن سرها وسر ولدها الصغير، ولأنها كانت الأقرب إلى أمهاتنا، فيمكن أن نتعامل معها على أنها " خالة المصريين " جميعًا، وللخالة منزلة لا يستطيع أن يجحدها أو يتنكر لها أحد، فالخالات أمهات.. والأمهات وتد البيوت، وعمادها..

ويذكر " الباز"  إن كانت العذراء عند المسيحيين هي "أم الرب"، وعند المسلمين "سيدة نساء العالمين"، هي عند المصريين جميعهم "الشفيعة"، فالتشفع هنا من وجهة نظر الكاتب، أو التوسل، لا يعني أبدًا سؤال المتشفع لغير الله، بل هي مناجاة القدير وترجيه بكرامة أوليائه..

"مريم  رمز لمغالبة الحياة، فمهما كانت الحياة قاسية، يمكننا الانتصار عليها كما انتصرت مريم"..

تحية لهذا الكتاب المميز.. وكل عام وجميعنا بخير بمناسبة عيد تجلي السيدة العذراء على قباب كنيستها بالزيتون.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    مدحت بشاي

    مدحت بشاي

    كاتب صحفى