تحليلات - قضايا عالمية

تداعيات متعددة: صعود طالبان ومستقبل التنظيمات المتطرفة في أفغانستان

طباعة

 
أثار قرار إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان قلقًا بشأن إمكانية عودة تنظيم القاعدة وتنظيمات أخرى للظهور، بعد أن استطاع الوجود الأمريكي تحجيم تلك التنظيمات، ومن ناحية أخرى، ومنذ إعلان واشنطن عزمها الانسحاب الكامل من أفغانستان في 11 سبتمبر 2021، استبقت حركة طالبان هذه الخطوة وقامت بشن مجموعة من الهجمات والعمليات واسعة النطاق في مختلف الأقاليم الأفغانية، وبدا حينها أن سيطرتها على السلطة لم تعد مرهونة بالتوقيت الذي حددته واشنطن للانسحاب من هناك، وهو الأمر الذي حدث بالفعل في 15 أغسطس 2021؛ حيث تمكنت الحركة من بسط نفوذها على مختلف مناطق البلاد، والدخول إلى العاصمة كابول دون قتال، وسيطرة الحركة على مختلف مؤسسات الدولة بعد هروب الرئيس الأفغاني أشرف غني إلى طاجيكستان.

وقد أثارت هذه التطورات مجموعة من التساؤلات حول مستقبل الأوضاع في أفغانستان داخليًا والملامح العامة للسياسة الخارجية التي ستتحدد بعد تشكيل حكومة طالبان الجديدة وطبيعة علاقاتها الإقليمية والدولية. وعلى الرغم من أهمية الإجابة عن هذه التساؤلات إلا أن التساؤل الرئيسي الذي ظهر في النقاشات الأكاديمية والإعلامية والذي نهتم بالإجابة عنه يتعلق بمستقبل وجود التنظيمات الإرهابية وخريطة انتشارها هناك في ظل الارتباطات الكبيرة التي جمعت بين الحركة وبعض من هذه الجماعات، مثل تنظيم القاعدة. وللإجابة عن هذا التساؤل، يمكن تناول مجموعة من المؤشرات التي يمكن أن تفسر ملامح الوجود التنظيمي للجماعات المتطرفة ومستقبلها، وكيفية تعامل حركة طالبان مع هذه التنظيمات على المستويات السياسية والأمنية، وذلك على النحو الآتي:

أولًا- العلاقة بين التنظيمات المتطرفة في أفغانستان:
تتعدد التفسيرات حول العلاقة الارتباطية بين عودة طالبان للحكم في أفغانستان وإعادة تشكيل خريطة العودة للتنظيمات الإرهابية المحلية والدولية، خاصة تنظيمي القاعدة و"داعش"، لاسيما أن الحركة تضم ما يسمى بالحرس القديم، وهم قادة متأثرون بالفكر الجهادي للقاعدة، كما أن سيطرة طالبان على السلطة يمكن أن يساهم في منح الفرصة للتنظيمات الإرهابية لإعادة بناء هيكلها وقدراتها القتالية من جديد من جانب، ومن جانب آخر، تعزيز فرص وإمكانية ظهور تنظيمات إرهابية جديدة وتوسيع نطاق عملياتها داخل أفغانستان أو في المناطق المجاورة، وبالتالي تصاعد العمليات الإرهابية في مختلف دول العالم. وفي إطار توضيح هذه العلاقة لابد من التعرض في البداية إلى طبيعة الاختلافات بين حركة طالبان والتظيمات الأخرى المتطرفة المنتشرة في أفغانستان، مثل تنظيمي القاعدة و"داعش".

1) الخلاف بين تنظيمي طالبان والقاعدة:

على الرغم من مبايعة زعيم القاعدة لزعيم حركة طالبان بصورة دورية إلا أن هذه المبايعة ترتبط بطبيعة العلاقة بين التنظيمين ولا يمكن تفسيرها من جانب التوافق حول أهداف كل منهما، وهو ما يعني أن هناك عديدا من الخلافات بينهما، ولعل أبرزها:
أ) الاختلاف الفكري والأيديولوجي: تختلف حركة طالبان مع القاعدة في أن طالبان جماعة محلية تقتصر نشاطها على الداخل الأفغاني دون أن ينسحب ذلك على باقي الدول وعلى العكس من ذلك، فتنظيم القاعدة تنظيم عالمي يهدف إلى إقامة خلافة إسلامية عالمية في العديد من الدول دون الارتباط بحدود جغرافية محددة كما هو الحال بالنسبة لحركة طالبان.
ب) الموقف من العمل السياسي: تتبنى حركة طالبان العمل السياسي كإحدى أدواتها في بسط نفوذها على الأراضي وتوسيع دائرة سلطاتها. على الجانب الآخر، ترفض القاعدة آليات العمل السياسي والتعامل مع الحكومات والأنظمة، بل تعمل على محارباتها، وهو الأمر الذي يعكس أن للحركة توجهات سياسية تنعكس على طبيعة العلاقة بينهما، بل وإمكانية حدوث صدام مباشر بينهما.
ج) العرق والقبيلة: يعتبر الانضمام للتنظيمين من الأمور الخلافية بينهما؛ حيث يقتصر الانضمام بالنسبة للأفراد وقيادات حركة طالبان على العرق البشتوني، في إشارة إلى تمركز الحركة حول البعد المحلي. أما القاعدة فلا ترتبط بمنطقة جغرافية معينة، بل إن الانضمام والقيادة مفتوحة أمام مختلف الجنسيات والأعراق المختلفة.
د) المعتقد الديني: هناك اختلافات جذرية بين العقيدة الدينية لكل من التنظيمين؛ فحركة طالبان تعتنق العقيدة الديوبندية، التي تعتمد على عقيدة أبي منصور الماتريدي في العقيدة، والفكر الحنفي في الفقة. على الجانب الآخر، تعتمد القاعدة على الفكر السلفي الجهادي في معتقدها وفكرها الحركي.
هـ) التوسع: كما ذكرنا فإن حركة طالبان يقتصر نشاطها كحركة محلية على الحدود الجغرافية للدولة الأفغانية، بينما يقوم فكر القاعدة على توسيع رقعة الانتشار والتوسع الجغرافي في مختلف دول العالم.

2) الخلاف بين تنظيمي طالبان وداعش:
على الرغم من الاختلافات بين طالبان و"داعش"، إلا أن هذا الاختلاف عمل على تعزيز قدرة تنظيم "داعش" الإرهابي. وقد ظهر تنظيم "داعش" لأول مرة في ولاية "خراسان" الاسم القديم لأفغانستان والمناطق المجاورة لها عام 2015، واتخذ من الجغرافيا الباكستانية والأفغانية مكانا لتعزيز نفوذه ونشاطه؛ حيث نقل التنظيم سيطرته إلى مناطق في شرق وشمال أفغانستان بعد انسحابه من مناطق الجنوب والغرب الأفغاني لمصلحة طالبان وفرارًا من الضربات التي تنفذها القوات الأفغانية والأمريكية، إلا أن التنظيم استطاع النفاذ إلى أفغانستان، من خلال استثمار الاختلافات والمواجهات داخل التنظيمات المتطرفة هناك خاصة بعد وفاة الملا عمر في أبريل 2013.
وضمن هذا السياق، يضم تنظيم "داعش" في صفوفه عديدا من المقاتلين الذين كانوا أعضاء في تنظيمات إرهابية أخرى وتلقوا التدريبات العسكرية المتطورة، والخبرات القتالية التي نقلوها معهم إلى التنظيم. وفيما يلي أبرز الخلافات بينهما:
أ) الطابع المحلي للعناصر المنضمة لـ "داعش"، حيث يحتوي التنظيم على مقاتلين من أبناء المنطقة الذين يعرفون بصورة كبيرة جغرافيا المنطقة وطبيعة السكان، وبالتالي يتمكنون من التحرك بسهولة والقيام بعمليات نوعية فى منافسة لطالبان على مناطق نفوذها.
ب) الإطار الفكري الذي يتبناه تنظيم "داعش" يختلف بصورة جذرية عن التنظيمات في تلك المنطقة، الأمر الذي ألقى بظلاله على أعداد المنضمين له. بالإضافة إلى ذلك، ساهمت الانشقاقات التي تعرضت لها عديد من التنظيمات المحلية هناك، واستغلال دعوة حركة طالبان للحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية والحكومة الأفغانية لإنهاء الأزمة إلى زيادة أعداد المنضمين للتنظيم.
ج) يعتمد التنظيم على العديد من الأطر غير التقليدية في أسلوب الحشد والدعوة للانضمام إليه. ولتحقيق ذلك، تبنى التنظيم عديدا من الآليات التي من شأنها أن تساهم في  تعزيز فرص توغله وانتشاره، وظهر ذلك بعد إنشاء الإذاعات المحلية في المناطق الشرقية والحدودية بين باكستان وأفغانستان، مثل "إذاعة الخلافة"، التي تبث بالعديد من اللغات، منها العربية، والبشتونية، والفارسية، بجانب بعض التسجيلات المسموعة والمرئية والدروس الفكرية باللغات المحلية، وهو ما جعل التنظيم أكثر قدرة على استقطاب مئات الشباب في تلك المناطق.
في المجمل، سيعمل تنظيم "ولاية خراسان" على تصعيد عملياته لتعزيز قدرته على جذب مزيد من العناصر الإرهابية للانضمام إلى صفوفه بشكل قد يساعده على تصدر خريطة المجموعات الإرهابية في أفغانستان التي أعلنت مبايعة التنظيم في الفترة الماضية.

3) الخلاف بين تنظيمي "داعش" والقاعدة:
تعود جذور ونشأة تنظيم "داعش" إلى "تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين" والمعروفة باسم تنظيم القاعدة في العراق، التي أنشأها أبو مصعب الزرقاوي في عام 2004 لمواجهة قوات الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها عقب الإطاحة بنظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين في عام 2003. وعلى الرغم من أن تنظيم "داعش" ما هو إلا انبثاق عن تنظيم القاعدة، إلا أن هناك عديد من الخلافات بينهما وصلت إلى تكفير كل تنظيم للآخر؛ حيث تبادل الطرفان الاتهامات حول العديد من الموضوعات، من أهمها مفهوما الخلافة والجهاد. ويمكن توضيح هذه الاختلافات على النحو التالي:
أ) اختيار المنضمين: تمثل هذه القضية واحد من أهم الاختلافات بين التنظيمين، فتنظيم القاعدة يعتمد على انتقاء الأعضاء المنتمين إليه على أسس واختبارات شرعية وفقهية، بينما يتم اختيار الأعضاء المنضمين إلى تنظيم "داعش" وفق معايير لا يمكن أن توصف بالشرعية، كما أن غالبيتهم لديهم سجلات إجرامية.
ب) الفقة: يعتمد تنظيم القاعدة على مبدأ الشورى في عملياته الجهادية، بينما يتحرك تنظيم "داعش" على أساس الأحكام السلطانية التي يفرضها ولي الأمر.
ج) الجهاد: يعتمد تنظيم القاعدة على مفهوم الجهاد التضامني خاصة فيما يتعلق بالعدو البعيد، بينما يعتمد تنظيم "داعش" على مفهوم جهاد التمكين، والذي ظهر جليًا بشكل واضح في إعلان الدولة واهتمام التنظيم بالسيطرة الميدانية.
د) مفهوم الدولة: يشكل مفهوم الدولة أحد الارتكازات الفكرية التي يقوم عليها تنظيم "داعش"، وهذا ما ظهر بعد إعلان التنظيم خلافته في سوريا والعراق؛ حيث قام ببناء مؤسسات سياسية وعسكرية ومالية كما هو الحال بالنسبة للدول على الجانب الآخر، فإن تنظيم القاعدة لا يهتم بالسيطرة المكانية أو تكوين دولة.
في النهاية، فإن توجه حركة طالبان للتفاوض مع الإدارة الأمريكية أو الحكومة الأفغانية ساهم في تصاعد الخلافات بين طالبان والتنظيمات المتطرفة الأخرى، خاصة أن طالبان كانت توفر الملاذات الآمنة ومعسكرات التدريب لهذه التنظيمات، ومن ثم فإن الاستمرار في اندماج طالبان مع الدول الأخرى سيشكل محورًا أساسيًا في علاقة الحركة بالتنظيمات المتطرفة الأخرى، بل إن الأمر قد يمتد إلى مواجهة عسكرية بينها.

وبعد استعراض التوجهات العامة للتنظيمات الإرهابية المنتشرة في أفغانستان، والتي تشير إلى وجود اختلافات هيكلية في بنيتهم الفكرية والنشاط الجهادي لهم وطبيعة عملهم، تجب الإشارة إلى أن هناك متغيرا جديدا يتمثل في صعود طالبان إلى الحكم في أفغانستان، وهو ما يمكن أن ينعكس على مستقبل هذه الخلافات، وإن كان هناك نوع من أنواع التعاون المحدود بينهم، ولعل هذه الأنماط من التعاون والخلاف ترتبط بصورة كبيرة بالمخرجات التي سوف تعتمد عليها حكومة طالبان في التعامل مع هذه التنظيمات سياسيًا وأمنيًا، وكيف ستدير طالبان علاقاتها بصورة متوازنة بين الدول وبين التنظيمات ما دون الدولة؟

ثانيًا: المتغيرات الحاكمة لمستقبل الجماعات المتطرفة في أفغانستان

ثمة مجموعة من المتغيرات التي ستحدد بصورة أولية المسارات المختلفة لانتشار الجماعات الإرهابية والتنظيمات المتطرفة، سواء تلك المنتشرة هناك أو إمكانية تصاعد فرص ظهور تنظيمات إرهابية جديدة. ولعل هذه التطورات ترتبط بفرضية أساسية تتمثل في مدى قدرة حكومة طالبان على تسوية الملفات التي تواجهها على المستويين الداخلي والخارجي، وإن كان سيتم تركيزنا هنا  على المتغيرات الداخلية؛ حيث ترتبط هذه العوامل بصورة كبيرة بالقضايا والملفات الداخلية في أفغانستان والتي تتعدد تأثيراتها فى حكومة طالبان الجديدة ومدى قدرتها على التعامل معها للحصول على الشرعية الداخلية لتنفيذ أهدافها، خاصة أن سيطرتها على الحكم لم تكن وفق اتفاق سياسي، وفيما يلي أبرز هذه المتغيرات:
أ) استراتيجية طالبان الجديدة: بعد سيطرة طالبان على الحكم في أفغانستان، بدأ الحديث عن أن حركة طالبان ليست كما كانت في السابق فيما يتعلق بمحددات استراتيجيتها وآلياتها المستخدمة في إدارة الدولة، وأن هناك تغيرا في تصورها لمشروعها السياسي للحكم؛ حيث إن المتتبع لتطور الحركة يجد أنها تحولت من الثورية إلى الاعتراف الدولي، ثم الحظر والإرهاب، وأخيرًا الاعتراف بها وسيطرتها على الحكم، وهو ما يعني تحولها من تنظيم متطرف إلى نخبة حاكمة، وهذه التحولات ألقت بظلالها على التطور الفكري والسياسي للحركة. وعلى الرغم من ذلك، لم تتسم طالبان بقدر كبير من الوضوح فيما يتعلق برؤيتها لمستقبل النظام السياسي في أفغانستان، فلا توجد وثيقة أو برنامج سياسي يحدد سياستها أو رؤيتها للنظام السياسي.
وتجب الإشارة هنا إلى مجموعة من العوامل التي يمكن من خلالها تفسير ما إذا كان هناك تحولات سياسية في جوهر مشروع طالبان السياسي المتمثل في التمسك باستقلالية وإسلامية أفغانستان، وإن كانت التصريحات الرسمية التي أعلنتها طالبان منذ سيطرتها على الحكم ذات صبغة اجتماعية وثقافية التي كان الأصل فيها التشدد والمنع كإلزام الرجال باللحى، والنساء بالنقاب وعدم خروجهن إلا بمحرم، وموقفهم من حقوق الإنسان، وعدم اللجوء إلى الانتقام والقصاص من الأفراد المتعاونين مع الحكومة السابقة والقوات الأجنبية. فالحركة أصبحت أكثر براجماتية، واستفادت من مختلف وسائل الإعلام، من الراديو إلى مواقع الإنترنت متعددة اللغات التي تعرض المواد المطبوعة والصوتية والمرئية نتيجة عدم قدرتها فى السيطرة على الانتشار السريع لوسائل الإعلام والإنترنت في أفغانستان. بالإضافة إلى ذلك، فإن انخراط الحركة في الواقع السياسي الإقليمي والعالمي عمل على تطوير أدائها وأدواتها في التعامل معه.
وبالتالي، فإن حدود التغير في أفكار الحركة لم تتبلور بعد، ولكن يمكن القول إن المرتكزات الفكرية التي تستند إليها تأتي ضمن استراتيجية الحفاظ على الهوية الإسلامية ولا يمكن حصرها فقط في الصراع السياسي مع السلطة القديمة، بعدما أعلنت الحركة بأنها لن تقبل بمشاركة الحكم مع أتباع الثقافة الغربية، سواء أيام حكمها في تسعينيات القرن الماضي، أو بعد سيطرتها على الحكم خلال الوقت الحالي، ويشير إلى ذلك ما أعلنته الحركة من رفضها الوفاق مع مسئولي الحكومة الأفغانية الحالية، لأنهم من المثقفين الذين تأثروا بالفكر الغربي، وهو ما يعني غياب مفهوم الحكومة ذات التوجهات الفكرية المختلفة في أفغانستان والاستمرار في حالة الإقصاء السياسي.

ب) مأزق الحرب الأهلية: نجحت حركة طالبان في السيطرة على الحكم دون قتال، وهذا الأمر لا يعني أستتباب الأوضاع السياسية والأمنية داخليًا، وفي حال فشل التوصل لاتفاق سياسي يضمن استقرار الأوضاع الداخلية فهناك احتمالية كبيرة لاندلاع حرب أهلية بين طالبان التي يسيطر عليها البشتون، وما يُعرف بالتحالف الشمالي، ويتألف بالدرجة الكبرى من الطاجيك في الغرب والشمال، ومن الأوزبك في الشمال، والهزارة الشيعة في وسط أفغانستان.
ويُحتمل أن يتدهور الوضع في القسمين الشمالي والغربي من أفغانستان ليشهد اشتباكات مسلحة بين حركة "طالبان" والميليشيات من غير البشتون. فالطاجيك، الذين يمثّلون نحو 25 في المئة من إجمالي سكان أفغانستان، هم المجموعة الإثنية التي تشكل الأغلبية في المدينتين الكبريين مزار شريف الشمالية وهرات الغربية. والهزارة، الذين يشكلون المجموعة الإثنية الشيعية الوحيدة في البلاد، يمثّلون نحو 10 في المئة من سكان أفغانستان، وهم الأغلبية في منطقة وسط أفغانستان الريفية. والأوزبك والتركمان، وكلاهما شعبان تركيان، يمثّلون نحو  10 إلى 15 في المئة من سكان أفغانستان ويعيشون بشكل أساسي في الشمال وفي حين أن البشتون يقطنون بكثافة أكبر في مناطق جنوب أفغانستان وشرقها، فمن ثم سيصبح الجزءان الجنوبي والشرقي من أفغانستان اللذاين يشكلان نحو 40 إلى 50 في المئة من مساحة البلاد ويشملان مدينة قندهار يخضعون بصورة كاملة لحُكم طالبان باعتبارها القاعدة الإثنية التي ينحدر منها معظم الجنود في الحركة. كما أنها هي المناطق نفسها التي سيستخدمها على الأرجح تنظيما القاعدة "وداعش" من أجل إنشاء قواعد تدريب جديدة بعد انسحاب الولايات المتحدة.

ج)إمكانية انتشار الجماعات الإرهابية والمتطرفة: سيتيح سيطرة حركة طالبان على الحكم في أفغانستان والانسحاب الأمريكي والدولي للتنظيمات المتطرفة الترويج لما يمكن أن نسميه انتصار المجاهدين كما حدث في عام 1989 وتمكنهم من هزيمة الاتحاد السوفيتي السابق، وهذا الأمر سينعكس على إمكانية استقطاب المزيد من المجندين، ويدفع إلى أن تكون أفغانستان ملاذًا وبؤرة لجماعات وتنظيمات إرهابية ومتطرفة بهدف الانضمام إلى الجماعات الإرهابية الموجودة بالفعل أو إمكانية إنشاء مجموعات متطرفة جديدة.
وتأتي هذه التطورات في ظل اتجاه حكومة طالبان نحو إحكام سيطرتها الكاملة على الأراضي الأفغانية، وهو ما يعني الصدام المباشر مع هذه الجماعات التي ستسعى هي الأخرى نحو تعزيز وجودها وسيطرتها الجغرافية. وفي المجمل يتوقف هذا الأمر على طبيعة المساومات التي ستحكم علاقة طالبان، وهي في الحكم مع هذه التنظيمات المتطرفة خاصة أنه لا تزال العلاقة وطيدة بين طالبان، وتحديدًا شبكة حقاني التابعة لها وتنظيم القاعدة، وهي علاقة قائمة على الصداقة، وعلى تاريخ مشترك من النضال والتعاطف الأيديولوجي.وفي كل الأحوال فإن فكرة وجود نظام إسلامي في هذه المنطقة الهشة أمنيًا سيفتح الباب أمام إمكانية وجود أحزاب وتيارات إسلامية أخرى بما يعزز حالة عدم الاستقرار وتصاعد المواجهات بين هذه التيارات.

د) طبيعة النظام السياسي: على الرغم من إعلان حركة طالبان أن أفغانستان إمارة إسلامية، إلا أن هذا الأمر أثار سلسلة من النقاشات حول طبيعة هذا النظام ومدى قدرته على التأقلم وقابليته للاستمرار داخليًا وخارجيًا، خاصة أن هناك نماذجا مختلفة لهذه الأنظمة بالقرب منها، كما أن الحركة لم تتسم بقدر كبير من الوضوح فيما يتعلق برؤيتها لمستقبل النظام السياسي في أفغانستان، وإن كان هدفها السياسي العام هو الحصول على استقلال البلاد وإقامة نظام إسلامي عادل على أساس الشريعة الإسلامية. وعلى الرغم من التصريحات التي أعلنتها الحركة حول الضمانات الخاصة بالملفات الداخلية والخارجية ذات الصلة بالأمن والسلم الإقليمي والدولي، إلا أن الواقع يشير إلى أن هذه التغييرات في خطاب الحركة نابعة إلى حد كبير من الضرورات السياسية، ولم تنجم عن تغيير حقيقي في أيديولوجيتها وفكرها.

هـ) مشكلة اللاجئين: بالتزامن مع توسع سيطرة حركة طالبان على الأقاليم الأفغانية، تزايدت حركة تدفق اللاجئين الأفغان في المحافظات الحدودية إلى دول الجوار الأفغاني، مثل باكستان وطاجيكستان، وهو الأمر الذي يشير إلى حجم المخاوف الداخلية من سيطرة الحركة على الحكم، وضمن هذا السياق أعلنت الدول الأوروبية عن زيادة المساعدات للدول المجاورة لأفغانستان لمنع طالبي اللجوء الأفغان من السفر إلى أوروبا، خاصة أن العديد من جيران أفغانستان، مثل أوزبكستان وطاجيكستان وباكستان، لديهم قواعد أكثر صرامة في مواجهة طالبي اللجوء. كما أن الدول الأوروبية أيضًا تمنع دخول طالبي اللجوء الجدد، وأعلنت باكستان بأن أكثر من 90 بالمئة من السياج الفاصل بين باكستان وأفغانستان قد اكتمل بناؤه وأصبح يمثل الحدود الدولية بين البلدين.
بناء عليه؛ سيكون هذا الملف عاملا كبيرا للضغط على حكومة طالبان فيما يتعلق بتسوية هذا الملف، وأن زعزعة الاستقرار في أفغانستان قد تؤدي إلى تصاعد موجات تدفق المهاجرين، وهو ما يساهم في الكثير من الضغوط الإقليمية والدولية على حكومة طالبان في هذا الشأن بسبب أن غالبية الدول المجاورة لها تواجه ظروفا اقتصادية صعبة.

و) أمن الحدود: تتشارك أفغانستان الحدود الجغرافية مع الكثير من دول آسيا الوسطى؛  وبالتزامن مع سيطرة طالبان على الحكم تصاعدت المخاوف من جانب هذه الدول فيما يتعلق بمدى قدرة الحكومة الجديدة على حماية الحدود المشتركة مع هذه الدول ومنع انتشار الجماعات الإرهابية المختلفة على الحدود الأفغانية. ومن ثم فإن عدم قدرة طالبان على إحكام سيطرتها ستتمكن الجماعات المتطرفة من استخدام هذه الأحزمة الأمنية الضعيفة في تعزيز انتشارها.

ز) تفاقم المشكلات الاقتصادية: كان لانسحاب القوات الدولية المكلفة بحماية وإرساء السلام في نهاية عام 2014 من أفغانستان أحد الدوافع التي ساعدت التنظيمات الإرهابية على التوغل والانتشار بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية والحالة المعيشية وتفاقمها؛ إذ زادت معدلات انتشار البطالة بين المواطنين الأفغان الذين كانوا يستفيدون من المشاريع الدولية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وهذا ما دفع العديد منهم إلى الانضمام إلى التنظيمات المتطرفة، مثل القاعدة و"داعش". وامتدادًا لهذا الأمر، فإن الانسحاب الأمريكي وسيطرة طالبان على الحكم سوف يعزز من تزايد هذه المشكلات، خاصة مع هروب الاستثمارات الأجنبية في ظل المخاوف من استمرار عدم الاستقرار الداخلي بالصورة التي تعزز من اتجاه المواطنين الأفغان للانضمام إلى التنظيمات المتطرفة.

ح) الملاذ الجديد للإخوان: كانت أفغانستان من قبل تحتل أهمية كبرى في استراتيجيات مختلف تيارات الإسلام السياسي والجهادي، وبعد سيطرة طالبان على الحكم تصاعد الحديث حول العلاقة بين جماعة الإخوان وطالبان، خاصة أن هناك العديد من الدول الراعية للتنظيم سياسيًا وماليًا تمتلك علاقات وطيدة مع الحركة قبل أن تتمكن من السيطرة على الحكم، كما أن الحركة منذ عام 2013 امتلكت باسياسيا يسمى مكتب إمارة أفغانستان انطلاقًا من استراتيجية بعض الدول لإحياء هذا التنظيم، وتستند هذه الفرضية إلى أن تنظيم الإخوان قام بتقديم المساعدات المادية والإغاثية لطالبان. بالإضافة إلى ذلك، فقد كان التنظيم أحد المشاركين بجانب طالبان في الحرب ضد الاتحاد السوفيتي السابق، وهو ما يعني أن تنظيم الإخوان يحظى بقبول حركة طالبان، كما يدعم حدوث هذه الفرضية انخراط دول من المنطقة في علاقات وطيدة مع طالبان، ومن أهدافها توفير الملاذات الآمنة للتنظيم، ومن ثم تصاعد إمكانية انتقال الأفراد المنتمين للتنظيم إلى هناك في ظل الملاحقات الأمنية التي يواجهونها في المنطقة العربية والعديد من الدول الأوروبية.

ختاما،  لم يتضح حتى الآن أبعاد تطورات المشهد السياسي الأفغاني بصورة كبيرة. وبالتبعية، فإن مستقبل انتشار الجماعات الإرهابية هناك يتوقف على مدى تفسير السلوك السياسي والأمني لحركة طالبان في التعامل مع القضايا ذات الصلة بهذه الجماعات داخليًا وخارجيًا وعلاقاتها مع الدول والفاعلين من دون الدول. وقد تعددت العوامل المؤثرة فى خريطة انتشار هذه التنظيمات المتطرفة، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وعلى المستويين الداخلي والخارجي. وتجب الإشارة هنا إلى أن هناك إدراك كبير من جانب الدول الإقليمية والدولية بأن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وسيطرة طالبان على الحكم سيعملان على تعزيز قدرة التنظيمات الإرهابية المحلية والعالمية، وستكون أفغانستان في ظل حكم طالبان بمثابة دافع معنوي كبير لهذه التنظيمات للتوسع والانتشار ما لم يتم التخلص من التأثيرات السلبية لهذه الأوضاع. بالإضافة إلى ذلك، سيعتمد استمرار بعض التغيرات في نهج طالبان على قدرة المجتمع الأفغاني والقوى السياسية الأخرى على مواصلة الضغط عليها، وهذا بدوره يعتمد أيضًا على استمرار الاهتمام الإقليمي والدولي بمجريات الأوضاع في أفغانستان.


 

طباعة

    تعريف الكاتب

    مصطفى صلاح

    مصطفى صلاح

    باحث فى العلوم السياسية