مقالات رأى

القوة الناعمة.. الإمارات نموذجاً

طباعة
يعتبر مفهوم القوة من المفاهيم المحورية في العلاقات الدولية، وهو المفهوم الذي تبنى عليه نظرية الواقعية وهي من أشهر النظريات المفسرة للعلاقات الدولية. وهذا المفهوم ليس مفهوماً ثابتاً، بل يتغير بتغير وتطور مفهوم ومكونات القوة، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بنظرية الدور والمكانة التي هي المحرك والدافع وراء السلوك السياسي لكافة الدول. ويرتبط بمفهوم القوة ذاتها التي على أساسها يتم تقسيم الدول إلى عظمى وكبرى ودول مؤثرة ودول صغيرة وقزمية. والقوة هي الرديف لمفهوم الدولة القومية التي ما زالت هي الفاعل الرئيس منذ مؤتمر وستفاليا 1648، والمحرك لكل العلاقات الدولية في صورتي الصراع والتعاون. ونشهد اليوم عملية إعادة إنتاج للعلاقات الدولية، وإعادة تقييم وتصنيف الدول على أساس مفهوم القوة الشاملة. 
 
فقديماً سيطرت القوة الخشنة أو الصلبة على ترتيب الدول في سلم القوة دولياً. والقوة ترتبط بالمصالح القومية العليا التي تسعى الدول لتحقيقها ولو على حساب مصالح الدول الأخرى. ويحمل معنى القوة الإكراه والإلزام أو الإجبار وهذا هدف القوة الخشنة، أما الإقناع والاستقطاب فيعرف بالقوة الناعمة. وكما هو معروف في أدبيات القوة تتكون القوة الخشنة من القوة العسكرية والقوة الاقتصادية، بل إن الأولى ترتبط بتوافر عناصر القوة الاقتصادية. وهنا قد يبرز لنا نموذج غريب في العلاقات الدولية وهو أن الدول العظمى مثل الولايات المتحدة وهي التي تعتمد على قوتها العسكرية، قد لا تتوافر لديها عناصر القوة الاقتصادية التي قد تتوافر لدول أصغر منها، ما يعطي وزناً ومكانة ودوراً أكبر للدول الأصغر، ويخلق حالة مما يعرف بمفهوم تكامل القوة. وتعرف القوة الاقتصادية بالجزرة وهي أداة تأثير قوية على السلوك السياسي للدول الأخرى، بل قد نذهب بعيداً ونقول إنه في ظل محددات القوة الصلبة ومعيقاتها وصعوبة اللجوء إليها في أي وقت يبقى للقوة الاقتصادية تأثيرها الأكبر، وهذا يضفي وزناً سياسياً أكبر للدول التي تملك هذه القوة حتى لو كانت صغيرة بمقاييس السكان والمساحة، ولكنها كبيرة بتأثيرات قرارها السياسي. وتختلف القوة العسكرية عن الاقتصادية في أنماط استخدامها، فالأولى قد تأخذ شكل دبلوماسية الإكراه، أو التخريب باستخدام الأسلحة التقليدية والتهديد بالردع النووي. والأخرى تتمثل في الدفاع والتدخل المباشر الذي يرقى لمستوى الحرب كما هو حال سياسة الولايات المتحدة، وهي أشكال في النهاية مدمرة ومكلفة وغير مضمونة النتائج.
 
وفي الآونة الأخيرة بدا يبرز دور القوة الناعمة والقوة الذكية، وهى الأكثر شيوعاً الآن. إن القوى الصغرى يمكن أن تملك القوة الناعمة بشكل أكبر وأكثر تأثيراً من الدول الكبرى ذاتها. والقوة الناعمة وإن ارتبطت بالمفكر الأمريكي جوزيف ناي لكن تعابيرها كانت معروفة قديماً في صورة التأثير والإقناع والنموذج القدوة سواء في القيم والسلوك أو النظام السياسي، وكما عرّفها ناي هي قدرة دولة معينة على التأثير في دول أخرى وتوجيه خياراتها العامة، استنادا إلى جاذبية نظامها الاجتماعي والثقافي ومنظومة قيمها ومؤسساتها، بدلا من الاعتماد على الإكراه أو التهديد المباشر. وهذه لها تداعيات إنسانية إيجابية كثيرة ومتنوعة. 
 
وهنا تقدم دولة الإمارات نموذجاً رائعاً في استخدام القوة الناعمة بما تقدمه من نموذج القدوة في العديد من تجلياتها كالتسامح وإنسانية ورشادة نظام الحكم فيها، وقيم التعددية الثقافية والحرية الدينية الملتزمة والمنضبطة، والمبادرات المتنوعة في مجال الدعم الإنساني، وفي تبني قيم السعادة والتسامح وتخصيص وزارات لها، وفي احتضان مئات الآلاف من الوافدين وعدم التمييز بينهم. إنها دولة تقدم نموذجاً في المواطنة العالمية والإنسانية المشتركة، ووحدانية الأديان. والأمر لا يتوقف عند حدود القوة الصلبة والناعمة بل بدأنا نسمع عن القوة الذكية وهي التي تجمع بين الصلبة والناعمة، أو ما يمكن القول إنه مفهوم إنتاج القوة الشاملة، وهدفها تحقيق مزيد من الاستقطاب للدول المؤيدة، وتحقيق مردودات أكبر تخدم مصالح الدولة، وتحفظ مكانتها ودورها وتردع غيرها من دول القوة. وهنا أيضاً تقدم الإمارات نموذجاً ثلاثياً للقوة الصلبة والقوة الناعمة والقوة الذكية.
 
-----------------------------
* نقلا عن دار الخليج، 18-6-2017.
طباعة

تعريف الكاتب

د. ناجي صادق شراب

د. ناجي صادق شراب

أستاذ علوم سياسية