«سايكس- بيكو».. التاريخ والمستقبل؟
21-7-2016

د. وحيد عبد المجيد
* مستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام
كثيرة هي الشجون التي أثارها في الأسابيع الأخيرة مرور مئة عام على اتفاق سايكس- بيكو (16 مايو 1916). وليست قليلة الحالات التي اقترنت فيها هذه الشجون ببكائيات ناتجة عن اعتقاد في أن ذلك الاتفاق هو المصدر الوحيد لأزمات العرب ومشاكلهم. وترتبط شجون «سايكس- بيكو» وبكائياته في الوقت الراهن بتفاقم الأخطار التي تهدد المنطقة، وتثير مخاوف من تفتيت بعض بلادها أو تقسيمها. ولذلك أخذ النقاش حول مستقبل المنطقة منحى مرتبطاً بالتغيرات المحتملة في حدودها الجغرافية التي يُعتقد على نطاق واسع أنها رُسمت كلها بموجب اتفاق «سايكس- بيكو».
 
ولكنْ إذا أردنا لهذا النقاش أن يكون مثمراً، ينبغي أن يُبنى على معطيات صحيحة. ومن أهم هذه المعطيات تدقيق التاريخ الذي ينطلق النقاش منه، ويقع اتفاق «سايكس- بيكو» في قلبه، وتوسيع نطاقه ليشمل التفاعلات الدولية الكثيفة التي حدثت عشية الحرب العالمية الأولى وخلالها وبعدها. وهذا التدقيق أكثر من ضروري لترشيد طريقة تفكيرنا فيما يمكن أن يكون عليه مستقبل المنطقة.
 
ويبدأ التدقيق بمعرفة أن الحدود الجغرافية الراهنة في العالم العربي، والشرق الأوسط عموماً، لم تنتج فقط عن اتفاق أولي بين دبلوماسيين كبيرين في بريطانيا وفرنسا قبل قرن. فرسوخ الاعتقاد في أن ذلك الاتفاق هو الذي حدد خريطة المنطقة يدفع البعض إلى تخيل إمكان إعادة رسم الحدود بطريقة مشابهة، أي عن طريق قوتين عظميين في العالم أو أكثر.
فالجدل حول مستقبل المنطقة انطلاقاً من اتفاق سايكس- بيكو، ومعزولاً عن سياقه التاريخي، يعطيه أكبر من حجمه، ويصرف انتباهنا عن العوامل الموضوعية التي تحكم الصراعات المشتعلة فيها.
 
ولعل هذا يفسر كيف أصبح الخطاب الذي ظل يتردد من وقت إلى آخر حول خرائط جديدة لمنطقتنا في إطار التآمر عليها، أكثر شيوعاً في ذكرى سايكس- بيكو المئوية، وامتد إلى بعض الأوساط الأكاديمية التي يُفترض أن تعتمد على التحليل العلمي.
 
وكثيراً ما ننسى تحت تأثير هذا الخطاب أن اتفاق سايكس- بيكو جاء نتيجة تحولات دولية وإقليمية واسعة على مدى بضعة عقود سبقت الحرب العالمية الأولى، وأفضت إلى انهيار الدولة العثمانية بعد أن تفككت أوصالها.
 
كما أنه كان مقصوراً على قسم صغير من المنطقة (المشرق العربي والعراق تحديداً)، بل نصت مادته العاشرة صراحة على استبعاد أي تدخل في منطقة شبه الجزيرة العربية (تتفق الدولتان بصفتهما حاميتين للدول العربية المشار إليها سابقاً على ألا تملكا ولا تسمحا لدولة ثالثة أن تمتلك أقطاراً في شبه جزيرة العرب). ولم يتطرق اتفاق سايكس- بيكو إلى الجزء الأفريقي من العالم العربي إلا في إشارة عابرة إلى (الالتزام بعدم إنشاء قاعدة بحرية في الجزائر على ساحل البحر المتوسط)، حيث كان هذا شرطاً بريطانياً قبلته فرنسا.
 
ومن الناحية الإجرائية، كان ذلك الاتفاق في مايو 1916 امتداداً لمعاهدة بطرسبرج التي عقدتها بريطانيا وفرنسا مع روسيا في مارس من العام نفسه لتقسيم أملاك الإمبراطورية العثمانية.
 
كما تم تجاوز الكثير مما تضمنه هذا الاتفاق من خلال اتصالات ومؤتمرات دولية (سان ريمو، وسيفر، ولوزان)، وبموجب تطورات تاريخية استمرت لما يقارب ربع قرن حتى عام 1939 (تنازل فرنسا عن محافظة الإسكندرون لتركيا) عشية الحرب العالمية الثانية.
 
ويعني ذلك أن الحدود الجغرافية في منطقتنا كانت وليدة عملية تاريخية مرت بمراحل عدة. ولم يكن اتفاق سايكس- بيكو إلا بداية أولية لرسم تلك الحدود. ولكنه تحول إلى «أسطورة» في ظل شيوع اعتقاد واسع في أنه هو مصدر هذه الحدود كلها.
 
ولذلك كله يساعد تدقيق ما حدث تاريخياً على صعيد رسم حدود الدول العربية في بناء تصورات واقعية للتغيير المحتمل في بعضها مستقبلاً، فإذا حدث هذا التغيير سيكون نتيجة للصراعات والحروب الأهلية الجارية الآن، وليس بفعل مؤامرات تحاك في غرف سرية مظلمة يصعب تصور مثلها في عصر لا تسمح تكنولوجيا الاتصال فيه بإخفاء ما يحدث في الظلام.
 
غير أن أهم ما نغفله ويتوجب أن ندركه هو أن أي تغيير في خريطة سوريا أو العراق أو غيرهما لن يغير الواقع البائس الراهن من دون استعداد كل من أطراف الحروب الجارية لقبول الآخر، والتعايش معه، والعمل يداً واحدة لمواجهة الإرهاب، وبناء دول قادرة على الإنجاز، سواء في الحدود الحالية أو في غيرها.
 
------------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، 20-7-2016.

رابط دائم: