الدور الملتبس: هل يعزز الأمن الإقليمي انتقالا عسيرا إلي التعددية القطبية؟
15-7-2016

مالك عوني
* مدير تحرير مجلة السياسة الدولية، كاتب وباحث مصري في العلاقات الدولية، مؤسسة الأهرام
يعد التعاون الأمني في نطاقات إقليمية، خاصة في مواجهة أعداء،‮ ‬أو مصادر تهديد حالة أو محتملة، إحدى الظواهر الثابتة للتفاعلات بين المجموعات البشرية منذ البدايات الأولي للوجود الإنساني‮. ‬ويتمثل أحد أهم أنماط هذا التعاون فيما يعرفه علم العلاقات الدولية باسم الأحلاف العسكرية‮.‬ إلا أنه يمكن كذلك تبين بعض أنماط التعاون المبكرة جدا بين مجموعات بشرية قديمة في مواجهة الطبيعة،‮ ‬سواء للتحكم في بعض قواها،‮ ‬أو درء مخاطرها، في ملامح أولي لما بات يعرف في تاريخنا المعاصر بالأمن الإنساني‮.‬
 
ومن دون التطرق إلى السؤال الفلسفي/التاريخي حول ما إذا كان انخراط تلك المجموعات البشرية الأولي في أنماط من التعاون يستهدف تعزيز قدرتها في مواجهة الطبيعة ناتجا عن عقد اجتماعي اختياري، أم نتيجة صراع فيما بينها،‮ ‬أفضي إلى‮ ‬غلبة بعضها،‮ ‬وفرض سيطرتها علي المجموعات الأخرى، فإن النتيجة المؤكدة أن هذا التعاون في مواجهة قوي الطبيعة عزز قدرة تلك المجموعات البشرية علي الوفاء المنظم باحتياجاتها،‮ ‬وعلي الاستقرار، خاصة في أحواض الأنهار الرئيسية في العالم القديم‮. ‬وإجمالا، يمكن القول إن هذا التعاون في مواجهة الطبيعة كان أحد أهم الشروط التاريخية لتأسيس اللبنات الأولي للحضارة الإنسانية،‮ ‬وللدولة لاحقا‮.‬
 
إلا أن العصور التاريخية اللاحقة للحظة التأسيس الأولي تلك، وحتى منتصف القرن العشرين، تكشف عن أن إدارة المواجهة مع الطبيعة أضحت إحدى الوظائف الأساسية لكل دولة في إقليمها، ولم تعد بأي حال موضوعا لخيار حر تقرره أي مجموعات بشرية خارج إطار الدولة‮. ‬وفي مسعى لتكريس سلطة الدولة،‮ ‬وقوتها المنفردة، خاصة في ظل الطبيعة المتحركة لحدود الدول التي لم تكن، حتى الإرهاصات الأولى لمبدأ احترام الحدود الدولية في منتصف القرن التاسع عشر، تتمتع بأي حماية،‮ ‬باستثناء ما توفره قوة الدولة، تراجعت أي نزعة للتعاون الأمني الإقليمي/الدولي ذي الأهداف البشرية العامة، تاركة المجال لغلبة الصراعات ذات الطبيعة الصفرية،‮ ‬ونزعات السيطرة والهيمنة علي العلاقات بين الدول، وعلي أنماط التعاون الأمني الذي قد ينشأ بين البعض منها،‮ ‬مؤسسا علي تلاق ظرفي تكتيكي ومؤقت في مواجهة تهديدات قادمة من أطراف أخري معادية‮.‬
 
أولا‮-‬ الإطار المفاهيمي للتعاون الأمني وتحولات البنية القطبية للنظام الدولي‮:‬
 
في السياق السابق بيانه لبيئة العلاقات الدولية حتى مطلع القرن العشرين، عُدّ‮ ‬ما بات يعرف بـ‮ "‬الأحلاف‮" ‬النمط الأساسي الأقدم والغالب تاريخيا للتعاون الأمني بين الدول‮. ‬ويستهدف الحلف الذي قد ينشأ بين دولتين أو أكثر التعاون من خلال التوظيف المشترك لقدراتها العسكرية لمواجهة عدو أو تهديد مشترك،‮ ‬سواء أكان هذا العدو أم التهديد موجودا في البيئة الخارجية،‮ ‬أم موجودا في البني الداخلية للدول المتحالفة جميعا،‮ ‬أو لبعضها فقط‮. ‬ويمكن أن يكون الحلف بهذا المعني دفاعيا أو هجوميا‮.‬ إلا أن‮ ‬غايته في الحالتين تبقي تحييد المخاطر التي يطرحها هذا العدو أو التهديد،‮ ‬سواء من خلال القضاء عليه مطلقا، أو من خلال تدمير قدرته علي السعي لتحقيق مصالحه التي ينتج عنها هذا الخطر، أو أخيرا من خلال ردعه في الحد الأدنى عن مثل هذا السعي‮. ‬وبالنظر إلى خصائصه الصفرية تلك في العلاقة مع الآخر، فإن قدرة الأحلاف علي ضمان الأمن الدولي واستقراره ترتبط بأحد سيناريوهين، هما‮:‬
 
1- ‬سيناريو التوازن الحرج الذي يحول دون إقدام أي من طرفيه علي القيام بأي اعتداء مباشر علي الطرف الآخر،‮ ‬يؤدي إلى تقويض حالة اللاصدام العسكري،‮ ‬دون توافر أي ضمانة للانتصار‮. ‬ويرتبط هذا السيناريو بألا تكون المصالح التي تحول دون تحقيقها حالة اللاصدام تلك ذات طبيعة جوهرية تتجاوز في أهميتها أي تكلفة قد تنتج عن خوض المواجهة العسكرية‮. ‬وقد كانت الحرب الباردة،‮ ‬منذ خمسينيات القرن العشرين بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق،‮ ‬نموذجا مثاليا لهذا السيناريو، وإن لم يحل دون خوض الطرفين لصراعاتهما عن طريق حروب بالوكالة،‮ ‬عبر مناطق العالم المختلفة الخارجة عن نطاق الأحلاف العسكرية المباشرة لكلتا الدولتين‮. ‬وبالتالي،‮ ‬يمكن القول إن سيناريو التوازن الحرج هذا،‮ ‬وإن أسهم في الحد من فرص الصدام المباشر بين طرفيه أو أطرافه، فإنه لا يحول بأي حال دون خوضهما صراعات‮ ‬غير مباشرة أقل حدة بعيدة عن أقاليم الأطراف المنخرطة في هذه الأحلاف،‮ ‬أو مجالاتها الجيوسياسية الحيوية،‮ ‬وبما لا يهدد بنشوب مواجهة مباشرة فيما بينها‮.‬ ويبقي هدف تلك الصراعات‮ ‬غير المباشرة تقويض القوة الشاملة للطرف الآخر علي أحد المديين المتوسط أو البعيد، أو منع تعزيزها علي أقل تقدير‮.‬
 
2-  ‬سيناريو الخلل الجوهري في التوازن، الذي يتيح للأطراف المنخرطة في حلف عسكري تحقيق نصر حاسم، سواء أكان نهائيا أم لا، علي العدو،‮ ‬أو التهديد المشترك‮. ‬وفي هذه الحالة، عادة ما يلجأ أطراف الحلف المتفوق إلى شن الحرب،‮ ‬أو خوض مواجهة عسكرية تتيح لها فرض إرادتها،‮ ‬ونمط السلام الملائم لها‮. ‬وعادة ما يميل أطراف الحلف الذي يمكنه تحقيق هذا التفوق الحاسم إلى توسعة هذا الحلف إلى الحد الذي يتيح لهم تحقيق هذه الغاية‮. ‬ويتجلي هذا السيناريو في حالات الحروب الكبرى،‮ ‬سواء علي صعيد إقليمي،‮ ‬مثلما فعلت القوي الأوروبية لمواجهة الطموحات التوسعية النابليونية،‮ ‬أو علي الصعيد العالمي،‮ ‬إبان الحربين العالميتين الأولي والثانية‮.‬
 
وإجمالا، فإن الأحلاف،‮ ‬بحسب ما يبدو في السيناريوهين السابقين،‮ ‬لا تستهدف تسوية العوامل العميقة للصراع الدولي بقدر ما تعكس عجزا عن تسويتها،‮ ‬بل وتشجع علي تغييبها لمصلحة إدارة الصراع ذاته‮. ‬لذا،‮ ‬فإن الأحلاف لا يندرج ضمن أهدافها المباشرة، في أي من السيناريوهين السابقين، تعزيز بناء سلمي توافقي وتعاوني للعلاقات الدولية، ولا تضمن حالة مستقرة وشاملة من السلم الدولي في إقليم بعينه،‮ ‬أو عبر العالم، بل إنها‮ ‬غالبا ما تدفع الأطراف المعادية للدخول في سباق لبناء القوة،‮ ‬وما يترتب علي ذلك من تزايد التوتر في العلاقات الدولية‮. ‬وإذا كانت الأحلاف العسكرية تعزز، في المقابل، من فرص السلام،‮ ‬والتعاون بين أطرافها، من خلال بناء الثقة،‮ ‬وتوافق المصالح الاستراتيجية،‮ ‬وتشجيع تطوير آليات لتجنب النزاعات وتسويتها، فإن استدامة هذا التأثير فيما يتجاوز مواجهة العدو المشترك تقتضي أحد سبيلين‮:‬
 
1- ‬استمرار وجود تهديد مشترك،‮ ‬سواء أكان ذلك واقعيا أم مصنطعا‮.‬ وقد يرتبط بذلك عدم تهديد طبيعة التهديد المشترك،‮ ‬مثلما حدث من إعادة تعريف‮ ‬غاية حلف الناتو، إبان قمته في واشنطن في عام‮ ‬1998،‮ ‬حيث لم تعد مجرد الدفاع عن حدود الدول الأعضاء،‮ ‬بل حماية مصالح الدول الأعضاء،‮ ‬مما يجعلها‮ ‬غير محدودة بنطاق جغرافي،‮ ‬أو بتهديد ذي اتجاه محدد‮.‬
 
2- ‬تطوير علاقات التعاون بين أطراف التحالف لتصبح أكثر هيكلية،‮ ‬وتكاملا،‮ ‬وارتباطا بمصالح تتجاوز في ديمومتها الأبعاد الظرفية للحلف العسكري التقليدي، سواء أكان هذا التطوير في فضاءات‮ ‬غير أمنية بشكل مباشر،‮ ‬مثل الاقتصاد،‮ ‬أو الثقافة،‮ ‬أو‮ ‬غيرها، أم حتى في فضاءات أمنية تتجاوز المفهوم والأدوات العسكرية التقليدية‮.‬
 
بهذا المعني، فإن تأثير الأحلاف العسكرية في تطور هيكل القطبية الدولي،‮ ‬وعلاقتها به،‮ ‬ارتبط تاريخيا وحتي اليوم بما يمكن تسميته‮ "‬البنية الاستراتيجية للقطبية الدولية‮"‬،‮ ‬التي تعني بقدرة القوة أو القوي المتصدرة للهيكل القطبي للنظام الدولي،‮ ‬والقوي المنافسة،‮ ‬أو المتحدية لها في كل مرحلة من مراحل تطور هذا النظام،‮ ‬علي اكتساب العناصر المادية الاستراتيجية للقوة،‮ ‬سواء العسكرية،‮ ‬أو الاقتصادية‮.‬
 
عقب الحرب العالمية الأولي، ولكن بشكل أكثر جلاء منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بدأ يتصاعد الجهد الدولي لتطوير أطر مفاهيمية أخري للتعاون الأمني، بخلاف نموذج الأحلاف الذي ظل مهيمنا،‮ ‬حتي تلك اللحظة، علي المستويين العالمي والإقليمي‮. ‬ويمكن إجمال أبرز هذه الأطر المفاهيمية فيما يأتي‮:‬
 
1- ‬مفهوم الأمن الجماعي،‮ ‬وبرز في القرن العشرين استجابة إلى الآثار المتباينة التي تخلفها سياسات توازن القوي والأحلاف العسكرية علي الأمن الدولي‮. ‬وكانت أولي المحاولات في هذا الصدد عالمية النطاق،‮ ‬من خلال عصبة الأمم، والتي تلتها الأمم المتحدة، حيث هدفت إلى تجنب الحروب،‮ ‬أو احتوائها،‮ ‬من خلال محاولة ضمان استجابة لأي فعل يمثل عدوانا أو تهديدا للسلم بين أعضاء كلتا المنظمتين‮. ‬ولكي‮ ‬يتسم أي نظام مماثل بفعالية في سبيل تحقيق‮ ‬غايته المقصودة، فإنه يتعين أن يضم جميع الدول في نطاقه المستهدف،‮ ‬سواء أكان إقليما،‮ ‬أم العالم بأسره‮.‬
 
وبخلاف محاولات تأسيس أمن جماعي علي النطاق العالمي، برزت بعض الكيانات الإقليمية الكبرى، مثل الاتحاد الإفريقي،‮ ‬ومنظمة الدول الإفريقية،‮ ‬ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي، التي يمكن عدّ‮ ‬تحقيق الأمن الجماعي في نطاقها الإقليمي إحدي‮ ‬غاياتها المعلنة أو الضمنية‮. ‬لكن توافر شرط جماعية العضوية وشمولها لم يكن بذاته، علي أي من المستويين الإقليمي أو العالمي، كافيا لضمان فاعلية مؤسسات الأمن الجماعي‮.‬ بل ربما أسهمت تلك العضوية الجماعية،‮ ‬علي العكس،‮ ‬في الحد من تلك الفاعلية بسبب تباين الإرادات،‮ ‬خاصة بين القوي الكبري في كل من تلك المنظمات، وعدم التوافق المعياري والمصلحي بين أعضائها فيما يتعلق بتقييم عناصر الخطر والتهديد في كل من حالات الأزمات المختلفة‮.‬
 
2- ‬مفهوم النظام الأمني‮ ‬Security Regime، مثله مثل مفهوم النظام في أي من مجالات التعاون الدولي الأخرى‮ ‬غير الأمنية، يستهدف تحديد المعايير والقواعد‮ "‬التعاونية‮" ‬التي يتعين أن تلتزم بها سلوك الدول التي تقبل الانخراط في مثل هذا النظام في إحدى دوائر التعاون الأمني، بما يضمن تحقيق نتائج إيجابية لا صفرية،‮ ‬ومنافع مشتركة لجميع المنخرطين في هذا النظام،‮ ‬أو للأمن الإقليمي أو العالمي عامة‮. ‬وتتضمن تلك الأنظمة آليات لتطبيق تلك المعايير، وتعزيزها،‮ ‬والتحقق من الالتزام بها‮. ‬ويمكن أن يكون تأسيس أنظمة أمنية أحد محاور إطار للأمن الجماعي‮.‬ لكن تأسيس مثل تلك الأنظمة لا يتقيد بالضرورة بتوافر إطار للأمن الجماعي‮. ‬ويمكن أن تشمل مثل تلك الأنظمة الأمنية مدونات للسلوك،‮ ‬يخفض الالتزام بها من احتمالات نشوب الحروب،‮ ‬أو الصراعات المسلحة،‮ ‬مثل عدم استخدام القوة، واحترام الحدود الدولية القائمة، أو يمكن أن تنظم امتلاك بعض منظومات الأسلحة، كما ونوعا، وتنظم كيفية استخدامها، أو تنظم ممارسة بعض الأنشطة والتحركات،‮ ‬ذات الطبيعة العسكرية‮. ‬ويندرج في هذا الإطار إجراءات ضبط التسلح علي نطاق إقليمي،‮ ‬مثل المناطق الخالية من الأسلحة النووية، أو معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا التي أبرمت عام‮ ‬‭.‬1990
 
3- ‬مفهوم الجماعة الأمنية،‮ ‬وتعرف بأنها مجموعة من الدول تتوافر فيما بينها ضمانات حقيقية بأنها لن تلجأ إلى محاربة بعضها بعضا بشكل مادي، وستعمل علي تسوية نزاعاتها بطرق أخري‮. ‬وطور هذا المفهوم كارل دويتش في أواخر الخمسينيات ليقدم تأطيرا نظريا للأهداف بعيدة المدى التي تتوخاها، أو يتعين أن تتوخاها، تجربة التكامل الأوروبية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية‮. ‬ويفترض مفهوم الجماعة الأمنية لذلك تحقيق درجة من التفاعلات البينية التعاونية الأكثر كثافة،‮ ‬واستدامة،‮ ‬وشمولية من كل النماذج والأطر السابق بيانها للتعاون الأمني الإقليمي‮.‬
 

وأثار مفهوم الجماعة الأمنية طموحات عبر عقود عدة لاحقة لانطلاق تجربة التكامل الأوروبية بشأن ما يمكن أن تتيحه ديناميات التكامل في مجالات‮ ‬غير أمنية بالضرورة من إمكانية تطوير جماعات الدول،‮ ‬التي تتنبي هذا النهج،‮ ‬قدرة علي ضمان أمن أعضائها،‮ ‬وتحقيق السلام فيما بينهم بشكل يفوق ما يمكن أن تنجزه نقطة البدء الخاصة بإزالة خطر الصراع بين هؤلاء الأعضاء، بل ويفوق في محصلته النهائية مجموع ما يمكن أن تحققه إجراءات إرساء الأمن المتخذة فيما بينهم‮. ‬وجرت عدة محاولات لتأسيس مثل هذه الجماعات في عدة أقاليم‮ ‬غير أوروبية‮.‬ لكن ظلت طبيعة الآثار الأمنية متوسطة وبعيدة المدى،‮ ‬التي يمكن أن تترتب علي التكامل الإقليمي،‮ ‬موضوعا إشكاليا،‮ ‬ويفتقر لأطر محكمة لفهمه، وبالتالي لآليات واقعة وفعالة لضبطه، خاصة مع تصاعد المشكلات الأمنية التي بدأ يعانيها الاتحاد الأوروبي‮.‬
 
ورغم النجاح الذي أتاحته تجربة التكامل الأوروبية في تحقيق السلام بين دولها الأعضاء،‮ ‬فإنها لم تنجح في تحقيق بيئة آمنة بشكل كامل لأعضائها‮.‬ بل إن بعض تلك التحديات يرتبط جزئيا بطبيعة ومنطق الجماعة الأمنية نفسها،‮ ‬التي رأي دويتش أن تلك التجربة تتوخي الوصول إليها‮. ‬ويمكن تحديد ثلاثة مظاهر أساسية لهذه التحديات الأمنية، هي‮:‬
 
أ‮- ‬عجز تجربة التكامل الأوروبية، رغم السلام البيني الذي تحقق بين دولها، عن القضاء علي عوامل التهديد الأمني داخل تلك الدول، مثلما برز في حالتي أيرلندا الشمالية وإقليم الباسك‮.‬
 
ب‮- ‬تزايد قابلية تعرض دول الاتحاد الأوروبي لانتشار‮ "‬عدوي‮" ‬التهديدات الأمنية‮ ‬غير التقليدية، مثل الإرهاب،‮ ‬والجريمة المنظمة،‮ ‬والهجرة‮ ‬غير الشرعية،‮ ‬والأوبئة، خاصة مع التوجه نحو خفض القيود الحدودية بين الدول الأعضاء،‮ ‬في إطار اتفاقية‮ "‬شنجن‮" ‬لتعزيز فرص التكامل فيما بينها‮. ‬ورغم أن كثيرا من مصادر التهديد تلك قد يكون نابعا من خارج دول الاتحاد الأوروبي، فإنه في حال تمكن أي منها من اختراق أي نقطة حدودية هشة في إحدى دول الاتحاد المنخرطة في اتفاقية‮ "‬شنجن‮"‬، فقد بات من السهل انتشار هذا التهديد عبر حدود كل الدول الأعضاء في تلك الاتفاقية‮.‬
 
ج‮- ‬يرتبط التحدي السابق بعجز دول الاتحاد الأوروبي عن تطوير سياسة دفاعية مشتركة فعالة،‮ ‬وتطوير قدرات ردع استراتيجية متنوعة بشكل جماعي‮. ‬ولا يتعلق ذلك فقط بعدم التوافق حول اقتسام أعباء تطوير مثل تلك السياسة الدفاعية،‮ ‬أو التطوير الجماعي لقدرات الردع الاستراتيجية، ولكنه يرتبط بشكل أكثر عمقا بمخاوف دول الاتحاد من هيمنة إحداها،‮ ‬أو بعضها، خاصة من الدول التي قد تسهم بدرجة أكبر في تحمل تلك الأعباء، علي القرار الأمني،‮ ‬وخيارات السياسة الخارجية لبقية الدول الأعضاء‮. ‬ولا تقتصر المخاوف في هذا الصدد علي الدول الأضعف في الاتحاد،‮ ‬بل تمتد إلى دوله الكبرى التي تخشي أن يحفز تطوير هيكل دفاعي أوروبي،‮ ‬أكثر فاعلية وتكاملا،‮ ‬التنافس فيما بينها حول من تكون له اليد العليا في تحديد توجهات اتحاد أوروبي أكثر تكاملا أمنيا،‮ ‬وأكثر فاعلية عسكريا علي الصعيد الدولي‮.‬
 
وإذا كانت هذه المخاوف،‮ ‬وما أفرزته من تباطؤ تطوير بناء دفاعي أوروبي قوي، تقع في القلب من منطق تجربة التكامل الأوروبية، فإن تلك التجربة‮ -‬في التحليل الأخير‮- ‬أبقت أمن أوروبا إزاء التهديدات النابعة من البيئة الخارجية رهنا بتأثيرات قوي‮ ‬غير أوروبية،‮ ‬وبخياراتها‮. ‬ويمكن تبين هذا الارتهان الأوروبي في فرض أجندة السياسة الخارجية والدفاعية الأمريكية علي دول الاتحاد الأوروبي في أزمات دولية خطيرة في الجوار الأوروبي، أو في تأثر الأمن الأوروبي بتداعيات التحدي الروسي المتنامي للقيادة الأمريكية للنظام الدولي، ومحاولات الاحتواء الأمريكية لهذا التحدي، أو حتي في عجز أوروبا عن ردع محاولات قوي متوسطة،‮ ‬مثل تركيا،‮ ‬إزاحة بعض صراعاتها الإقليمية، خاصة في الشرق الأوسط، إلى الفضاء الأوروبي‮.‬
 
تعد الأطر المفاهيمية الثلاثة التي تم توضيحها سابقا في جزء منها استجابة للتداعيات السلبية التي ترتبت علي هيمنة منطق الأحلاف العسكرية،‮ ‬وسياسات توازن القوي علي الأمن العالمي، خاصة بعد الحربين العالميتين الأولي والثانية‮.‬ كما يرتبط تطور هذه المفاهيم بشكل مباشر بتداعيات تسارع التواصل البشري،‮ ‬وازدياد كثافته،‮ ‬خاصة مع الثورات التكنولوجية والمعرفية المتواصلة خلال القرن العشرين وحتي الآن، إضافة إلى ما نتج عن تلك الثورات، في آن واحد وبشكل‮ ‬غير مسبوق، من تصاعد فرص وإمكانيات التكامل من جهة، أو تفاقم المخاطر الأمنية عالمية الطابع،‮ ‬من جهة أخري، سواء ارتبطت تلك المخاطر بتأثيرات التطور المستمر في منظومات التسلح، أو ببروز تحديات أمنية‮ ‬غير تقليدية،‮ ‬وذات طبيعة مشتركة بين دول العالم المختلفة‮.‬
 
وبالرغم مما توفره تلك الأطر من قدرة علي فهم كثير من محاولات التعاون الأمني الإقليمي،‮ ‬وغاياتها المبدئية، فإن هذه الأطر بذاتها لا توفر معطيات تقييمية كافية لتلك المحاولات،‮ ‬وعوامل نجاحها أو إخفاقها، بالنظر لأن تلك المحاولات، من جهة، عادة ما يتداخل في بنيتها وآلياتها عناصر مختلفة من هذه الأطر الثلاثة، ولأن جزءا من التباين بين هذه المحاولات، نجاحا أو فشلا،‮ ‬أو حتي تطورا، لا يرتبط، من جهة أخري، بالإطار المفاهيمي الذي تنطلق منه فقط، لكن أيضا بمعطيات السياقات التي جرت هذه المحاولات في إطارها،‮ ‬سواء أكانت سياقات مؤسسية،‮ ‬أو ثقافية،‮ ‬أو سياسية،‮ ‬أو اقتصادية ترتبط بالدول المنخرطة فيها، أم بسياقات البيئة الخارجية وتحدياتها‮.‬
 
ويمكن،‮ ‬إجمالا،‮ ‬تلخيص محددات العلاقة بين أطر التعاون الأمني الثلاثة الأساسية تلك بتطورات هيكل القطبية في النظام الدولي في بعدين أساسيين‮:‬
 
1- ‬إن هذه الأطر،‮ ‬من خلال تركيزها علي خفض عوامل الصراعات المسلحة والحروب،‮ ‬ونزع أسبابها،‮ ‬أو‮ -‬علي الأقل‮- ‬الحد منها، لا تعني بزيادة القدرات العسكرية للدول المنخرطة فيها، بل علي العكس،‮ ‬فإنها،‮ ‬في جزء منها،‮ ‬قد تعمل علي تقييد تلك القدرات‮. ‬وبالتالي، فإن الأطر الثلاثة، خلافا للأحلاف العسكرية، تعمل في جوهرها علي تحييد ما سميناه آنفا‮ "‬البنية الاستراتيجية للقطبية الدولية‮"‬، مقابل محاولة إرساء ما يمكن تسميته‮ "‬البنية المعيارية للقطبية الدولية‮". ‬ويرتكز هذا المفهوم بشكل أساسي علي ما يتوافر لدي القوي الدولية من موارد فكرية وقيمية، مثل مدي التزامها بالقانون الدولي،‮ ‬والعمل المؤسسي الدولي،‮ ‬والإحساس بالهوية الجمعية،‮ ‬سواء علي المستوي الإقليمي أو العالمي‮. ‬كما لا يستند هذا المفهوم إلى مقولات توازن القوي،‮ ‬وسياسات إضعاف الخصوم، بل يعني بتعزيز سياسات التعاون الدولي، وتعزيز الأمن،‮ ‬من خلال إتاحة فرص متبادلة لتعزيز مصالح جميع الأطراف بشكل جمعي وعادل، مما يحد من عوامل الصراع‮.‬
 
2- ‬إن هذه الأطر الثلاثة عكست بشكل جلي‮ ‬التطور الذي‮ ‬طرأ علي مفهومي‮ ‬الإقليمية والأمن‮. ‬فمن جهة،‮ ‬لم تعد الإقليمية تقتصر علي مجرد التقارب الجغرافي،‮ ‬بل أضحت تشمل أيضا التقارب في‮ ‬الغايات الوظيفية لمجموعة من الدول التي‮ ‬تلتقي‮ ‬مصالحها في‮ ‬مجال من المجالات،‮ ‬فيما بات‮ ‬يعرف بـ‮ "‬الإقليمية الوظيفية‮"‬،‮ ‬أو ما وصفه عالم الاجتماع الإسباني‮ ‬مانويل كاستلز‮ ‬Manuel Castells بعبارته البليغة‮ "‬فضاء التدفقات‮"‬.(Space of Flows) ‮ ‬في‮ ‬هذا السياق،‮ ‬بات ممكنا،‮ ‬منذ منتصف القرن العشرين خاصة،‮ ‬أن نشهد تعاونا،‮ ‬أو حتي تكاملا،‮ ‬في‮ ‬أحد المجالات بين دول لا‮ ‬يجمعها نطاق جغرافي‮ ‬واحد أو متقارب،‮ ‬مثل بعض الكيانات التي‮ ‬تعني بالتعاون في‮ ‬مجال البيئة أو تعزيز التجارة أو حتي مكافحة الإرهاب‮.‬
 
أتاح هذا التوسع في‮ ‬مفهوم الإقليمية أن نشهد حضورا متزايدا لبعض القوي الكبري المتنافسة علي النفوذ في‮ ‬النظام الدولي‮ ‬في‮ ‬تفاعلات نظمية مع دول لا تقع في‮ ‬أقاليمها المجاورة بشكل مباشر‮. ‬وإذا كان ذلك‮ ‬يبرز بجلاء في‮ ‬حضور الولايات المتحدة بشكل رئيسي،‮ ‬فإنه‮ ‬يمكن أن نلمح كذلك حضورا متزايدا لقوي دولية منافسة لها مثل الصين وروسيا أو حتي بعض القوي الأوروبية مثل ألمانيا في‮ ‬بعض فضاءات التعاون الأولية مع دول في‮ ‬الشرق الأوسط أو إفريقيا أو أمريكا اللاتينية،‮ ‬وفي‮ ‬مجالات تمتد من مكافحة القرصنة في‮ ‬منطقة بحر العرب وخليج عدن،‮ ‬إلى مكافحة الإرهاب في‮ ‬شرق المتوسط،‮ ‬إلى تعزيز نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان‮. ‬بعبارة أخري،‮ ‬أضحت الإقليمية هي‮ ‬أحد فضاءات تجلي‮ ‬التنافس القطبي،‮ ‬بقدر ما صارت إحدى أدواته‮.‬
 
ومن جهة أخري،‮ ‬توسع مفهوم الأمن بدوره،‮ ‬فلم‮ ‬يعد‮ ‬يقتصر علي الأبعاد العسكرية التقليدية،‮ ‬بل بات‮ ‬يشمل طائفة واسعة من عناصر التهديد‮ ‬غير التقليدية،‮ ‬مثل التغير المناخي‮ ‬أو الجوائح‮ (‬الأوبئة واسعة الانتشار‮)‬،‮ ‬بل ويشمل أيضا قضايا سياسية واقتصادية مثل نشر الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان‮. ‬ويعكس هذا التوسع الطبيعة متزايدة التعقيد لقضايا الأمن والاستقرار،‮ ‬وتداخلها مع فضاءات عديدة من الأنشطة الإنسانية،‮ ‬والأهم في‮ ‬الإدراك الدولي‮ ‬للمستهدفين بتحقيق الأمن،‮ ‬والذين لم‮ ‬يعودوا‮ ‬يقتصرون علي الدولة ككيان مجرد أو أنظمة الحكم،‮ ‬بل باتت الإنسانية في‮ ‬مجموعها،‮ ‬والإنسان الفرد في‮ ‬ذاته،‮ ‬غايات أصيلة للأمن المستهدف علي الأقل علي مستوي الخطاب الرسمي‮ ‬لأغلب الدول والحكومات والبناء الحقوقي‮ ‬والقانوني‮ ‬الدولي‮. ‬لكن واقع الممارسة الدولية لا‮ ‬يعكس التزاما حقيقيا بتلك المبادئ والغايات المعلنة،‮ ‬بقدر ما أضح السعي‮ ‬لتحقيق هذه الغايات،‮ ‬بشكل انتقائي،‮ ‬أداة لإضفاء ستار من الشرعية علي السياسات التدخلية للقوة الكبري،‮ ‬واستخدامها القوة في‮ ‬مواجهة دول أخري سواء من خلال النظام القانوني‮ ‬الدولي‮ ‬أو خارجه‮.‬
 
ثانيا،‮ ‬الأمن الإقليمي‮ ‬وآفاق الانتقال إلى التعددية القطبية‮:‬
 
إبان الحرب العالمية الثانية،‮ ‬رأي‮ ‬رئيس الوزراء البريطاني‮ ‬آنذاك ونستون تشرشل أن ترتيبات الأمن الإقليمية‮ ‬يمكنها أن توفر أساسا لنظام متعدد الأقطاب،‮ ‬وأن تضمن توازنا للقوي‮ ‬يحول دون نشوب مواجهة عالمية أخري‮. ‬ويبدو أن تشرشل الذي‮ ‬كان‮ ‬يدرك الانهيار الكبير في‮ ‬قوة بريطانيا الذي‮ ‬عكسته تلك الحرب،‮ ‬ويستشرف التآكل الكبير في‮ ‬مكانتها ونفوذها الدوليين المتوقعين بعدها،‮ ‬كان‮ ‬يحاول توفير توفير طرح نظري‮ ‬لهيكل دولي‮ ‬يتيح احتواء نفوذ القوتين الأمريكية والسوفيتية الصاعدتين خلال تلك الحرب‮. ‬لكن الواقع العملي‮ ‬عقب نحو سبعين عاما من انتهاء تلك الحرب،‮ ‬وتعاقب هيكل ثنائي‮ ‬القطبية،‮ ‬ثم هيكل أحادي‮ ‬القطبية،‮ ‬علي قمة النظام الدولي،‮ ‬يكشف أن انتشار ترتيبات الأمن الإقليمي‮ ‬بأشكالها المختلفة لم تنجح في‮ ‬توفير هذا الأساس لنظام متعدد الأقطاب،‮ ‬بل إن تلك الترتيبات أمكن احتوائها في‮ ‬إطار كلا الهيكلين القطبيين المشار إليهما‮.‬
 
وكان واضحا أن فائض القوة هو ما أتاح للولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي‮ ‬إبان فترة الحرب الباردة احتواء أي‮ ‬ترتيبات أمنية إقليمية والحيلولة دون أن تبرز بعدها منافسا لهيمنة أي‮ ‬من القطبين العالميين‮. ‬بعبارة أخري،‮ ‬لم‮ ‬يكن متاحا لأي‮ ‬من تلك الترتيبات،‮ ‬في‮ ‬ضوء المحدودية النسبية لمجموع القوة المتوافرة لأطرافها،‮ ‬أن تحقق‮ ‬غاياتها،‮ ‬أو تضمن حتي استقلالا أمنيا للدول المنخرطة فيها،‮ ‬بمعزل عن حضور ودعم أحد هذين القطبين‮. ‬وكان فائض القوة هذا ذاته هو ما حاولت الولايات المتحدة الأمريكية قدرتها علي ضمانه للنظام الدولي‮ ‬وفرضه علي التفاعلات الدولية والإقليمية خلال الخمسة عشرة عاما التي‮ ‬تلت انهيار الاتحاد السوفيتي‮. ‬إلا أن عثرات خبرة التدخل الأمريكي‮ ‬في‮ ‬العراق وأفغانستان،‮ ‬والاستنزاف الكبير للقوة الأمريكية الذي‮ ‬نتج عن انتشارها الواسع حول العالم،‮ ‬كشف أن هيكل القطب الواحد الأمريكي‮ ‬لا‮ ‬يمكنه توفير فائض القوة القادر علي ضمان استقرار العلاقات الدولية وضبط تفاعلاتها وضمان الأمن عبر مناطق العالم المختلفة‮.‬
 
في‮ ‬هذا الإطار،‮ ‬بدأت تبرز قوي منافسة للولايات المتحدة تسعي علي أقل تقدير إلى احتواء هيمنتها القطبية،‮ ‬في‮ ‬المدى القريب،‮ ‬وربما المتوسط،‮ ‬ولم تخف تلك القوي عقب الإخفاقات الأمريكية في‮ ‬العراق وأفغانستان عن رغبتها في‮ ‬بناء نظام عالمي‮ ‬متعدد الأقطاب‮. ‬وإذا كانت تلك الدعوات استغلت مفاهيم الحكومة العالمية،‮ ‬والديمقراطية الدولية،‮ ‬مدخلين لإضفاء الشرعية علي مطلبها هذا،‮ ‬فإن الواقع العملي‮ ‬يعكس تصاعدا كبيرا في‮ ‬أهمية التعاون الأمني‮ ‬الإقليمي‮ ‬كمدخل حقيقي‮ ‬لفرض اقتسام نفوذ دولي‮ ‬عبر مناطق العالم المختلفة‮. ‬ويبدو أن تلك الترتيبات الأمنية الإقليمية ستكون هي‮ ‬ساحة التنافس الرئيسية بين الولايات المتحدة والقوي الدولية الصاعدة والطامحة لأدوار دولية أكبر لتحديد طبيعة الهيكل القطبي‮ ‬الذي‮ ‬يمكن أن‮ ‬ينتهي‮ ‬إليه هذا التنافس‮.‬
 
ويبدو أن أحد أهم الأسئلة أمام هذا الأفق‮ ‬يتمثل فيما إذا كان الهيكل القطبي‮ ‬الجديد قيد التشكل سيتأسس استنادا إلى المعطيات الاستراتيجية المادية،‮ ‬أم المعيارية القانونية والمؤسسية‮. ‬وعادة ما‮ ‬يفترض أنصار الهيكل القطبي‮ ‬القائم علي التوافق المعياري،‮ ‬أن جهود التعاون المؤسسية المستندة في‮ ‬منطقها إلى مقولاته،‮ ‬وإلى الآليات الهادفة إلى تجاوز تعارض المصالح وصراع القوي،‮ ‬تعزز خيار التعددية القطبية‮. ‬لكن‮ ‬يبقي الجلي‮ ‬في‮ ‬التحليل الأخير أنه رغم التقدم الذي‮ ‬أحرزه المجتمع الدولي،‮ ‬بدرجات متفاوتة بين أقاليم العالم المختلفة،‮ ‬فإن مثل هذا الالتزام المعياري‮ ‬ليس هو الحاكم بشكل مستدام وراسخ لسلوك الدول،‮ ‬أو المستقر في‮ ‬تفاعلاتها‮. ‬وفي‮ ‬أفضل الأحوال،‮ ‬فإن ضمان نجاح محاولات التعاون الأمني‮ ‬المستندة إلى هذا البناء المعياري‮ ‬يبقي رهنا بخيارات القوي الكبري في‮ ‬النظام الذي‮ ‬تستهدفه محاولات التعاون الأمني‮ ‬تلك‮.‬
 
ويكشف استقراء خبرة تلك التجارب في‮ ‬مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية،‮ ‬سواء في‮ ‬إطار معاهدات ضبط التسلح أو أنظمة الأمن الجماعي،‮ ‬عن أن التزام القوي الكبري بمثل تلك الإجراءات‮ ‬يبقي رهنا بعدم الإخلال بتفوقها أو علي الأقل بتوازن القوي بينها وبين القوي الدولية الأخرى‮. ‬ومن أمثلة المواقف الانتقائية للقوي الكبري من جهود التعاون الأمني‮ ‬اللاصفرية التي‮ ‬تستهدف تحقيق مصالح عامة لمجموع الدول،‮ ‬رفض الولايات المتحدة،‮ ‬في‮ ‬عام 1999،‮ ‬التصديق علي اتفاقية حظر التجارب النووية،‮ ‬ورفضها توقيع اتفاقية حظر الألغام،‮ ‬وانسحابها،‮ ‬في‮ ‬عام‮ ‬2001،‮ ‬وبشكل منفرد،‮ ‬من اتفاقية حظر الصواريخ الباليستية،‮ ‬ورفضها في‮ ‬العام ذاته تعديلات مقترحة لتفعيل اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية والسامة،‮ ‬وفرضها تحفظات واسعة علي التزامها باتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية‮. ‬في‮ ‬المقابل،‮ ‬فإن قبول بعض القوي الإقليمية أو العالمية لمعاهدات ضبط التسلح وقيودها كثيرا ما‮ ‬يكون نتيجة اختلال موازين القوي في‮ ‬غير مصلحتها،‮ ‬وتنامي‮ ‬الضغوط الدولية ضدها أكثر منه نتيجة اقتناع بمنطق تقييد القوة المتبادل الذي‮ ‬تقوم عليه هذه الترتيبات‮. ‬ولعل في‮ ‬الاتفاق النووي‮ ‬الذي‮ ‬وقعته إيران مع مجموعة‮ "‬5‮+‬1‮"‬،‮ ‬في‮ ‬نهاية عام‮ ‬2015،‮ ‬مثالا واضحا في‮ ‬هذا الصدد‮.‬
 
لذلك،‮ ‬يمكن افتراض أن مستقبل الهيكل القطبي‮ ‬سيبقي مستندا،‮ ‬بشكل أساسي،‮ ‬إلى توزيع معطيات القوة الاستراتيجية في‮ ‬الأمد المنظور‮. ‬وما نشهده في‮ ‬اللحظة الراهنة هو في‮ ‬جوهره معركة استنزاف بين القطب الأمريكي‮ ‬ومنافسيه عبر فضاء ترتيبات الأمن الإقليمية.
 
للتواصل مع الكاتب: [email protected]

رابط دائم: