الحرب بوسائل أخري‮ .. ‬الجغرافيا الاقتصادية وفن إدارة الدولة
27-6-2016

روبرت بلاكويل، وجينيفر هاريس
*
عرض: أحمد محمود مصطفي باحث في العلوم السياسية
 
Robert D. Blackwill and Jennifer M. Harris, War by Other Means: Geoeconomics and Statecraft, (Massachusetts: Harvard University Press, 2016)
 
يقدم روبرت بلاكويل وجينيفر هاريس في هذا الكتاب نبذة تاريخية لاستغلال الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية للأدوات الاقتصادية،‮ ‬وتوظيفها لتحقيق أهدافها الجيوسياسية، وما حدث بعد ذلك من تراجع الجغرافيا الاقتصادية ضمن أدوات السياسة الخارجية، ثم محاولات الولايات المتحدة لاستعادة أدواتها الجيو-اقتصادية‮.‬
 
يعرف المؤلفان‮ "‬الجغرافيا الاقتصادية‮" ‬بأنها استخدام الأدوات والآليات الاقتصادية لتعزيز مكانة الدولة،‮ ‬وتحقيق مصالحها القومية، علاوة علي استكشاف آثار السياسات الاقتصادية للدول الأخرى علي الأهداف الجيوسياسية للدولة‮. ‬ووفقا لهذا التعريف،‮ ‬يمكن للدولة أن توظف عددا من الأدوات لتحقيق أهدافها،‮ ‬وذلك من قبيل‮: ‬التبادل التجاري، والاستثمار، والعقوبات الاقتصادية،‮ ‬والمساعدات‮. ‬وترتبط كفاءة الدولة في استخدام هذه الأدوات بعدد من المحددات، أهمها‮: ‬مدي مركزية الدولة في النظام المالي العالمي، وهيكل السوق داخل الدولة من حيث الحجم الكلي، ودرجة التحكم في الاستثمارات الواردة والصادرة، وتوقعات النمو المستقبلي‮.‬
 
الجغرافيا الاقتصادية في التاريخ الأمريكي‮:‬
 
يشير المؤلفان إلي أنه عقب الثورة الأمريكية، كان الآباء المؤسسون للولايات المتحدة علي اقتناع بأن الأدوات الاقتصادية يمكن أن تحقق للولايات المتحدة أهدافها ومصالحها بفعالية‮. ‬وقد ظهرت هذه الأفكار لدي ألكسندر هاميلتون‮ -‬مؤسس الرأسمالية الأمريكية‮- ‬الذي عدّ‮ ‬التجارة أحد الأسلحة المهمة للسياسة الخارجية الأمريكية‮. ‬كما تبني الرئيس الأمريكي،‮ ‬الأسبق توماس جيفرسون،‮ ‬الرؤية ذاتها،‮ ‬حينما قام بشراء إقليم لويزيانا في عام‮ ‬1803‮ ‬من فرنسا، وتجنب استخدام القوة العسكرية للسيطرة علي الإقليم‮.‬
 
كما استخدمت الولايات المتحدة الاستثمارات الخاصة العابرة للبحار في تعزيز ارتباطها بدول أمريكا اللاتينية، والتكريس لفكرة الفناء الخلفي للولايات المتحدة‮. ‬ومع اندلاع الحرب العالمية الأولي،‮ ‬وظفت واشنطن الأدوات الاقتصادية في الضغط علي ألمانيا‮. ‬وقد شهدت مرحلة الحرب الباردة استمرارية للمسار الجيو-اقتصادي لتحرير التجارة بين الشرق والغرب لمواجهة النفوذ السوفيتي، وتقويض النموذج الاقتصادي الاشتراكي‮.‬
 
تحولات ما بعد الحرب الباردة‮:‬
 
يلاحظ بلاكويل وهاريس أنه علي الرغم من تفاخر الولايات المتحدة بأنها الاقتصاد الأقوى دوليا، فإنها تلجأ في كثير من الأحيان إلي القوة العسكرية بدلا من الضغط الاقتصادي في سياساتها الخارجية‮. ‬ويرجع المؤلفان ذلك إلي البعد العسكري للسياسة الخارجية الأمريكية،‮ ‬منذ الحرب الباردة، وتحول الزخم البيروقراطي من وزارة الخارجية إلي وزارة الدفاع منذ عام‮ ‬‭.‬1980
 
ويوضح الكتاب أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر‮ ‬2001‮ ‬كانت إيذانا بمرحلة جديدة في السياسة الخارجية الأمريكية تتسم بالعسكرة، والنزوع المتنامي نحو التدخل العسكري، بصورة أدت إلي تضاؤل أولوية الأبعاد الجيو-اقتصادية لدي صانع القرار الأمريكي‮. ‬ويصف المؤلفان هذا التراجع في الأبعاد الجيو-اقتصادية بأنه تجاهل لإرث تاريخي طويل، فضلا عن الانعكاسات السلبية لهذا التوجه علي مكانة الولايات المتحدة ونفوذها‮.‬
 
وفي الوقت الذي تراجع فيه الاهتمام الأمريكي بالآليات الجيو-اقتصادية،‮ ‬اهتمت الصين وروسيا،‮ ‬كقوي دولية صاعدة تنافس الولايات المتحدة الأمريكية علي المكانة والنفوذ الدولي،‮ ‬بهذه الآليات‮. ‬فجزء كبير من تحركات روسيا علي الساحة الدولية يستند إلي الأدوات الاقتصادية‮. ‬ومن النماذج المهمة علي ذلك طريقة تعامل روسيا مع أوكرانيا، والضغط الروسي المستمر علي كييف،‮ ‬عبر الإيقاف الدوري لإمدادات الطاقة إلي أوكرانيا،‮ ‬والاتجاه نحو نقل خطوط الغاز الروسية من أوكرانيا إلي دول أخري، بصورة تؤثر اقتصاديا في كييف،‮ ‬نظرا لأنها تحرمها من العوائد الاقتصادية التي كانت تحصل عليها،‮ ‬نتيجة لمرور خطوط الغاز في أراضيها‮. ‬كما تهدد روسيا بشكل مستمر دول الاتحاد الأوروبي بإيقاف تدفقات الطاقة،‮ ‬في حال انخرطت في سياسات عدائية مشتركة مع الولايات المتحدة ضدها‮. ‬وسعت روسيا،‮ ‬خلال السنوات الماضية،‮ ‬إلي توظيف أدواتها الاقتصادية عبر مسارين، أحدهما ضمان خضوع دول الاتحاد السوفيتي السابق‮ (‬المجال الحيوي الروسي‮) ‬للنفوذ الروسي، فضغطت اقتصاديا علي بعض الدول التي حاولت الابتعاد عن المجال الروسي‮. ‬ومن جهة أخري، سعت لاستخدام الأدوات الاقتصادية في تقويض نفوذ القوي المنافسة،‮ ‬سواء الولايات المتحدة،‮ ‬أو حتي الاتحاد الأوروبي‮.‬
 
وتقدم الصين النموذج الأهم للسياسة الخارجية للدولة القائمة علي الأدوات الاقتصادية‮.‬ فخلال السنوات الماضية،‮ ‬استخدمت بكين الاقتصاد لتكوين تحالفات دولية، فقامت بمساعدة الشركات التايوانية المتفقة مع السياسات الصينية، وعاقبت الشركات المعارضة لها‮. ‬كما أنها وعدت كوريا الجنوبية بعلاقات اقتصادية وتجارية،‮ ‬في ضوء قرارها الرافض لسياسة الولايات المتحدة بنشر أنظمة دفاع صاروخية علي أراضيها، وتزعمت مبادرة تأسيس مجموعة‮ "‬البريكس‮" ‬لتكون بمنزلة منافس للولايات المتحدة، وتعهدت برعاية البنك الأسيوي للاستثمار في البنية التحتية،‮ ‬والذي طرح كمنافس للبنك الدولي،‮ ‬علاوة علي تقديم قروض لدول أمريكا اللاتينية بصورة تفوق ما يقدمه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لهذه الدول،‮ ‬فضلا عن دعمها المستمر للدول الإفريقية، والذي أسس لنفوذ حقيقي للصين بالقارة‮. ‬ويشير الكتاب إلي أن هذه السياسة أسهمت في تحقيق الكثير من الأهداف الصينية، فقد تمكنت بكين،‮ ‬عبر الأدوات الاقتصادية‮ -‬علي سبيل المثال‮- ‬من إيقاف عمليات بيع الأسلحة إلي تايوان، وتخفيض عدد الدول المعترف بها‮.‬
 
أمريكا واستعادة الأدوات الجيو-اقتصادية‮:‬
 
يري المؤلفان أنه بعد عقود من الإهمال الأمريكي لإمكانياتها الجيو-اقتصادية،‮ ‬هناك مؤشرات علي محاولات صناع القرار الأمريكي إعادة توظيف الأدوات الاقتصادية‮ -‬التي لا تزال تملك درجة كبيرة من التأثير‮- ‬بصورة تتوافق مع مكانة الولايات المتحدة كدولة قائدة في النظام الدولي‮.‬
 
ويري المؤلفان أن ذلك يقوم بشكل أساسي علي تحديد التحديات، والخروج برؤية محددة للجغرافيا الاقتصادية،‮ ‬ودورها في السياسة الخارجية الأمريكية، وترجمتها لخطوط عريضة قابلة للتطبيق‮.‬ ولأنها مهمة معقدة،‮ ‬فهي تحتاج إلي حلول سياسية محددة‮.‬
 
ويري المؤلفان أن قطاع الطاقة أحد أهم القطاعات الواعدة للجغرافيا الاقتصادية في الولايات المتحدة‮.‬ فثورة النفط الصخري تعيد تشكيل الحقائق الجيوسياسية حول العالم‮. ‬فبجانب المكاسب الاقتصادية من التحول الأمريكي للاعتماد علي مصادر الطاقة المحلية،‮ ‬فإنه يقوض النفوذ السياسي لكثير من موردي الطاقة لعدة عقود، ومن ثم تتحرر السياسة الخارجية الأمريكية من كثير من القيود التي كانت مفروضة لديها،‮ ‬في ضوء اعتمادها علي الطاقة المستوردة من الخارج‮.‬
 
وفي نهاية كتابهما،‮ ‬طرح المؤلفان مجموعة من التوصيات التي تمكن الولايات المتحدة الأمريكية من استعادة المكون الاقتصادي ليكون أحد المكونات المهمة والقائدة للسياسة الخارجية الأمريكية، ومنها‮: ‬تعزيز النمو الاقتصادي الأمريكي، وتحويل الموارد من وزارة الدفاع لوزارة الخارجية، وأن‮  ‬تستخدم الولايات المتحدة موقعها كقوة عظمي في مجال الطاقة لمساعدة حلفائها،‮ ‬مثل بولندا وأوكرانيا، وتأمين الصفقات التجارية والشراكة الاستثمارية عبر المحيط الهادي،‮ ‬وعبر الأطلسي،‮ ‬للمساعدة علي تحقيق التوازن لمواجهة المكاسب الاقتصادية والسياسية التي حققتها الصين وروسيا،‮ ‬من خلال توظيف الاقتصاد لتحقيق أهدافهما السياسية علي الصعيدين الإقليمي والدولي‮. ‬ويؤكد المؤلفان أهمية أن تقوم الولايات المتحدة بمساعدة حلفائها في آسيا ليصبحوا قوي مؤثرة وموازنة للنفوذين الروسي والصيني،‮ ‬فيريان أن دعم واشنطن لاقتصادات حلفائها الآسيويين سيكون أحد العوامل الحاسمة لقدرتها علي مقاومة التوغل الصيني، والحفاظ باستمرار علي توازن القوي في آسيا‮.‬

رابط دائم: