خيارات مجلس التعاون الخليجي تجاه السياسة الإيرانية
14-8-2016

د. أشرف محمد كشك
* ‮ ‬خبير في قضايا أمن الخليج العربي بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة‮. ‬
على الرغم من أن توقيع إيران ومجموعة دول 5+1 اتفاق الرابع عشر من يوليو2015 كان أمرا متوقعا، في ظل وجود العديد من المؤشرات، خاصة حرص الولايات المتحدة الأمريكية على توقيع ذلك الاتفاق، فقد أثار الكثير من الجدل، ليس فقط بسبب مضمونه، ولكن بالنظر إلى توقيته، ومواقف دول مجلس التعاون تجاهه، وذلك انطلاقا من حقيقة مؤداها أنه من التبسيط الشديد النظر إلي الاتفاق من منظور أطرافه فحسب، وإنما في سياق البيئتين الإقليمية والدولية.
 
 ومن ناحية ثانية، وبالرغم من أن الاتفاق جاء بعد عدة سنوات من التفاوض بين الجانبين، تخللتها حالات من الشد والجذب بينهما، بلغت مداها عندما حاولت الولايات المتحدة إحالة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن، والذي اصطدم بالفيتو الروسي، فإن للاتفاق مدي زمنيا محددا، وبالتالي لم ينه الطموحات النووية الإيرانية لإمكانية تطوير طاقة نووية لغير الأغراض السلمية، وإنما ربما جعلها أمرا مؤجلا، وهو ما أثار مخاوف دول مجلس التعاون التي تعاني خللا في توازن القوي التقليدي مع إيران، التي تؤسس علاقاتها مع دول المجلس على توازن القوي بدلا من توازن المصالح: ومن ناحية ثالثة وأخيرة، وفي ظل استمرار العديد من القضايا الخلافية بين إيران وبعض دول مجلس التعاون، فإن السياسة الإيرانية تجاه دول المجلس، وتجاه ملفات الأمن الإقليمي عموما، لم تشهد تغيرا إيجابيا، عقب توقيع ذلك الاتفاق. ويثير ما سبق  سؤالين أساسيين:
 
الأول: لماذا يعد الاتفاق تطورا نوعيا ضمن هيكل الأمن الإقليمي الخليجي؟.
 
والآخر: ما هي خيارات دول مجلس التعاون سواء تجاه الاتفاق أو السياسات الإقليمية لإيران؟
 
أولا- البيئتان الإقليمية والدولية للاتفاق النووي:
 
من التبسيط تحليل مضمون الاتفاق بمعزل عن السياقين الإقليمي والدولي، فالاتفاق هو جزء من تطورات إقليمية ودولية. فعلى الصعيد الإقليمي، فإن تحولات عام 2011، وما ترتب عليها من نتائج جوهرية، سواء بالنسبة لهيكل الأمن الإقليمي، وانحسار أدوار دول محورية، أو من حيث الوحدات المكونة لهذا الأمن، وتعزيز أدوار الجماعات التي تنازع الدولة الوطنية سيادتها كفواعل جديدة في معادلة الأمن الإقليمي، جميعها تطورات أتاحت لإيران فرصة غير مسبوقة للتمدد الإقليمي إلي الحد الذي جعلها جزءا من المشكلة وجزءا من الحل في الوقت ذاته، وبالتالي سعت إيران لتوظيف ذلك النفوذ الإقليمي ضمن المفاوضات النووية. ففي حين كان هناك إصرار إيراني على التفاوض حول منظومة الأمن الإقليمي عموما، ودور إيران الإقليمي في تلك المنظومة على نحو خاص، فإن الولايات المتحدة حاولت تجريد الملف النووي من أبعاده الإقليمية. وفي ظل حالة الفراغ الإقليمي، وزيادة حدة ظاهرة الإرهاب، فقد تغلبت وجهة النظر الإيرانية.
 
وانطلاقا مما سبق، وخلال السنوات الأربع الأخيرة السابقة على توقيع الاتفاق النووي، أثيرت قضية وجود اتصالات سرية بين الرئيس الأمريكي، والمرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي، ومنها رسالتان مهمتان، الأولي: تعهد خلالها الرئيس الأمريكي بعدم سعي الولايات المتحدة لإسقاط النظام السوري، والأخرى: تعهد المرشد الأعلى فيها بأنه في حال توقيع الاتفاق النووي مع إيران، فإنها سوف تتعهد بالتعاون الكامل مع الولايات المتحدة في مواجهة الإرهاب(1). ولذلك، تبلور اقتناع لدي الولايات المتحدة الأمريكية مفاده ضرورة إدماج إيران ضمن منظومة الأمن الإقليمي، وهو ما لخصه مارتن إنديك، المبعوث الأمريكي السابق إلي منطقة الشرق الأوسط، بالقول "الولايات المتحدة الأمريكية كانت أمام مفترق طريقين، صياغة نظام إقليمي مع إيران أو ضدها، "بما يعني أن المعضلة التي واجهت الولايات المتحدة كانت هي الرغبة في الانفتاح على إيران، وفي الوقت ذاته الحفاظ على علاقات التحالف الاستراتيجي مع دول مجلس التعاون". ويري إنديك أن"الاستراتيجية الأمريكية الصحيحة لإعادة الاستقرار إلي منطقة الشرق الأوسط يتعين أن تكون بمساعدة الحلفاء التقليديين، وموازنة ذلك الاتفاق بنشر مظلة نووية رادعة لهؤلاء الحلفاء"(2). بمعني آخر، إن السياسة الأمريكية تجاه إيران كانت بمنزلة سياسة الاسترضاء، وهي جزء من العقيدة الدفاعية الجديدة للولايات المتحدة، حيث تحاول، بدلا من التوسع في الاشتباكات العسكرية في الأزمات الإقليمية، أن تكون لديها سياسة متوازنة تجاه اللاعبين الإقليميين الرئيسيين، بغض النظر عن درجة الصداقة مع كل من هؤلاء اللاعبين. ولكن تلك العقيدة ليست واقعية، حيث إن كلا من تركيا وإيران لديهما طموحات إقليمية. ومن ثم، فإن تعزيز دور إيران الإقليمي، عبر أذرعها الإقليمية، سوف يؤدي إلي تهديد المصالح الغربية في تلك المنطقة، مما يتطلب إعطاء التهديد الإيراني أولوية، وليس محاولة استرضاء طهران(3). وقد كان ذلك واضحا من التصريحات الأمريكية الرسمية. ففي حوار صحفي أجراه الصحفي الأمريكي توماس فريدمان، قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما، في يوم 15 يوليو2015: "حقيقة الأمر هي أن إيران ستكون وينبغي أن تكون قوة إقليمية. إنها بلد كبير ومتطور في المنطقة، ولا تحتاج إلي معاداة أو معارضة جيرانها من خلال سلوكها"(4). وخلال المؤتمر الصحفي، الذي أعقب توقيع الاتفاق، قال أوباما "لايران دور مهم في إنهاء الحرب الدامية في سوريا. وأضاف "أعتقد أنه من المهم أن يكون الإيرانيون جزءا من هذا الحل"(5)، مما يؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية هي من كان لديها حرص بشكل أكبر على إبرام ذلك الاتفاق.
 
ويمكن تفسير الموقف الأمريكي ضمن الاستراتيجية الدفاعية الجديدة التي عرض ملامحها  ليون بانيتا، وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، أمام المنتدي الآسيوي للأمن في يونيو2012، والتي جاء فيها "أنه بحلول عام 2020، سوف تعيد البحرية الأمريكية نشر قواتها الموزعة بالتساوي الآن بين المحيط الهادي والمحيط الأطلسي لتكون نسبة 40 إلي 60 لمصلحة المحيط الهادي بما يشمل ست حاملات طائرات، إضافة إلي أكثرية سفننا وغواصاتنا، وذلك لمواجهة القوة الصينية الصاعدة، "والتي أطلق عليها استراتيجية الدوران، في إشارة إلي تدوير القوة العسكرية الأمريكية(6)، حيث إن الولايات المتحدة ربما رأت أنه يتعين العودة إلي صيغة "الوكيل الإقليمي"، وهو ما تمثله إيران، وبالتالي تطبيق المعادلة اللاصفرية  ضمن العلاقات الأمريكية الإيرانية، ومضمونها الكل رابح. هذا التصور الأمريكي يتوافق مع ما عبر عنه صراحة الرئيس الإيراني حسن روحاني، في مقال له في صحيفة الواشنطن بوست عام 2014، بالقول "السياسة الدولية لم تعد لعبة ذات محصلة صفرية، بل هي الآن ساحة متعددة الأبعاد، غالبا ما يحدث فيها تعاون وتنافس بين الدول في الوقت ذاته"(7). وواقع الأمر أن ذلك الخطاب المهادن والمتبادل بين الولايات وإيران لم يكن منشئا لتلك المرحلة الجديدة من العلاقات بين الجانبين، بل إنه كان كاشفا له. بل والأهم أن هذا التطور الإيجابي في علاقات إيران بالولايات المتحدة قد تزامن معه  تطور العلاقات الأمريكية- الخليجية على نحو سلبي. فعلى الرغم من أن الخطاب الرسمي الأمريكي قد تضمن غير ذي مرة أن "المملكة العربية السعودية  تعد شريكا رئيسيا وشريكا إقليميا مهما"، فلم تشهد العلاقات الخليجية-الأمريكية تطورا على نحو يماثل ما حدث في العلاقات مع إيران، بعد توقيع الاتفاق، سوي طمأنة الولايات المتحدة لدول مجلس التعاون، من خلال تصريحات عديدة دون أن تتم ترجمة هذا الخطاب إلي سياسات والتزامات محددة  لكبح جماح النفوذ الإقليمي المتنامي لإيران، والعمل مع دول مجلس التعاون، الحليفة للولايات المتحدة، للتصدي لتلك السياسات.
 
غير أن انعقاد القمة الخليجية- الأمريكية بالرياض في 21 إبريل 2016 يدل على حرص الولايات المتحدة على العلاقات مع دول مجلس التعاون. فقد تضمنت بحث خمسة ملفات أساسية، هي استقرار المنطقة عموما، وهزيمة "داعش"، والتعاون الأمني، والتعاون الاقتصادي، والطاقة، والتعاون لتقليل الانبعاثات الحرارية، وتقديم المساعدات الإنسانية. وقد تضمن الملف الأمني ست مبادرات من شأنها أن تعزز أمن دول مجلس التعاون، وتتمثل في التدريب، وإجراء المناورات العسكرية المشتركة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وإنشاء نظام إنذار مبكر ضد تهديدات الصواريخ الباليستية، وإجراء مناورات عسكرية أمريكية - خليجية موسعة في مارس 2017، وإقرار مبادرات لتعزيز الأمن المعلوماتي، والتعاون البحري. ولكن دول مجلس التعاون لا تزال تتنابها نوازع الشك بشأن مدي الالتزام الأمريكي بكبح جماح إيران، خاصة بشأن التدخلات الإيرانية في دول الجوار.
 
وقد عكست التصريحات الأمريكية الرسمية طبيعة السياسة الأمريكية الجديدة تجاه إيران، ومنها خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما حول حالة الاتحاد، والذي ألقاه في 12 يناير 2016، ويعد وثيقة أمريكية رسمية سنوية تعكس ملامح السياسة الخارجية عموما، وتجاه الشرق الأوسط على نحو خاص. وقد وضع أوباما إيران في المرتبة الثالثة من أولويات الإدارة الأمريكية، والتي حددها في محاربة "داعش" والقاعدة، وإيجاد حل للأزمة السورية ، والتأكد من تنفيذ إيران خطة العمل المشتركة الشاملة. وأضاف أن "التهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة اليوم هي بسبب ظهور الدول الفاشلة، وليس إمبراطوريات الشر"، وأن "الشرق الأوسط يعيش تحولات متجذرة في نزاعات تعود إلي ألف عام، وسوف تستمر جيلا كاملا"(8).
 
ولا يعني ما سبق أن ذلك التوجه الأمريكي تجاه إيران يحظي بتأييد الأوساط كافة داخل الولايات المتحدة، حيث إن هناك بعض التوجهات تري أن هناك "مجازفة أمريكية" بعلاقات الشراكة الأمريكية-الخليجية التي تم بناؤها عبر عقود، ومن ذلك ما عبر عنه السفير الأمريكي المتقاعد ألبرتو فرنانديز، نائب رئيس مؤسسة الأبحاث حول إعلام الشرق الأوسط، في حوار له مع صحيفة "الشرق الأوسط"، تعليقا على الموقف الأمريكي تجاه أزمة العلاقات السعودية-الإيرانية، بالقول "إن الولايات المتحدة لم تفعل ما يكفي، ولم تعد قادرة على القيام بالمزيد في إطار النزاع القائم بين الرياض وطهران". وأضاف "يتعين على الولايات المتحدة إيفاد وزير الخارجية جون كيري إلي المملكة العربية السعودية لإعطاء إشارات للسعوديين ولأصدقائنا بأننا لسنا على الحياد في هذا النزاع بين إيران والسعودية، بل إننا نقف مع السعوديين"(9).
 
ثانيا - الخيارات الاستراتيجية لدول مجلس التعاون:
 
قبل تناول تلك الخيارات، من المهم الحديث عن توتر العلاقات الخليجية-الإيرانية في بداية عام .2016 فعقب توقيع الاتفاق النووي، ساد توجهان رسميان على المستويين الإقليمي والعالمي. التوجه الأول تبنته الدول الغربية، ومفاده أن الاتفاق النووي يعد بداية لتحقيق الاستقرار الإقليمي الذي يعني بدوره تحقيق الاستقرار العالمي". وربما يكون صحيحا من الناحية النظرية، إذا كانت السياسة الإقليمية لإيران تؤسس على مبادئ العلاقات الدولية، والتي من بينها عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول. أما التوجه الآخر، فقد تبنته دول مجلس التعاون وكذلك بعض الدول العربية، ومضمونه أن الاتفاق النووي سوف يعزز من التدخلات الإيرانية في شؤون دول الجوار، وذلك انطلاقا من المعضلة الرئيسية التي تواجهها إيران، حيث  تشهد حالة من الصراع المزمن بين مفهومي "الدولة" و"الثورة"، ولا تزال الغلبة للمفهوم الأخير. وقد برهنت الأحداث على صحة التوجه الأخير، ومن ذلك قيام متظاهرين في إيران بإحراق مبني السفارة السعودية في طهران والقنصلية العامة في مشهد، مما ترتب عليه إعلان كل من المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين قطع علاقاتهما الدبلوماسية مع إيران، وإعلان دولة الإمارات العربية المتحدة عن تخفيض تمثيلها الدبلوماسي لدي إيران. والجدير بالذكر أنه كان هناك تأييد لموقف دول مجلس التعاون عموما، والمملكة العربية السعودية على نحو خاص، على المستوى العربي، من خلال جامعة الدول العربية، وعلى المستوى الإسلامي، من خلال منظمة المؤتمر الإسلامي.
 
والجدير بالذكر أيضا أن الصورة الذهنية السلبية بشأن إيران لدي الرأي العام العربي عموما، والنخب الفكرية على نحو خاص، تعد سلبية. ففي استطلاع للرأي أجراه مركز الجزيرة للدراسات، شمل 860 فردا ضمن عينات، تمثل النخبة العربية في 21 دولة عربية، وذلك خلال الفترة من 30 سبتمبر وحتي 30 نوفمبر 2015 أي خلال الأشهر التي تلت توقيع الاتفاق النووي-أوضح 89 من المستطلعة آراؤهم أن العلاقات السياسية العربية - الإيرانية عموما سيئة (حيث أفاد 28 بأنها سيئة جدا، و61 بأنها سيئة)، بينما رأي 9 أنها جيدة (1 جيدة جدا، و8 جيدة)، بينما لم يبد 3 رأيا. وعلى الصعيد الأمني، رأي 10 أنها جيدة جدا(1جيدة جدا، 9 جيدة)، بينما أكد 87 أنها سيئة(43 سيئة جدا، و44 سيئة)، بينما لم يبد 4 أي إجابة(10).
 
وانطلاقا مما سبق، وفي ظل مضمون الاتفاق النووي، والظروف الإقليمية والدولية التي عقد فيها، فإنه يتخطي كونه مسألة فنية، حيث يرتبط ارتبطا وثيقا بمعادلة إقليمية ودولية آخذة في التشكل، بما يمكن معه القول إن دول مجلس التعاون تخوض معركة إعادة هيكلة الإقليم، مما يثير التساؤلات عن خيارات دول المجلس في مواجهة هذا الاتفاق، والسياسات الإقليمية لإيران عموما. ولا يعني ذلك أن الخيارات جميعها يتعين أن تكون تصادمية، ولكن ربما القدرة على الجمع بين عدة خيارات من شأنها تحقيق مفهوم "توازن القوي" في منطقة الخليج العربي، الذي يعد أساسا مهما لاستقرار أي إقليم. فدول مجلس التعاون تسعي للحفاظ على توازن في علاقاتها مع الدول الغربية من منطلق المصالح الاستراتيجية التي تمتد عبر عقود، ومع إيران بحكم الوجود، والجغرافيا. إلا أن ذلك التوازن ربما لم يعد هو الصيغة المثلي لصياغة علاقات دول مجلس التعاون مع كل من إيران والولايات المتحدة، حيث تتمثل المشكلة الأساسية التي تواجه دول المجلس في أن الاتفاق سوف يعزز الدور الإقليمي لإيران، وهو ما يمكن لهذه الدول مواجهته من خلال عدة خيارات  على النحو الآتي:
 
1- مطالبة دول المجلس بضمانات غربية لمواجهة إيران، حال إخلالها ببنود الاتفاق النووي:
 
على الرغم من حرص الولايات المتحدة على طمأنة دول مجلس التعاون من خلال مؤشرات عديدة، منها الجولة التي قام بها وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر في منطقة الشرق الأوسط، وشملت كلا من السعودية، والأردن، والعراق، وإسرائيل، وإقليم كردستان في العراق، وتأكيد العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز - خلال لقائه وزير الدفاع الأمريكي - دعم الاتفاق النووي، فإنه قد أبدي تحفظين، الأول: أهمية أن يتوازي مع ذلك الاتفاق نظام رقابي صارم، والآخر: ضرورة  وجود آلية واضحة لإعادة العقوبات على إيران، حال انتهاكها لالتزاماتها المقررة وفقا للاتفاق. والجدير بالذكر أن وزير الدفاع الأمريكي ناقش، خلال تلك الجولة، مع نظرائه في دول مجلس التعاون تعزيز العلاقات الأمنية والدفاعية، من خلال بحث التعاون في قضايا محددة، هي الدفاع الصاروخي، والأمن الإلكتروني والبحري، وقوات العمليات الخاصة(11). وبالتالي، لا يتعين أن يقتصر الأمر على مصارحة دول المجلس للولايات المتحدة بالمخاوف بشأن السياسات الإيرانية فحسب، بل المطالبة بآليات محددة لمواجهة تلك السياسات، حيث نجد أن الموقف الأمريكي تجاه المخاوف الخليجية قد انحسر في محاولة طمأنة دول المجلس، وأن الولايات المتحدة سوف تتصدي لأي اعتداءات تواجهها تلك الدول. إلا أن الالتزام الأمريكي لم يتضمن مواجهة السياسات الإيرانية تجاه القضايا الإقليمية التي مثلت تهديدا لأمن دول المجلس. من ناحية أخرى، فإن دول مجلس التعاون يمكنها المطالبة باتفاق نووي مماثل مع الدول الغربية.
 
2-أهمية تحول دول مجلس التعاون نحو تحقيق مفهوم القوة الموازنة:
 
إن الأقاليم التي بها من العوامل ما يجعلها محلا لصراع إقليمي-دولي تتفاعل فيها ثلاث قوي، هي القوة التدخلية، ويقصد بها جميع القوي التي لديها مصالح جوهرية في الإقليم، وتسعي للوجود فيه، وتعبر عنها الدول الكبري، والتجمعات الدولية، مثل الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو. ولكن تلك القوة تصطدم بالقوي المناوئة، وهي جميع القوي التي ترفض هذا التدخل الدولي، وهي العراق سابقا، وإيران في الوقت الراهن. وما بين القوتين، يأتي دور القوة الموازنة التي تؤدي دورا مهما في تحقيق التوازن بين القوتين. ومن ثم، يظل الصراع في حدوده المتعارف عليها دون أن يصل إلى حد المواجهة العسكرية(12). ولذلك، يتعين على دول مجلس التعاون العمل لبناء أمن ذاتي خليجي، من خلال تنفيذ الجانب الدفاعي من مقترح المملكة العربية السعودية بشأن تحول مجلس التعاون من "حالة الاتحاد" إلى حالة "التعاون" ،وفق عدة متطلبات، منها أن يكون هناك تجنيد إلزامي في كل دول المجلس، وصياغة استراتيجية موحدة بشأن شراء الأسلحة، حتي يمكن التكامل فيما بينها، والتفكير جديا في مقترح الدرع الصاروخية. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى تصريح  قائد سلاح الجو الملكي البحريني، اللواء الركن حمد بن عبدالله آل خليفة، بأن "دول الخليج العربية تتعاون لبناء نظام دفاع صاروخي، وإنها تأمل في إعلان النتائج قريبا لتحقيق تقدم في الجهود التي تعطلت طويلا لإقامة نظام إقليمي للتصدي لقدرات إيران الصاروخية المتنامية"(13). ومن شأن تفعيل مفهوم القوة الموازنة تحقيق توازن القوي بين ضفتي الخليج العربي، حيث يتحقق ذلك المفهوم في العلاقات الدولية" عندما لا تمتلك دولة أو مجموعة دول في منطقة معينة قوة كافية للهيمنة، وإجبار الدول الأخرى في تلك المنطقة على الرضوخ لإرادتها"(14). ولا يعني ما سبق أن دول مجلس التعاون لم تبدأ في ممارسة الردع تجاه إيران، حيث يعد كل من استدعاء قوات درع الجزيرة للبحرين عام 2011، وقيادة المملكة العربية السعودية للتحالف العسكري العربي في اليمن عام 2015 مؤشرين مهمين على التصدي الخليجي الصلب للسياسات الإيرانية الإقليمية التي مثلت تهديدا مباشرا وغير مباشر لأمن دول المجلس. من ناحية أخرى، فإن إقرار دول مجلس التعاون القوة البحرية المشتركة، خلال قمة المجلس في الدوحة عام 2014، يعد تطورا مهما نحو تحقيق الأمن البحري، وهو ما تشهد فيه إيران تفوقا نوعيا.
 
3- البرامج النووية السلمية الخليجية:
 
في ظل السياسات الإيرانية التي تسعي لتوظيف الاتفاق النووي، ضمن صراعها مع كل من دول مجلس التعاون والدول الغربية، فإن هناك أحد سيناريوهين، الأول: التزام إيران ببنود الاتفاق النووي، وإبقاء البرامج النووية ذات طابع سلمي، وتحت إشراف مباشر من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والآخر: عدم إبداء إيران الشفافية الكاملة بشأن برامجها النووية، وبالتالي يكون هناك مستوي غير معلن يستهدف أن تتخطي إيران العتبة النووية في غضون سنوات قليلة.
 
وفي الحالة الأولي، يتعين على دول مجلس التعاون تطوير برامج نووية للأغراض السلمية، وفقا لقرار قمة مجلس التعاون عام 2006، والذي تضمن بيانها الختامي "الدعوة إلى إيجاد برنامج في مجال الطاقة النووية للأغراض السلمية، طبقا للمعايير والأنظمة الدولية"(15). وعقب تلك القمة، قام الأمين العام لمجلس التعاون بزيارة لمقر الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في فبراير 2007، من أجل الحصول على مساعدة الوكالة في تقديم الدراسات الأولية، والمساعدات الفنية اللازمة، بما في ذلك وضع العناصر، وتحديد البنية الأساسية، والإسهام في بناء القدرات الوطنية، والتدريب في إطار المشروع المشترك .
 
وقد بدأ بعض دول المجلس في تنفيذ بعض مشروعات الطاقة النووية السلمية. ومع أهمية تلك الجهود، فإن المدي الزمني والتكلفة يظلان محددين مهمين لمدي نجاح تلك الجهود، حيث تحتاج المفاعلات النووية إلى نحو 12 عاما بين التخطيط، والتصميم، وتهيئة وإعداد البني التحتية، ودراسات الجدوى. ويتطلب الأمر نحو 18 عاما لبدء تشغيل المفاعلات، والاستفادة منها، بالإضافة إلى المخاوف بشأن مخاطر الإشعاعات النووية لإمكانية عدم توافر عناصر الأمان المطلوبة بشكل كاف في تلك المفاعلات، إما لوجود أخطاء في التصميم، أو لعدم وجود الخبرة البشرية المدربة بشكل جيد لإدارة تلك المفاعلات(16).
 
بينما في الحالة الثانية، وحال إعلان إيران أنها دولة نووية، فإن ذلك يتطلب موازنة دول المجلس لهذا الواقع الجديد، وهو ما أكدته العديد من التصريحات، منها تصريح وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، ردا على سؤال عما إذا  كانت المملكة قد ناقشت السعي للحصول على قنبلة نووية أم لا، قال الجبير "لا أعتقد أنه من المنطقي الاعتقاد بأننا سنناقش هذا الأمر علنا، ولا أعتقد أنه من المنطقي توقع إجابة مني على سؤال كهذا بطريقة أو بأخرى".
 
4- إعادة بناء النظام الإقليمي ككل:
 
انطلاقا من  أن بيئة السياسة تؤدي دورا مهما في مضمونها، سواء بما تتيحه من فرص، أو ما ترتبه من تحديات لتلك السياسة، فإن السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط كانت عاملا رئيسيا في تكريس الخلل في توازن القوي الإقليمي الخليجي، من خلال الإطاحة بنظام طالبان في أفغانستان عام 2001، أو الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وهما ما كانت إيران تعدهما مناوئين إقليميين، ذلك الخلل الذي أضحي أكثر وضوحا منذ عام 2011 وحتي عام 2016، حيث يشهد النظام الإقليمي العربي عموما تحولات جوهرية إلى الحد الذي وصفه البعض "بالسيولة السياسية"، و"عدم اليقين"، و"اللاتأكد" في عدد من الدول العربية، وفي العلاقات فيما بينها. ومن ثم، فإن هناك إمكانية لإعادة توزيع موارد القوة والنفوذ على مستوي النظام، وإعادة تشكيل التحالفات وأنماط السلوك السياسي فيه، وهذه العملية ذات طابع تفاعلى، وصراعي، وأبعاد عديدة(17). ولا يمكن الفصل بين تلك التحولات والبيئة الإقليمية الكبري، التي لا تضم إيران فحسب، بل تضم دولا أخرى، هي تركيا وإسرائيل، فضلا عن ملامح البيئة الدولية، التي تعكس نظاما دوليا لم يعد أحادي القطبية، بما يعني أنه من الخطأ انتزاع الدور الإيراني من السياقين الإقليمي والدولي، وإنما تحليل ذلك الدور ضمن منظومة إقليمية آخذة في التشكل، على خلفية الأزمة السورية، التي أوجدت تحالفات جديدة في المنطقة "دمشق - طهران - موسكو". في مواجهة "الولايات المتحدة - تركيا - الناتو"، بما يحتم على دول مجلس التعاون أن تواجه السياسات الإيرانية ضمن تلك المنظومة الجديدة، من خلال آليات جماعية جديدة، منها مقترح مصر بتشكيل القوة العربية المشتركة - وهو المقترح الذي حظي بتأييد بعض دول مجلس التعاون، ومنها المملكة العربية السعودية، ومملكة البحرين، حيث أكد كل من العاهل السعودي، والعاهل البحريني أهمية ذلك المقترح خلال زيارتيهما لمصر في أبريل 2016 - ومقترح المملكة العربية السعودية بتكوين التحالف العسكري الإسلامي لمواجهة الإرهاب.
 
من ناحية أخرى، فإن التمدد الإيراني في دول الجوار"سوريا- العراق-اليمن-لبنان" كان بسبب انحسار الدور الخليجي في تلك الدول، والتي عدتها إيران "مناطق رخوة"، مما حتم على دول مجلس التعاون التدخل عسكريا في اليمن، وإبداء الاستعداد للتدخل البري في سوريا. إلا أنه لا تزال هناك حاجة لصياغة استراتيجية خليجية لإعادة بناء دول الجوار، خاصة اليمن والعراق، للحيلولة دون تحولهما إلى مفهوم "الدولة الفاشلة"، التي تعني فشل إقليم بأكمله، فضلا عن بحث بناء منظومة للأمن الإقليمي، تعزز من مجلس التعاون كمنظومة إقليمية فرعية. فمع أن مجلس التعاون نشأ جامعا مانعا، فإن هناك العديد من الصيغ التي شهدتها بعض التنظيمات الإقليمية ومنها مجلس الناتو-روسيا كآلية دائمة للحوار بين الناتو، كمنظمة تضم الدول الغربية، وروسيا. ويمكن التفكير في توسيع مجلس التعاون بحيث يكون (6+2+1+1)، وهي دول المجلس الست، والعراق، واليمن، كدول من خارج المجلس، ومصر والأردن كمراقبين، الأمر الذي يعزز من دور مجلس التعاون ككتلة في مواجهة السياسات الإيرانية.
 
الهوامش :
 
1- خير الدين حسيب، العرب والعالم بعد الاتفاق النووي: ما العمل عربيا؟، مجلة المستقبل العربي، العدد الثامن، أغسطس 2015، ص ص9و10.
 
2- جاكسون دييل، مفاوضات نووية تحدد مستقبل الشرق الأوسط، صحيفة الحياة، 18 مارس 2015، على الرابط التالي:
 
http://www.alhayat.com/m/opinion/8096580 (2016/03/3)
 
3- Hillel Frisch, “While the Jihadists Make Headlines, Fundamentalist Iran is Making Major Gains”. The Begin-Sadat Center for Strategic Studies. February 2015 http://besacenter.org/uncategorized/jihadists-make-headlines-fundamentalist-iran-making-major-gains/ (2016/03/3).
 
4- توماس فريدمان في حوار مع أوباما: لماذا الاتفاق مع إيران؟، مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، 20 يوليو 2015:
 
http://rawabetcenter.com/archives/9804 (2016/03/4).
 
5- أوباما: إيران لن تتمكن من صنع قنبلة نووية:
 
http://www.alyaum.com/article/4078967 (2016/03/3).
 
6- نص كلمة وزير الدفاع الأمريكي السابق ليون بانيتا أمام منتدي الأمن الآسيوي، على الرابط التالي:
 
http://www.iiss.org/conferences/theshangri-la-dialogue/shangri-la-dialogue-2012/speeches/first-plenary-session/leon-panetta (2016/03/3).
 
7- President of Iran Hassan Rouhani, Time to engage, https://www.washingtonpost.com/opinions/president-of-iran-hassan-rouhani-time-to-engage/4/19/09/2013d2da564-213e-11e3-966c-9c4293c47ebe_story.html (2016/03/3).
 
8- Remarks of President Barack Obama  State of the Union Address As Delivered, https://www.whitehouse.gov/the-press-office/12/01/2016/remarks-president-barack-obama-%E2%80%93-prepared-delivery-state-union-address(2016/03/3).
 
9- ريان كروكر، على الرياض وواشنطن العمل معا لمواجهة الخطر الإيراني:
 
http://aawsat.com/home/article/544586 (2016/03/3).
 
10- استطلاع رأي: إيران في ميزان النخبة العربية، مركز الجزيرة للدراسات، يناير 2016، ص4.
 
http://studies.aljazeera.net/ar/files/01/2016/.20161188447532819html (2016/03/4).
 
11- دوافع جولة وزير الدفاع الأمريكي في المنطقة ونتائجها، تقديرموقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أغسطس 2015.
 
http://www.dohainstitute.org/release/8e9cc09e-6ef5-4e9d-8b9b-2bb1c32a1127 (2016/03/4).
 
12- د. أشرف محمد كشك، تطور الأمن الإقليمي الخليجي: دراسة  في  تأثير استراتيجية  حلف الناتو، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012)، ص ص119و120.
 
13- قائد سلاح الجو الملكي البحريني: نظام دفاع صاروخي خليجي مشترك يعلن قريبا:
 
http://www.akhbar-alkhaleej.com/13817/article/.2873htm (2016/03/4).
 
14- بول روبنسون، قاموس الأمن الدولي، دراسات مترجمة، (أبوظبي:  مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية) العدد 38، 2009، ص40.
 
15- البيان الختامي للقمة على  الرابط التالي:
 
https://www.gcc-sg.org (2016/03/4).
 
16- د. أشرف محمد كشك، المشاريع النووية الخليجية السلمية، ورقة مقدمة إلى الملتقي العلمي بعنوان، الاستخدام السلمي للطاقة النووية وأثره على الأمن البيئي، المنامة: مملكة البحرين، 2014، ص18.
 
17- د. على الدين هلال، النظام الإقليمي العربي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية،  سلسلة مفاهيم، 2013)

رابط دائم: