تعقيدات التصعيد في شبه‮ ‬الجزيرة الكورية
29-5-2016

السيد صدقي عابدين
* باحث في العلوم السياسية، متخصص في الشئون الأسيوية.
أجرت كوريا الشمالية تجربة نووية هيدروجينية في السادس من يناير 2016، ثم سرعان ما أطلقت (في 7 فبراير) قمرا صناعيا، لتضع في الواجهة قضية ظلت علي مدي سنوات صنوا لقضية البرنامج النووي، والمتمثلة في برنامج الصواريخ، حيث دائما ما يتم الربط بينهما. وأعقب ذلك سلسلة من الأفعال وردود الأفعال، عنوانها الرئيسي هو التعنت والوقوف بالمرصاد.
 
عناد تصر عليه كوريا الشمالية، وتهديد ووعيد تطلقه الولايات المتحدة، وكل من كوريا الجنوبية، واليابان، وتحذير شديد، عنوان مواقف روسيا، بينما الصين تتحرك علي كل الجبهات، ولا تغلق أيا من الأبواب.
 
أولا- دوافع التصعيد الكوري الشمالي وأسبابه :
 
دوافع أيديولوجية:
 
العامل الأيديولوجي له أهميته الخاصة في كل جوانب الحياة في كوريا الشمالية. ومن الطبيعي أن يكون للأيديولوجيا دور حاسم في القرارات الوطنية علي مختلف الأصعدة، خاصة أن الدولة لا تزال تعمل بهمة من أجل فرض ما تراه أفكارا صائبة تتمثل في هذا السياق في الاستقلالية والسيادة بمعناهما الأقرب إلي المطلق، وما يستتبعه ذلك من القيام بكل ما من شأنه المحافظة عليهما. وهنا، ترد مصطلحات من قبيل الاعتماد علي الذات، والتصدي لكل محاولات النيل من السيادة، وما يترتب علي ذلك من تخصيص الموارد اللازمة لتحقيق هذه الغايات. والموارد هنا لا توجه إلي الجيش فحسب، وإنما لكي يتشرب، عبر كل فئاته، وفي كل الأوقات، هذه الأفكار، ليكون مستعدا للدفاع عنها بكل ما أوتي من عزم. وحيث تتداخل الاستقلالية والسيادة مع الكرامة الوطنية، والزعامة السياسية، يصبح النظام، والحزب، والزعيم كلا واحدا، ويصبح من قاموا بالتفجير النووي، وأطلقوا الصاروخ الذي حمل القمر الصناعي أبطالا ورموزا يستحقون التكريم من الزعيم ومقربيه، والحزب وتابعيه، والجيش ومجنديه، كما أنهم في الوقت نفسه موضع ترحيب من الجماهير. ومرة أخري، فحركة الجماهير في الميادين محكومة بتوجيهات الحزب والزعيم، المغلفة بفلسفة "زوتشية"، والمرتبطة بكيم إيل سونج، ومن بعده ولده كيم جونج إيل، ثم حفيده كيم جونج أون.
 
دوافع برجماتية:
 
في مناخ أيديولوجي كهذا، لابد من ردع المتربصين الراغبين والعازمين علي إسقاط النظام، ليس بالمعني السياسي فقط، وإنما بالمعني الاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي أيضا، بدعاوي الإمبريالية، والرأسمالية، وحقوق الإنسان، والإصلاح، والانفتاح علي حد توصيفات النظام وآلاته، وأدواته. ومن ثم، يصبح السعي لامتلاك أدوات الردع حقا مشروعا، وتصبح القرارات الدولية كأنها غير موجودة بحسبانها من أدوات الحرب ضد النظام، وكذا العقوبات التي تفرضها الدول فرادي. ويصبح علي النظام العمل بكل ما أوتي من قوة لإحباط ما يراه مؤامرات ضده لا تغفلها عين، ويرصدها إلي جانب ما سبق في المناورات المستمرة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية.
 
يضاف إلي كل ذلك الخبرة التاريخية فيما يفسر بأنه نكوص من قبل الأطراف، التي تتصدي لمحاولات دعم القدرات النووية والصاروخية، عن تسويات واتفاقات سابقة، حتي قبل امتلاك السلاح النووي. وبعد امتلاكه، كانت هناك عروض بالتخلي عنه، لكن الطرف الآخر كان يريده تخليا بلا مقابل وبإذعان تام، كما حدث في حالات سابقة، وهو ما لم يتم القبول به من قبل كوريا الشمالية، التي دائما ما كانت تقول لن نكون كالعراق ولا ليبيا. ليس هذا فحسب، بل إن هناك رفضا متكررا لعرض كوري شمالي بعقد اتفاقية سلام مع الولايات المتحدة تحل محل اتفاق الهدنة، الذي أوقف الحرب في خمسينيات القرن العشرين.
 
ويبرز في هذا السياق البيئة الدولية التي وجدت كوريا الشمالية ذاتها فيها، بعد نهاية الحرب الباردة، والقطبية الثنائية، حيث إنها كانت محسوبة على الكتلة الاشتراكية. وفي سياقها. كانت تتحدث عن استقلالية في القرار، وبعد عن الخلافات التي كانت داخل هذه الكتلة بين كل من الصين والاتحاد السوفيتي السابق، حيث كانت تتحدث عن اشتراكية بملامح كورية. وقد مكنها ذلك من الاستفادة من دعم الطرفين، فضلا عن شبكة علاقاتها مع سائر دول الكتلة سواء في شرقي أوروبا، أو في غيرها من مناطق العالم، كما كانت لها علاقات متميزة بدول عدم الانحياز.
 
مع ما حدث في نهاية ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين، بدأت الخيارات تضيق أمام كوريا الشمالية، في وقت كانت الحاجة فيه ملحة ليد العون الخارجي بسبب الظروف الاقتصادية الداخلية، مقابل التحسن المطرد في الظروف الاقتصادية في كوريا الجنوبية، وتوسع شبكة علاقاتها الخارجية، حتي مع حلفاء وأصدقاء كوريا الشمالية. وزاد من قسوة الظروف الحالة التي مرت بها روسيا، وما اتخذته من مواقف حيال كوريا الشمالية، طوال معظم سنوات حكم بوريس يلتسين.
 
في هذه الظروف، لم يبق لكوريا الشمالية إلا الصين التي عوضت الكثير مما فقدته بسبب التحول في السياسة الروسية، لكن ذلك لم يكن علي حساب علاقات متصاعدة مع كل من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية.
 
في هذا الجو، زادت آقتناعات كوريا الشمالية بضرورة أن تكون هناك شبكة حماية وطنية، خاصة أنها كانت تحلل ما يرد من الطرف الآخر من رؤى خاصة بالوحدة عبر الامتصاص، وجعل الانفتاح مدخلا للنفاذ إلي ذلك الصندوق المغلق (كوريا الشمالية)، ومن ثم تحطيمه. وعلي ذلك، فقد شرعت في برامج متنوعة لدعم أمنها وضمان وجودها. وفي الوقت نفسه، لم تغلق الباب أمام فرص التسوية أو التقارب. ومن ذلك مفاوضاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر عهد إدارة بيل كلينتون، والتي تكللت بزيارة وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت لبيونج يانج. كما تجاوبت مع سياسة الشمس المشرقة التي طرحها الرئيس الكوري الجنوبي كيم داي جونج. ومن ثم، كانت القمة الأولي بين الكوريتين منتصف عام 2000، وما لحقها من تطورات إيجابية علي صعيد العلاقات بين الكوريتين، إلي أن جاءت حادثة غرق السفينة الحربية الكورية الجنوبية "تشيونان" في مارس 2010، حيث اتهمت كوريا الشمالية بأنها وراء الحادث.
 
وهكذا، تحول الأمر من تقارب أمريكي مع كوريا الشمالية إلي وضع للأخيرة ضمن دول محور الشر مع إدارة جورج بوش الابن. وبدأت معدلات التواصل بين الكوريتين في التراجع، وعادت لغة التهديد والوعيد، وفي بعض الأحيان الاشتباكات المحدودة.
 
كما أن الخطوات التي اتخذتها اليابان تجاه كوريا الشمالية، والتي وصلت إلي ذروتها بزيارة رئيس الوزراء الأسبق جونيتشيرو كويزومي لبيونج يانج، أخذت هي الأخري في التراجع. ثم كان توقف المفاوضات السداسية.
 
في هذا السياق، توالت التفجيرات النووية في 2006، و2009، و2013، و.2016 كما أن تجارب لإطلاق الصواريخ القصيرة، والمتوسطة، وبعيدة المدي باتت متكررة، ومعها إطلاق الأقمار الصناعية، كما حدث في ديسمبر 2012، وفبراير .2016
 
إطار دولي وإقليمي فسرت كوريا الشمالية معطياته علي أنها مهددة لها، ومن ثم باتت تبحث عن كل ما من شأنه ردع المتربصين، والتصدي لهم، في حال أقدموا علي العدوان.
 
هل يمكن عدّ ردود الفعل علي التجارب النووية الكورية الشمالية السابقة من بين العوامل التي دفعتها للقيام بما أقدمت عليه أخيرا؟ المسألة مرتبطة بمستوي ردود الفعل، ومدي تأثيرها، حيث إنها وقفت عند حدود قرارات دولية من مجلس الأمن، وعقوبات ثنائية من قبل بعض الأطراف، مع عدم كفاية في أدوات التنفيذ بالنسبة للعقوبات المفروضة من قبل مجلس الأمن، علي الرغم من أن القرارات تصدر طبقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
 
ومن حيث الآثار السلبية للعقوبات، فقد ظلت هناك قدرة، سواء بشكل ذاتي، أو بالاستعانة بالدعم الصيني، وكذلك الروسي، الذي عاد لسابق عهده تقريبا، في ظل ما يجري من تفاعلات بين روسيا والولايات المتحدة علي الصعيد العالمي. ويكفي هنا ذكر ما تم علي صعيد تسوية الديون الكورية الشمالية للاتحاد السوفيتي السابق. وفي الوقت الذي ظلت فيه كل من روسيا والصين تعربان عن رفضهما المطلق للسلوك الكوري الشمالي علي صعيد التسلح النووي والصاروخي، فإنهما تطرحان في الوقت ذاته قضايا أخري بخصوص السلوك الأمريكي تحديدا تجاه كوريا الشمالية.
 
وبالمحصلة، فإن كوريا الشمالية وجدت أن الفوائد المتولدة عن الاستمرار في التسلح غير التقليدي تفوق بكثير الخسائر، خاصة أن الفوائد يمكن أن تصنف في الباب الاستراتيجي، بينما تدخل الخسائر في النطاق التكتيكي، حسب النسق العقيدي التي تم الحديث عنه من قبل.
 
في سياق هذه الدوافع، توجد مجموعة من الأسباب المباشرة كانت وراء ما أقدمت عليه كوريا الشمالية من تفجير نووي، وإطلاق للقمر الصناعي، يتمثل أبرزها في:
 
1- التطور التكنولوجي، الذي بلغ مراحل متقدمة مكنت كوريا الشمالية من أن تجري تفجيرا نوويا هيدروجينيا هذه المرة مع ما يحتاج إليه من تكنولوجيات أكثر تعقيدا. ومما يدلل أيضا علي المستوي الذي بلغته علي هذا الصعيد ما قامت به العام الماضي من إطلاق صاروخ باليستي من غواصة.  ويلاحظ في الحالتين أن التحليلات السابقة لهما كانت تستبعد حدوثهما، وتري أنه يلزم سنوات قبل أن تتمكن كوريا الشمالية من امتلاك التكنولوجيا التي تمكنها من ذلك. وقد استمر البعض في التشكيك، حتى بعد أن حدثت التجارب التي تقول كوريا الشمالية إنها ناجحة.
 
2- الإرادة السياسية، حيث التصميم والعزم، وتوفير ما يلزم من أجل تحقيق المستهدف. ومن الواضح أن القيادة الحالية لا تقل عزما عن سابقيها، رغم حداثة السن. لكن كما ذكر من قبل، فإن نفس مصادر الفكر، ومحاور الحركة هي التي تحكم صانع القرا. بل إن عنصر الشباب قد يعطي اندفاعا أكثر. ويجب عدم إغفال أن تجربتين نوويتين من أصل أربع تمتا في عهد كيم جونج أون.
 
3- التلويح بالاستهداف المباشر للقيادة الكورية الشمالية، علي خلفية قضايا حقوق الإنسان، حيث وصل الأمر إلي حد التهديد بطلبها للمحكمة الجنائية الدولية. وإذا وضع ذلك في السياق العام للعلاقات مع الولايات المتحدة، وتوالي تراجعها، وعدم حدوث أي تجاوب مع الطرح الكوري الشمالي بخصوص اتفاقية السلام، وفي الوقت نفسه المكانة التي تمثلها القيادة الكورية في منظومة اتخاذ القرار، ورمزيتها بالنسبة للنظام - فإنه يمكن القول إن هذه كانت من بين الأسباب المباشرة لما حدث.
 
4- طبيعة العلاقات بين الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين، إذ يبدو أن ما يجري علي الساحة الأوروبية، علي خلفية قضية أوكرانيا، وفي الشرق الأوسط، علي خلفية القضية السورية، وفي الجوار الصيني، علي خلفية تركيز القوة الأمريكية في شرقي آسيا، وما تثيره قضايا بحر الصين الجنوبي بين الصين والولايات المتحدة - قد فهم لدي القيادة الكورية الشمالية علي أنه ظرف مناسب يمكن أن تمرر خلاله ما لم يكن من الممكن تمريره، لو كانت الظروف مغايرة، أو علي الأقل بثمن أقل.
 
5- العمل علي رفع سقف المطالب في حال حدوث مفاوضات، حيث إن مركز القوة سيكون أكثر تقدما، كما أن مستوي الثقة سيكون أعلي.
 
ثانيا- تداعيات وتعقيدات:
 
تداعيات علي أكثر من مستوي أحدثتها التجربة النووية الهيدروجينية، ومن بعدها إطلاق القمر الصناعي. كما أن التفاعلات، التي سارت في أكثر من اتجاه، أظهرت مدي التداخل والتعقيد في الحسابات لدي كل الأطراف.
 
كوريا الشمالية: جمعت التداعيات التي طالت كوريا الشمالية، جراء ما قامت به، بين الإيجابي والسلبي. فعلي الصعيد الإيجابي، اكتسبت المزيد من الثقة، وأظهرت قدرا أعلي من التحدي، وهذا ما برز في لهجتها حيال التصريحات والتصرفات الأمريكي، والكورية الجنوبية علي وجه الخصوص، وكذلك رد فعلها علي قرار مجلس الأمن، حيث انتقل الحديث إلي مستوي شن ضربات استباقية، وليس مجرد التصدي لما قد تتعرض له. كما أن شعبية القيادة علي الصعيد الداخلي قد ارتفعت، لاسيما في ظل الدعاية المكثفة. وفي الوقت نفسه، فإن ما حدث قد يعد قطعا لأي تفكير، ولو كان داخليا من قبل أطراف النخبة حيال القائد الشاب الذي أظهر بأسا قويا، ليس فقط حيال الداخل، بل والخارج أيضا.
 
وقد حدثت أمور سلبية مباشرة بعد الحدثين، حيث قامت كوريا الجنوبية بإعادة تشغيل مكبرات الصوت التي تبث دعاية ضد الشمال علي طول المنطقة منزوعة السلاح بين الجانبين، بما يعنيه ذلك من استئناف للحرب النفسية بين الجانبين. كما تم تجميد العمل في مجمع كايسونج الصناعي الذي كان يستوعب نحو 50 ألف عامل كوري شمالي يعملون في مشاريع أقامتها شركات كورية جنوبية، بما يعني فقدها لأحد المصادر المهمة للعملة الصعبة. وتم سن قانون خاص بحقوق الإنسان في الشطر الشمالي.
 
ثم جاء قرار مجلس الأمن رقم 2270، الذي صدر في الثاني من مارس 2016، والذي أكد ما ورد في قرارات المجلس السابقة، وشدد في بعض الإجراءات، فضلا عما أقره من قيود تخص التدريب، أو التدريس للأفراد الكوريين الشماليين في المجالات التي قد تستفيد منها برامج التسلح الكورية الشمالية، مثل الفيزياء، والمحاكاة الحاسوبية، والهندسة النووية، والفضائية، وهندسة الطيران، فضلا عن الإجراءات الخاصة بالتفتيش للسفن والطائرات المتجهة لكوريا الشمالية، أو المتوجهة منها، علاوة علي إدراج كيانات وأفراد كوريين شماليين جدد يحظر التعامل معهم.
 
كوريا الجنوبية واليابان: يمكن تلخيص التداعيات علي كوريا الجنوبية في ثلاثة جوانب. الأول يتمثل في زيادة درجة الانكشاف الأمني، والثاني يتمثل في فتح آفاق جديدة لتغطية دفاعية أكثر إحكاما. والثالث والأخير مرتبط بتأثير ما حدث في علاقاتها بالقوي صاحبة التأثير في شبه الجزيرة الكورية.
 
أما عن الانكشاف الأمني، فإنه قد لا يكون ماديا بقدر ما يكون نفسيا، في ظل استمرار التعهد الأمريكي بحماية كوريا الجنوبية، ومرابضة القوات الأمريكية علي أراضيها. إلا أن استمرار كوريا الشمالية في تطوير أسلحتها غير التقليدية من شأنه أن يزيد من خوف المواطنين، لاسيما  بعد كل ما قالته حكومة بلادهم عن ضرورة دفع الشمال ثمنا لخطواته الأخيرة، فضلا عن مصداقية كون القدرات النووية ليست ضمانة لبقاء النظام الشمالي. وبالنسبة للمجالات الجديدة للتغطية الدفاعية، فقد تم الإعلان عن إمكانية البدء في مفاوضات خاصة بنشر الدرع الصاروخية الأمريكية في كوريا الجنوبية. لكن هذه المسألة لا تزال موضع أخذ ورد، لأنها لا ترتبط فقط بالطرفين، وإنما هناك حسابات خاصة لدي الولايات المتحدة في علاقاتها بكل من روسيا والصين. وبخصوص التأثير في علاقات كوريا الجنوبية بالقوي صاحبة التأثير في شبه الجزيرة الكورية، فإن ما حدث أخيرا قد زاد من تقاربها مع اليابان، خاصة أنه قد سبق بتسوية واحدة من أهم القضايا المعلقة بين البلدين، منذ فترة الاحتلال الياباني لكوريا، وهي الخاصة باستغلال الفتيات الكوريات في أعمال الدعارة من قبل الجيش الياباني. وقد زاد التنسيق بين البلدين بإشراف الولايات المتحدة التي كانت دائما ما تحضهما علي تجاوز الخلافات، والسير قدما في التنسيق والتعاون الأمني. في المقابل، فإن الموقف الصيني لا يريح كوريا الجنوبية كثيرا، لكن حجم علاقاتهما الضخم علي الصعيد الاقتصادي يحد من حدوث توترات في العلاقات. قد يكون هناك بعض الفتور، لكنه لن يلبث أن يمر، وكذلك الحال مع روسيا، وإن بدرجة أقل.
 
من الطبيعي، في مثل هذا الجو المشحون، أن تتراجع العلاقات بين الكوريتين. وقد وصلت حالة العلاقات إلي القطيعة التامة، بعدما تم إغلاق مجمع كايسونج الصناعي، وقيام كوريا الشمالية بقطع خطوط الاتصال العسكرية.
 
لوحظ أن رد الفعل الياباني علي السلوك الكوري الشمالي كان قويا، ويظهر ذلك مدي الحساسية تجاه التهديدات التي تمثلها كوريا الشمالية. كما أن قضية المخطوفين اليابانيين لدي كوريا الشمالية لا يتوقع أن يحصل فيها أي تطور، في ظل فرض اليابان لعقوبات جديدة علي كوريا الشمالية، ورد الأخيرة بإيقاف الاتصالات التي كانت دائرة حولها.
 
الصين وروسيا: في الوقت الذي زاد فيه الاحتياج الدولي، وليس الأمريكي فقط، للصين من أجل ممارسة الضغوط علي كوريا الشمالية، فإنها في الوقت ذاته وجدت نفسها في موقف بدا معه وكأن النظام الكوري الشمالي خارج نطاق السيطرة الصينية. وقد أدي سلوكه إلي خلق تحديات جديدة، أو التعجيل بقربها، ومن ذلك نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي.
 
التداعيات علي روسيا أشبه بتلك التي حلت بالصين، وإن بدرجة أقل بالنسبة للقضية الأولي. أما بالنسبة للقضية الثانية، فإن درجة تأثرها أكثر، خاصة أن الأمر لا يرتبط بالدرع الصاروخية في الشرق الأقصي فقط، وإنما في أوروبا أيضا.
 
الولايات المتحدة الأمريكية: يمكن تلخيص التداعيات علي الولايات المتحدة في تزايد الانتقادات للإدارة الأمريكية الحالية، خاصة من قبل الكونجرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون، والذي سارع بسن قانون بفرض عقوبات جديدة علي كوريا الشمالية. كما أن الولايات المتحدة وجدت نفسها أكثر احتياجا لكل من الصين وروسيا في هذا الملف. ولا شك في أن ذلك سوف يؤثر في مواقفها من ملفات أخري تهم الدولتين.
 
سباق التسلح: هل يمكن أن يؤدي استمرار كوريا الشمالية في برامج التسلح غير التقليدية إلي سباق تسلح غير تقليدي في المنطقة؟ المؤشرات تقول إن العنصر الأمريكي يشكل عامل لجم لبعض الأصوات الكورية الجنوبية التي طالبت بضرورة مقارعة كوريا الشمالية علي صعيد التسلح غير التقليدي. لكن الأمر لا يقتصر علي كوريا الجنوبية، ولا علي الأسلحة غير التقليدية، حيث يتزايد الإنفاق العسكري في المنطقة إجمالا، فضلا عن استمرار الولايات المتحدة في تركيز قواتها في المنطقة، ودفعها لحلفائها لزيادة تعاونهم الأمني فيما بينهم، وكذلك مع شركاء جدد.
 
النظام الدولي لمنع الانتشار النووي: لا شك في أن التجربة النووية الكورية الشمالية تشكل ضربة جديدة للنظام الدولي لمنع الانتشار النووي. لكن هناك أسئلة كثيرة تطرح في هذا السياق بخصوص الحالات المشابهة لكوريا الشمالية، من حيث امتلاك تلك الأسلحة خارج نطاق اتفاقية منع الانتشار النووي الموقعة في عام 1968، وطريقة التعامل مع تلك الحالات، سواء بالتشجيع والحماية من أي نقد، أو بغض الطرف، كما هو في حالة إسرائيل، وفرض بعض العقوبات الوقتية، كما حدث مع الهند وباكستان، أو حتى بالدخول في تعاون نووي سلمي مع بعضها، كما هو حادث بين الولايات المتحدة والهند من ناحية، والصين وباكستان من ناحية أخري، علما بأن الولايات المتحدة قد عدلت من قواعدها الخاصة بالتعاون النووي السلمي خصيصا من أجل تعاونها مع الهند. وحتى اليابان التي كانت ترفض التعاون مع الهند علي هذا الصعيد في سبيلها لتوقيع اتفاق معها. ثم تأتي بعد ذلك التساؤلات الخاصة بالتزامات الدول الخمس النووية، طبقا للاتفاقية المذكورة، حيث إنها مستمرة في تطوير وتحديث ترساناتها النووية. ولعل مثل هذه النقاط هي التي دعت البعض إلي وصف ردود الأفعال الدولية علي التجربة النووية الكورية الشمالية الأخيرة بأنها نوع من النفاق، أو التعامل بمعايير مزدوجة.
 
عقب ما قامت به كوريا الشمالية، حدثت مجموعة من التفاعلات الداخلية في الأطراف المعنية. كما حدثت ولا تزال سلسلة من التفاعلات الثنائية والجماعية. وقد حكمت هذه التفاعلات مجموعة من الحسابات، لعل من بينها - بطبيعة الحال- توازنات القوي السياسية الداخلية، وحسابات المصلحة الوطنية، كما يراها صانع القرار.
 
وضح تماما منذ اللحظة الأولي أن هناك ما يمكن تسميته بجبهة الولايات المتحدة، وكوريا الجنوبية واليابان. وقد اختارت هذه الجبهة التشدد، حيث المسارعة بفرض عقوبات جديدة، فضلا عن تأكيد السير قدما فيما تفرضه من قبل، والإصرار علي ضرورة عدم حصول كوريا الشمالية علي أية فوائد، جراء سلوكها التصعيدي، بل وضرورة معاقبتها علي الصعيد الدولي، عبر قرار جديد من مجلس الأمن. ولوحظ في تفاعلات هذه الدول الثلاث غياب شبه تام لأي حديث عن المفاوضات. بل إن كوريا الجنوبية قد اقترحت مفاوضات لا تشارك فيها كوريا الشمالية. وعلي العكس من ذلك، فإن الحديث عن الحوار وأهميته كان مقرونا بالتحذيرات الشديدة التي أطلقتها روسيا، التي كانت قد رفضت المقترح الكوري الجنوبي بمفاوضات بلا كوريا الشمالية. أما الصين التي كانت لهجتها الأقل حدة، فإنها قد اجتمعت مع الأطراف الأخري في إدانة ما قامت به كوريا الشمالية، لكنها أصرت دائما علي أن الحوار هو الطريق الأهم للوصول إلي هدف إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية، كما أنها كانت تلمح من وقت إلي آخر إلي سياسة الأطراف الأخري حيال كوريا الشمالية، ودورها في وصول الأمور إلي ما وصلت إليه، في إشارة للسياسة الأمريكية بالأساس. أضف إلي ذلك أنها قد أقرت بحق كوريا الشمالية في الاستخدام السلمي للفضاء الخارجي، وإن أخذت عليها استخدام تكنولوجيا الصواريخ الباليستية المحظورة، طبقا لقرارات مجلس الأمن، وعندما ألمحت الصين إلي أنها مع صدور قرار جديد من مجلس الأمن، لوحظ الإعلان عن تأخير توقيع الاتفاق الخاص بالبدء في مفاوضات الدرع الصاروخية بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة. كما أن القمة الأمريكية مع دول الآسيان لم تذكر تفاصيل مثيرة بالنسبة للصين فيما يخص نزاعات بحر الصين الجنوبي.
 
من الواضح أن كل الأطراف تعي تماما الأوراق التي تمتلكها، وتحدد متي تستخدمها. ومن الواضح أن كل الأطراف، مهما تعْلُ لهجة البعض منها، لا تريد للأوضاع أن تنزلق إلي مستوي النزاع المسلح، خاصة في ظل الخبرة التاريخية، وفي ظل عدم اليقين بخصوص ما يمكن أن يخلفه هذا النزاع، فضلا عما يمكن أن يحدثه علي خريطة التوازنات، ليس في المنطقة فقط، بل وفي العالم كله.

رابط دائم: