الدولة الشرق أوسطية بين الإرهاب وأزمة الشرعية
20-3-2016

توفيق المدني
*
في زمن الحركات الجهادية المتطرفة، تعيش الدولة الشرق أوسطية، لا سيما تلك التي وصلت فيها الحركة القومية العربية إلى السلطة، تحت تأثير ظاهرة تفجر الدولة الشمولية، والبنية القسرية وغير التوافقية، إذ تقوضت الدولة بعمق رأساً على عقب. فخلال عدد من العقود، وجدت الحركات الجهادية المتشددة كثيراً من الفرص الإستراتيجية التي تتيح مروحة واسعة من الممكنات. فثمة تطلعات جديدة كانت محبوسة أو غير معبّر عنها برزت، جسدت نفسها في مشروع تنظيم «الدولة الإسلامية».
 
فالدول العربية الشرق أوسطية الجديدة وجدت نفسها من جديد مرمى لتنازع مزدوج يُمارس من جهة باسم القوى الديموقراطية التي تطالب بإعادة بناء الدولة الوطنية، ومن جهة أخرى باسم «الدولة الإسلامية» الأوسع. وبالتالي ثمة مشروعان يفضحان «الطابع الاصطناعي» واللاشرعية في الدولة الشرق أوسطية، يمزقانها بين خطر التجزئة وخطر الاتحاد في كيانات أوسع. ومن المعروف أن مشروع «داعش»، برغم إخفاقات عديدة في محاولات التوحيد، لم يكف أبداً عن التسلط على عدد من الحركات الجهادية.
ومن المفارقة أن الأقليات العرقية ـ الدينية تمثل اليوم أصلب المؤيدين لهذه الدول العربية التي أُنشئت على أنقاض أحلامها في تحقيق الوحدة العربية، لأنها ترى في هذه البُنى، إذا ما استبعدت ذات مرة، أفضل حاجز في وجه أمواج تنظيم «الدولة الإسلامية» - «داعش»، التي تدفع من الداخل أو من الخارج من أجل إنشاء دولة أوسع.
 
الدولة الشرق أوسطية العربية التي تروج لها بعض التوصيفات على أنها «دولة قومية» أو «دولة وطنية حديثة»، هي حالة تعبّر عن رهانات ورغبات أيديولوجية، أكثر مما تعبر عن واقع هذه الدولة القطرية ذاتها، التي تبقى نشأتها التاريخية مختلفة جذرياً عن السياق التاريخي ـ السياسي الذي نشأت فيه الدولة القومية الغربية، أي الدولة - الأمة، ولأنها أيضا ظلت بعيدة كل البعد عن الفتح البورجوازي الحديث، بل لأنها تجهل كلياً هذا الفتح البورجوازي المسمى بالحداثة السياسية والثقافية، التي تقوم على ركيزتين اساسيتين هما: الديموقراطية السياسية الحديثة، والعلمانية والعقلانية؛ فالمظهر الخارجي الحديث للدولة الشرق أوسطية العربية كان يخفي واقعاً داخلياً ذا بنية تقليدية ومتخلفة من حيث الجوهر، تهيمن فيها ايديولوجية تقليدية، لا تزال ترى السياسة باعتبارها شأنا من شؤون شخص الحاكم أو الزعيم أو القائد الملهم.
ولا يزال الفكر السياسي العربي بكل تلاوينه لا يميز بين الفكر القومي، والايديولوجية القومية، والأحزاب والحركات القومية التي تتبنى إيديولوجية قومية والتي وصلت إلى السلطة، ويحمِّل مسؤولية وأزمة الأوضاع الراهنة المزرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية في العالم العربي الى الفكر القومي العروبي الوحدوي. بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك حين يعتبر أن الهزيمة التي منيت بها الأمة العربية هي هزيمة الفكر القومي. يقينا، إن هزيمة الأمة العربية اليوم هي هزيمة تشمل الأفراد والجماعات، والطبقات، والأحزاب السياسية على اختلاف مرجعياتها الايديولوجية، والحركة القومية العربية لأنها لم تكن ديموقراطية، حيث يمثل إخفاقها وعجزها عن تحقيق أطروحاتها في الوحدة والنهضة العربية ـ برغم التأييد الأدبي والسياسي للجماهير الشعبية العربية لها ـ إخفاقاً تاريخياً عادلاً.
لكن الذي يتحمل وزر هذا الإخفاق التاريخي والهزيمة السياسية للأمة ليس الفكر القومي العروبي ولا المشروع القومي، وإنما الحركة القومية، التي يعتبر انهيارها وهزيمتها هزيمة المجتمع المدني وضموره، وتهميش الشعب، وإخراجه من السياسة، وتسيد الدولة القطرية التسلطية، التي حطمت كل المبادئ والنماذج الثابتة في الوجدان الاجتماعي (الديموقراطية، الرابطة القومية، التنمية بشروطها الوطنية والقومية) إشباعاً لنزواتها وخدمة لذاتها. فالدولة القطرية إذاً هي التي تتحمل وزر هذه الأوضاع، لأنها أدارت ظهرها للإيديولوجيا القومية ولايديولوجيا الإسلام، فصنعت لنفسها ايديولوجيا منغلقة متأخرة أوصلت الأقطار إلى حالة البؤس.
 
وكانت هذه الدولة القطرية التي اضطلعت بتطبـــيق مشروعها التحديثي في نطاق علاقته بالمجتمع التقليدي الــذي دمرت الرأسمالية الكولونيالية توازنه العرضي الذي كان سائداً، أصبحت في الوقت عينه العنصر التكويني الرئيس للعلاقات الرأسمالية، باعتبارها دولة كانت تبحث دائماً عن ممارسة سياسة وسط بين النموذج الليبرالي ونموذج رأسمالية الدولة، وكانت تجسد رأسمالية الدولة التابعة للمراكز الرأسمالية الغربية بامتياز. لكن بعد تضخم هيمنة الدولة على المجتمع المدني وصولا إلى تدويله، وإلغاء دور القوى الاجتماعية والشعب على صعيد إنتاج السياسة في المجتمع، انبثقت الدولة البيروقراطية التسلطية الحديثة، وامتلكت ناصية الاستبداد المحدث، من «مصادر الاستبداد التقليدي باحتكار الحكم مركز السلطة» من ناحية، ومن خلال «احتكار مصادر القوة والسلطة في المجتمع» عبر اختراق المجتمع المدني على مختلف مستوياته ومؤسساته، و«بقرطة» الاقتصاد إما خلال توسعة القطاع العام، وإما بإحكام السيطرة عليه فالتشريع واللوائح (أي رأسمالية الدولة التابعة).
 
وتكمن خصوصية التحديث في الدولة القطرية العربية في انفصاله الكلي عن المسألة الديموقراطية، والحداثة السياسية، سواء في مفهومها الليبرالي الغربي المتعلق بإحلال مفهوم المواطنة، والاعتراف بسلطة الفرد الحر المسؤول، وبناء المؤسسات السياسية والدستورية التمثيلية، أم ببعدها المتعلق بالتوزيع العادل للثروة الوطنية وتوحيد التنمية وفق اختيارات اقتصادية اجتماعية تخدم مصالح الطبقات والفئات الشعبية.
 
إن ظهور تنظيمات «القاعدة» و «داعش» يؤكد على الفشل التاريخي للدولة الشرق أوسطية وانتشار ظاهرة الشعبوية وانعدام تقاليد الحوار الديموقراطي في ظل تغييب كامل للديموقراطية من جانب الدولة التسلطية. وانفصال الدولة القطرية عن المجتمع الذي هو أبرز مظهر من مظاهر الدولة الاستبدادية، والهزائم المتلاحقة التي منيت بها الأمة العربية، وإخفاق المشروع النهضوي العربي، شكل الأرضية الخصبة، والأسباب الرئيسية للعودة الضخمة والصارخة للعامل الديني، والاستخدام الشديد السياسي والاجتماعي والثقافي لهذا الإرهاب من جانب الحركات الجهادية المتطرفة. هكذا، تعتبر «الدولة الاسلامية» من إفرازات الهزيمة المذلة للدولة العربية أمام المشروع الأميركي - الإسرائيلي من جهة، وأمام همجية الاستبداد من جانب الدولة التسلطية من جهة أخرى.
 
-----------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 19-3-2016.

رابط دائم: