إصلاح "المدركات الخاطئة" .. والحد من الصراعات
1-1-2016

د. خالد حنفي علي
* باحث في الشئون الإفريقية
الإدراك هو العدسة الكامنة في عقولنا التي نفهم من خلالها حقائق الحياة، وما يجري فيها من أحداث. وعلي أساسها، تتحدد خطاباتنا، وانحيازاتنا السلوكية تجاه معطيات دون أخري في المجالين الخاص أو العام. ولا ينشأ هذا الإدراك، سواء للفرد أو الجماعة، من تلقاء ذاته، بل إن هناك مصادر مختلفة تتدخل في تشكيله، كالدين، واللغة، والثقافة، والعرق، والتنشئة الاجتماعية، والذاكرة التاريخية الجماعية، والخبرات الشخصية، وغيرها. تلك المصادر لا تصيغ فقط حالتنا الذهنية، وأنماط تفكيرنا، بل هويتنا، وانتماءاتنا الفردية والجماعية، فهي تضع حدودا وملامح لمن "نحن"، ومن "هم" الآخرون، والتي تتعزز بطبيعة الظروف الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية.
 
قد يكون الاطلاع علي ما بداخل العقول من مدركات وأفهام ليس بالأمر الهين، لكن الواقع عادة ما يكون مرآة عاكسة وساحة كاشفة لرؤيتنا للأمور. لنضرب مثالا من ظاهرة يعانيها عالمنا العربي في الوقت الراهن، فالخطابات والسلوكيات العنيفة لدي بعض الجماعات الدينية المتشددة، منذ بروزها إبان سبعينيات القرن العشرين، وحتي نموذج تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، ليست إلا انعكاسا لمدركات متراكمة ومختزنة في عقول المنتمين لهذه الجماعات، لا تجد غضاضة في تكفير معارضيهم، بل والترخيص بقتلهم، تحت مبررات ووعود نفسية وإدراكية يحكمها منطق "الفرقة الناجية".
 
وإذا كانت بعض التفسيرات الدينية المتشددة قد أسهمت في نشوء الحالة الذهنية لـ "الإرهابيين" في عالمنا العربي، دون إغفال عوامل اجتماعية، وسياسية، وثقافية، فإن المدركات الإثنية والعرقية قادت في مجتمعات أخري إلي نشوء حالات صراعية حادة. فالنظرة الاستعلائية النفسية التي مارستها إثنية التوتسي تجاه الهوتو، والمدعومة بأنماط اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، لعبت دورا في إشعال المذابح في رواندا في عام .1994 تلك الحالة الذهنية للمتنازعين شكلت أيضا خلفية مؤثرة في حرب البوسنة (1992-1995)، والتي اختلطت فيها النعرات القومية والدينية.
 
الأمر ذاته يمتد إلي الدول والأنظمة السياسية. فالولايات المتحدة، مثلا، تنظر لنفسها علي أنها أمة الحريات، والعقلانية، والتفوق، والمساواة، وهو إدراك يرافق دوما صياغة سياساتها تجاه الدول الضعيفة التي تفتقد لهذه المقومات، من وجهة النظر الأمريكية. بل إن الاستبداد عندما يتمكن ممن يقودون الأنظمة السياسية، فقد تحدث فجوة بين مدركاتهم والواقع. ولا أدل علي ذلك من الكلمة الشهيرة للرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي " فهمتكم جميعا" في خطاب الـ 13 من يناير 2011، بعد مطالب المحتجين في بلاده برحيل نظامه، في إشارة تدل علي تأخره في إدراك وفهم مطالب التغيير في مجتمعه.
 
ولا ينبغي التوصل لنتيجة، مفادها أن مدركاتنا أو مدركات الآخرين تجاهنا بمنزلة القدر المحتوم الذي لا يمكن تغييره أو إصلاحه. فبعض المجتمعات الإفريقية، مثلا، كبتسوانا، غيرت خلال العقدين الأخيرين النظرة لها في التقارير الدولية من دولة مستضعفة ومتلقية للمساعدات كتعويض عما استنزفه الغرب من مواردها، إلي أخري قادرة علي تحقيق معدلات متقدمة من الدخل والنمو الاقتصادي. هذا التغير الذي أحدثه البشر علي واقعهم يفترض أن ينعكس علي تغيير مدركات بعضنا في العالم العربي. لكن المعضلة تبدو في هيمنة صورة سائدة مختزلة عن إفريقيا، كمكان للفقر، والعنف، والتخلف، نتاجا لإنحيازات نفسية وثقافية مسبقة تري التقدم قرين الشمال لا الجنوب.
 
في ضوء ما سبق، فإن التوغل في فهم مدركات الأفراد، والجماعات، والدول، وكيف تتشكل مصادرها وتجلياتها السلوكية في الظواهر الإنسانية، مثل نشوب الصراعات والأزمات داخل أو بين الدول والمجتمعات هو المهمة الأساسية التي يسعي لها هذا العدد من ملحق "اتجاهات نظرية". وبرغم صعوبة تلك المهمة وتعقدها، فإنها قد تستحق العناء البحثي، لاسيما وأن قضية الإدراك تستكشف جانبا غير مرئي وراء السلوك البشري، والذي لأجله تلاقت علوم النفس، والاجتماع، والسياسة لتطور مقاربات فهم الصراعات ومعالجتها.
 
ما وراء السلوك الصراعي:
 
الصراع، في فحواه الأكثر تداولا بين العديد من العلماء، هو تعارض للأهداف والمصالح لطرفين أو أكثر، قد يصل بهم إلي استخدام العنف. ومن ثم، فيكمن خلف هذا التعارض أنماط تفكير ومدركات متصادمة تصعب عملية استيعاب الأطراف المتنازعة لاحتياجات بعضهم بعضا، خاصة إذا كانت الحالة الذهنية المسيطرة عليهم بلغت حد النظر لبعضهم بعضا علي أنهم ليسوا "بشرا" يستحقون الحياة. وكلما اتسعت الهوة بين مدركات هذه الأطراف، أو صارت هناك تصورات مغلوطة لطرف تجاه آخر، يحدث ما يسمي بـ "الإدراك الخاطيء" الذي يلعب دورا مؤثرا في نشوب الصراع، وعرقلة تسويته.
 
هنا، باتت تسوية أو حل أي صراع تتطلب، بالإضافة إلي تحليل الجوانب السلوكية، والهيكلية، والظرفية لأطراف الصراع وقضاياهم المحورية، فهما أعمق للظروف المنتجة لذهنية أطرافه، ومعرفة المصادر التي تتحكم في مواقفهم المتشددة، ومحاولتهم تدمير بعضهما بعضا، لاسيما وأن ذلك يعطي قدرة علي الحد من السلوك غير المتوقع لأطراف الصراع، وفهم دوافعهم، واتخاذ سياسات أكثر عمقا لمعالجة الصراعات، لاسيما وأن سمتها الأساسية، في العقود الثلاثة التي تلت الحرب الباردة، أنها أمست بين جماعات أولية (عرقية، دينية، مناطقية) أكثر منها بين الدول، بخلاف استدعائها لقضية الهوية لتصبح عنصرا بارزا في دوافع المتنازعين، ومتداخلا في الوقت نفسه مع قضايا السلطة والعدالة، والتهميش.
 
بمعني أكثر تحديدا، فأي صراع إذا كان معقدا وممتدا في بنية المجتمع، ومستجلبا لمصادر متداخلة ومنقسمة، كالدين، واللغة، والتاريخ، والعرق، والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، فلا يمكن أن تقتصر تسويته علي حسابات عقلانية (تنازلات ومكاسب مصلحية بين أطراف الصراع) بناء علي طبيعة توازنات القوي علي الأرض، بل يستلزم إصلاحا للمدركات والتصورات المغلوطة المتبادلة بين أطراف الصراع تجاه بعضهما بعضا، كي تحدث حالة يمكن وصفها بـ "التفهم الإدراكي"، و"الاعتراف المتبادل" بين أطراف الصراع بأن لكل منهم احتياجات هوياتية، وثقافية، ومادية مختلفة يمكن التعايش فيما بينها.
 
في هذا السياق، برزت اقترابات عملياتية جديدة لمعالجة الصراع، كتحويل الصراع، ودبلوماسية المسار الثاني، ودبلوماسية المسارات المتعددة، تدعو في مضمونها العام إلي أهمية أن يتوازي مع التسويات السياسية علي السلطة والثروة في الصراعات، أنشطة قاعدية مجتمعية تتعلق بالاتصال والحوار بين أطراف الصراع، كي يتم خلق أرضية مشتركة فيما بينهم، عبر لجان المصالحة، والاعتراف المتبادل، بخلاف مساعدة الأطراف علي إيجاد تصور ذهني صحيح لكل طرف من أطراف الصراع للآخر، لا يقوم علي فكرة  قهره، أو شيطنته، أو الاستهانة باحتياجاته.
 
مضمون هذا الملحق:
 
إذن، مسألة الإدراك باتت تكتسب أهمية نظرية وعملياتية في علاقاتها بظاهرة الصراعات، وهو ما سعت موضوعات هذا العدد من ملحق "اتجاهات نظرية" إلي مناقشته عبر مستويين، أولهما: إطار نظري يمثل القاعدة الأساسية لفهم قضية الإدراك وسوء الإدراك ودورها في نشوب الصراعات والأزمات. أما المستوي الثاني، فينحو أكثر إلي الواقع ليري كيف تتفاعل تلك الأفكار النظرية مع ظواهر صراعية وسياسات عامة باتت مؤثرة في منطقتنا العربية والعالم.
 
ففي موضوعه الرئيسي الأول، وضع الملحق إطارا نظريا حدد فيه معني الإدراك وسوء الإدراك، ومستوياته، ومجالات تأثيره في الصراعات والأزمات، ثم انتقل ليضع خريطة للمنظومة الحاكمة لتأثير سوء الإدراك من حيث الأنماط أو الأسباب، مبينا أربعة عوامل رئيسية تسهم في بروز المدركات الخاطئة، هي النظام العقيدي، والتوجه العاطفي، والنمط الإدراكي  المعرفي، والنسق المعلوماتي. وخلص إلي ما سمي بمعضلة "متلازمة العداء" التي تنتج عن سوء الإدراك، وتحتاج لتجاوزها إلي بيئة إدراكية وعاطفية سليمة لتصحيح رؤية الأطراف عن بعضها بعضا.
 
ولأن ظاهرة التنظيمات الدينية العابرة للحدود صارت مشتبكة مع الصراعات والأزمات الراهنة، فقد سعي موضوع ثان بالملحق إلي الإجابة علي تساؤل حيوي يتعلق بكيفية تشكل مدركات التنظيمات الدينية العابرة للحدود، خاصة أن هناك مصادر مختلفة تشكل مدركات أعضاء هذه التنظيمات، مثل التنشئة، والتعليم، ونمط التفسيرات الدينية التي يتبنونها، والتي خلقت في النهاية فجوة بين مدركاتهم ورؤيتهم والواقع.
 
وبما أن سوء الإدراك يمس في أحد جوانبه صناع القرار والسياسات التي تمتد تأثيراتها من الداخل إلي الإقليم، والعكس، لذا انطلق الموضوع الثالث من فرضية، مفادها أن السياسة الإقليمية تنبع بالأساس من إدراك القيادة السياسية لمعني الأمن القومي. ونوقشت تلك الفرضية بالتطبيق علي حالة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك في مصر، عبر محاولة تحليل مدي تأثيرات إدراك القيادة السياسية لأمن النظام لإعطاء أولوية لملفات إقليمية علي أخري.
 
وتضمن الملحق موضوعا رابعا مثيرا للتفكير والجدل حول ما سمي بـ "العمي الإدراكي"، وكيف يمكن أن يفسر ارتباك الثورات العربية، إذ ناقش كاتبه معضلة سوء الإدراك لدي أطراف الثورات التي تغافلت عن حقائق الواقع، مما أدي إلي صدمة النتائج المعاكسة. وحدد الموضوع ملامح العمي الإدراكي في أمور عدة، مثل: خطأ "القياس علي نموذج سابق"، والتضارب الإدراكي بين القوي الثورية والدولة، وخطأ الاحتكام للمنطق الصوري، وتثبيت الصور، أي عدم إدراك التغيير ذاته.
 
وفي مستوي آخر لفهم تأثيرات الإدراك في العلاقة بين المجتمعات، انتقل الملحق في موضوع خامس وأخير للإجابة علي تساؤل يتعلق بكيف يمكن أن تؤدي سيادة صورة نمطية معينة لمجموعة اجتماعية ما إلي ظهور حالات تميز عنصري قد تمتد إلي التهميش، واستبعاد اجتماعي لبعض المجموعات. وربط هذا الموضوع بين الإطار النظري لفكرة صناعة الصور النمطية، وظاهرة الإسلاموفوبيا التي تستهدف المسلمين في الدول الغربية.
 
وأخيرا، فإن الرسالة المبتغاة من مناقشة قضية الإدراك، وعلاقتها بالصراعات والأزمات هي إثارة النقاش السياسي والأكاديمي في عالمنا العربي ليهتم أكثر بالطريقة التي تتشكل بها أذهاننا، ومدركاتنا، وكيف إن إصلاحها هو السبيل إلي تطوير واقعنا.

رابط دائم: