سياسة الحيرة: استجابة الدولة العربية للتحولات الهيكلية في الشرق الأوسط
2-3-2016

سامي السلامي
* باحث في العلاقات الدولية

شكلت منطقة الشرق الأوسط لعقود أحد أهم المحاور الرئيسية في السياسات الخارجية للدول الكبرى، بهدف ضبطها، والتحكم في إيقاع تفاعلاتها، والحد من عناصر تأزمها، استنادا إلي أهميتها الاستراتيجية في بنية النظام الدولي، بفعل توافرها على ثلثي احتياط النفط العالمي‮.‬

ومثلت المنطقة مجالا خصبا لتنامي الصراعات والأزمات، وسط محفزات داخلية وخارجية‮. ‬فمن جانب،‮ ‬شكل الصراع العربي‮ - ‬الإسرائيلي أحد أهم عناصر تأزم الإقليم،  في ظل فشل دولي ذريع،‮ ‬بقيادة الولايات المتحدة، في إيجاد صيغة مناسبة لدفع الجانب الإسرائيلي للالتزام بقواعد القانون الدولي،‮ ‬والانسحاب الفوري واللامشروط من الأراضي العربية المحتلة، مع تصاعد نفوذ قوي إقليمية‮ ‬غير عربية،‮ ‬ذات مشاريع إحياء إمبراطوري‮ (‬تركيا وإيران‮).‬ ومن جانب آخر،‮ ‬أدت السياسات الأمريكية اللاعقلانية تجاه المنطقة إلي تدمير عناصر استقرارها،‮ ‬وإطلاق قوي الصراع الطائفي فيها،‮ ‬خاصة عقب‮ ‬غزو أفغانستان في عام‮ ‬2001،‮ ‬والعراق في عام‮ ‬2003‮)‬، بينما أدت محاولة الولايات المتحدة لاحقا للخروج من ورطة تمددها العسكري المبالغ‮ ‬فيه في المنطقة إلي خلق فراغ‮ ‬أمني كبير فيها‮.‬

ويذهب كثير من الباحثين إلي تشبيه المتغيرات المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط بـ‮ "‬البجعة السوداء‮"‬، في ظل صعوبة التنبؤ بمستقبل تفاعلاتها، وسط تحولات جذرية،‮ ‬دولية وإقليمية، تجلت أولي صورها في‮  ‬التراجع الأمريكي عن الانخراط العسكري المباشر في أزمات المنطقة خلال ولايتي أوباما، وهو ما يرجع بالأساس إلي فك الارتباط المباشر بنفط الخليج،‮ ‬وتوقع تلبية الإنتاج الأمريكي لاحتياجات واشنطن الطاقية خلال‮ ‬2020،‮ ‬وكذا لتنامي أهمية منطقتي آسيا الوسطي والباسيفيك في التفكير الاستراتيجي الأمريكي، في ظل ما تمثله الأولي من مصدر طاقة بديل ومهم تجاه الصين،‮ ‬واليابان،‮ ‬والاتحاد الأوروبي، وجب التحكم فيه لتقييد سياسات تلك الدول، وكذا الاستفادة من الفرص الكبيرة في ميدان التعاون الاقتصادي والاستثمارات،‮ ‬وبناء مشروع تكاملي يزاحم المشروع الروسي في المنطقة،‮ ‬وما يشكل السيطرة على الثانية من احتواء للنفوذ الصيني المتصاعد،‮ ‬والحزام الاقتصادي،‮ ‬وطريق الحرير‮.‬

ودفع تسارع الأحداث في الإقليم،‮ ‬ما بعد الحراك العربي، إلي مفاقمة عوامل الهشاشة الأمنية في المنطقة بشكل خطير، وتصاعد الفكر المتطرف، وتمدد التنظيمات الإرهابية، حيث يشكل التغير المتسارع، وغير المنضبط، في معطيات النظام الإقليمي، وسياقاته العالمية،‮ ‬وبنية دوله السياسية، والاجتماعية،‮ ‬والاقتصادية،‮ ‬والفكرية، تحديا حقيقيا لمستقبل المنطقة‮. ‬ويثير ذلك تساؤلا جوهريا حول أنماط استجابة الدولة العربية لتلك التحولات،‮ ‬ومدي ومدي جدوي هذه الاستجابات ونجاعتها في مواجهة التحديات التي تواجه هذه الدولة على مستوىات عدة‮.‬

تحاول هذه الورقة الإجابة على هذه التساؤلات، من خلال دراسة انعكاسات التحولات الجذرية في بنية النظام الدولي،‮ ‬وبنية الشرق الأوسط على أنماط استجابة الدولة العربية على اختلافاتها، وحدود استجابتها على مستوى السياسات الأمنية الإقليمية، والسياسات الخارجية، والسياسات الداخلية، مع تحليل مدي قدرة الدولة العربية على ضبط عناصر التأزم الداخلية،‮ ‬ومحفزاته الدولية والإقليمية‮.‬

أولا‮- ‬مستوى السياسات الأمنية الإقليمية‮:‬

وُلدت الدولة الحديثة من رحم الثورة الصناعية،‮ ‬بعدما برزت المراكز الصناعية، وأخذت الحركة الفكرية والفلسفية تنظر لضرورة إيجاد عقد اجتماعي جامع ينظم أمر الجماعة‮. ‬تطورت فيما بعد أشكال ذلك العقد،‮ ‬وتبلورت ملامح المولود الجديد حتي أخذت مقولات المواطنة،‮ ‬والدولة الوطنية،‮ ‬والنظم الديمقراطية بالتبلور والانتشار‮. ‬وضمن ذلك كله،‮ ‬كانت الحاجة ملحة لضبط العنف،‮ ‬ومأسسته،‮ ‬واحتكاره ضمن سلطة الدولة وسيادتها‮. ‬يري البعض أن ذلك العنف مبرر من حيث إن الدولة شكل تنظيمي لا يقوم عليه الاجتماع والإجماع إلا بالعنف‮.‬ بينما يري آخرون أن ممارسة الدولة للعنف ما هي إلا تعبير عن عجزها أمام عنف أكبر، من قبيل عنف العولمة، تمارسه علي مواطنيها‮(‬1‮).‬
تعد حماية الأمن أهم وظيفة من وظائف الدولة، التي تسعي للرفع من مقومات الاستقرار، وضبط كل عناصر التأزم، في استغلال تام للعنف المشروع الحصري المرتبط بمسارها‮. ‬ومن هذا المنطلق، وما يشهده الإقليم من انفلات أمني خطير، ناتج عن عناصر تأزم داخل الدولة وبمحيطها، يمكن حصرها في ثلاثة رئيسية‮:‬

أولا‮-‬ تنامي التنظيمات المتطرفة والإرهابية، في ظل توافر البيئة الحاضنة في الهوامش، جراء الاستبداد،‮ ‬وغياب التوزيع العادل لعوائد التنمية،‮ ‬طيلة العقود الماضية، مع تغذية هذا التطرف بالفكر السلفي الجهادي في الإقليم، ودعم دول،‮ ‬كالسعودية،‮ ‬وتركيا،‮ ‬وقطر،‮ ‬لهذه التنظيمات أيديولوجيا ولوجيستيا، لقلب أنظمة حكم في دول ذات سيادة‮.‬

ثانيا‮-‬ انهيار الدولة في سوريا،‮ ‬وليبيا،‮ ‬والعراق، ولابد هنا من تأكيد أن التفكك الذي أصبح يطول هذه الدول لم تنحصر محفزاته في البيئة الداخلية الحاضنة فقط، والتي لا يمكن لنا بأي حال من الأحوال نكرانها، وإنما أيضا في التدخلات العسكرية الغربية، التي أسهمت في إيجاد بيئة مناسبة للتنظيمات الإرهابية للتحرك والتمدد، خصوصا أن الخريطة الجيوسياسية في الإقليم، نتجت عن تقسيم استعماري‮ -‬لم تراع فيه الخصوصيات الحضارية والثقافية لكل دولة إبان استقلالها‮- ‬وليس عن إرادة شعبية، مما يرفع من نزعة الانفصال والتطرف،‮ ‬أثناء انهيار الدولة، وهو ما يهدد بالامتداد إلي دول الجوار الهشة داخليا‮.‬

ثالثا‮-‬ تنامي الحروب بالوكالة بين السعودية وإيران، في ضوء خفض الانخراط الأمريكي في الإقليم، والتي كانت بدايتها في العراق،‮ ‬قبل أن تمتد إلي كل من اليمن وسوريا، وما لذلك من تأثير كبير في الأمن الإقليمي، بفعل ذهاب طهران والرياض لدعم أطراف الصراع الطائفي،‮ ‬وحفز عوامله، وإثارة الحروب الأهلية، دون الأخذ بالدور الكبير الذي يمكن للدبلوماسية أن تلعبه في حل مختلف القضايا والأزمات‮.‬

وكان لهذه التحديات الأمنية تأثير في أنماط استجابة الدولة العربية على المستوى الأمني، والتي انقسمت، ما بين الاحتواء، والاشتباك، ونهج سياسة هجومية‮.‬مثَّل‮ "‬الاحتواء‮" ‬إحدي الاستراتيجيات التي انتهجتها بعض الدول العربية تجاه التهديدات الأمنية المتنامية في الإقليم، حيث قام المغرب،‮ ‬في مارس‮ ‬2015،‮ ‬بإنشاء المكتب المركزي للأبحاث القضائية، والمختص بقضايا الإرهاب والإتجار بالمخدرات والأسلحة‮.‬ وتمكن المكتب،‮ ‬منذ تأسيسه،‮ ‬من تفكيك عشرات الخلايا الإرهابية التابعة لـ‮ "‬داعش‮"‬، وآخرها خلية‮ "‬بني ملال‮" ‬في‮ ‬16‮ ‬نوفمبر‮.‬2015‮ ‬أما تونس، فاتخذت تدابير صارمة بتجميد نشاط عشرات الجمعيات المشتبه في مصادر تمويلها،‮ ‬وعلاقاتها بتنظيمات متطرفة، وتفكيك خلايا إرهابية،‮ ‬والقبض على مشتبه فيهم، وآخر التدابير الإعلان عن حالة الطوارئ في‮ ‬24‮ ‬نوفمبر‮ ‬‭.‬2015‮ ‬في حين قامت الجزائر بإغلاق حدودها بشكل مؤقت مع مالي،‮ ‬وليبيا، وكذا التنسيق مع الجانب الفرنسي للقضاء على التهديدات الأمنية المتصاعدة في منطقة الساحل والصحراء‮. ‬وصاحب هذا الاحتواء وضع ضمانات تشريعية كفيلة بمكافحة الإرهاب،‮ ‬وتجفيف مصادر التمويل، وذلك بتبني قوانين إرهاب جديدة،‮ ‬أو تعديل قوانين الإرهاب الجاري بها العمل في كل من مصر، والسعودية، والمغرب، وتونس، والجزائر، وقطر، والبحرين، والإمارات،‮ ‬والكويت‮.‬

وكان لتنامي وتصاعد وتيرة عمليات التنظيمات الإرهابية، تجاه أهداف حساسة في مصر، مع إعلان جماعة أنصار بيت المقدس مبايعتها لـ‮ "‬داعش‮"‬، وتأسيس ولاية سيناء، دور في اتباع سلطات القاهرة‮ "‬الاشتباك‮" ‬كنهج، بإطلاق عمليات عسكرية شاملة‮ "‬حق الشهيد‮" ‬في سيناء‮. ‬غير أن تمركز العدد الأكبر من أفراد هذه التنظيمات في جبل الحلال،‮ ‬التابع للمنطقة‮ "‬ج‮" ‬بسيناء، يضع القاهرة أمام محدودية في فعالية عملياتها، بفعل بنود الملحق العسكري‮ "‬1‮" ‬المرفق بمعاهدة السلام‮ "‬كامب ديفيد‮"‬، والذي يقيد من حجم القوات المصرية في المنطقة‮ "‬ج‮"‬، ويحصرها في قوات الشرطة المصرية‮.‬

واتبعت السعودية سياسة هجومية مباشرة،‮ ‬بعد تولي الملك سلمان بن عبدالعزيز الحكم في السعودية، حيث أعلن الأخير في‮ ‬29‮ ‬يناير‮ ‬2015‮ ‬تشكيل مجلسين جديدين،‮ ‬مجلس الشئون الأمنية والسياسية،‮ ‬برئاسة وزير الداخلية،‮ ‬محمد بن نايف، ومجلس الشئون الاقتصادية والتنمية،‮ ‬برئاسة محمد بن سلمان،‮ ‬وزير الدفاع، حيث جاءت هذه الخطوة كتفاعل مع التحديات الأمنية في الإقليم، والتي يتصدرها‮ -‬حسب المنظور السعودي‮- ‬تصاعد النفوذ الإيراني بالمنطقة، وهو ما انعكس على مستوى السياسات الأمنية الإقليمية في مبادرة الرياض بإطلاق عملية‮ "‬عاصفة الحزم‮" ‬في اليمن في‮ ‬26‮ ‬مارس‮ ‬2015،‮ ‬قبل أن تعلن مشاركة مصر،‮ ‬والمغرب،‮ ‬والأردن،‮ ‬وباكستان،‮ ‬والسودان،‮ ‬ودول مجلس التعاون الخليجي، باستثناء سلطنة عمان، فيها‮.

‬وبالرغم من أن مشاركة هذه الدول،‮ ‬من حيث واقعيتها،‮ ‬وحجمها،‮ ‬ومدي توافق أطرافها بشأن حدود أي تدخل في اليمن،‮ ‬وسبل تسوية أزمته،‮ ‬تبدو موضع تساؤلات مهمة، فقد أتبعت السعودية‮ "‬عاصفة الحزم‮" ‬بعملية‮ "‬إعادة الأمل‮" ‬في‮ ‬21‮ ‬أبريل‮ ‬2015‭.‬‮ ‬ويبدو مجمل التدخل السعودي في اليمن مأزوما،‮ ‬سواء فيما يتعلق بطبيعة وحجم ما أمكنه إنجازه في الداخل اليمني، أو فيما يتعلق بمدي رسائل الردع والنفوذ التي يبدو أن السعودية استهدفت إرسالها إقليميا‮. ‬وازداد الإنفاق العسكري في الإقليم خلال سنة‮ ‬2014‮ ‬بنسبة‮ ‬5‭.‬2  ٪، حسب تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، حيث حلت السعودية في المرتبة الثالثة عالميا بزيادة‮ ‬17 ٪،‮ ‬بما مقداره‮ ‬80‭.‬8‮ ‬مليار دولار، والإمارات العربية المتحدة ثامنة بـ‮ ‬22‭.‬5‮ ‬مليار دولار‮.‬

ويبقي الخلل الأكبر،‮ ‬الذي يطبع مسار السياسات الأمنية للدول العربية، هو‮ ‬غياب منظور موحد للتحديات التي تهدد الأمن القومي العربي، واستراتيجية واضحة لمحاربة الإرهاب، في ظل الخلافات التي تعرقل تفعيل تشكيل القوة العربية المشتركة،‮ ‬التي نص عليها قرار مجلس الجامعة العربية بتاريخ‮ ‬29‮ ‬مارس‮.‬2015

ثانيا‮- ‬مستوى السياسات الخارجية‮:‬

وجدت الإدارة الأمريكية الحالية نفسها أمام مأزق كبير في منطقة الشرق الأوسط، وميراث ثقيل خلفته إدارة جورج بوش الابن والمحافظين الجدد، من تدخلات عسكرية في أفغانستان والعراق‮ -‬تحت باب عقيدة الضربات الوقائية‮- ‬أظهرت للجميع حدود القوة الأمريكية في التعامل مع أزمات مشابهة، في ظل فشل ذريع في تسريع مسار عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين‮.‬

وعليه، تميزت السياسة الخارجية الأمريكية في عهد أوباما بنهجها‮ "‬تقاسم العبء‮" ‬في الشرق الأوسط، حيث إن صياغة هذه السياسة تجاه الإقليم، ترتكز على النقاط الآتية‮(‬2‮):‬
‮- ‬تقاسم عبء صنع السلام والأمن الإقليمي مع البلدان العربية‮.‬
‮- ‬دعم مبادرات السلام العديدة التي أخذتها البلدان العربية على عاتقها، وتشجيعها على تحمل المزيد من المسئولية‮.‬
‮- ‬التعلم من محاولة إدارة بوش الفاشلة لبناء تحالف مناهض لإيران، وتشجيع البدء بحوار إقليمي واسع للتوصل إلي ترتيبات إقليمية‮.‬
‮- ‬لا يعد تقاسم العبء تنازلا عن دور القوة العظمي الذي تضطلع به الولايات المتحدة، بل يمثل سياسة أفضل لحماية المصالح الأمريكية‮.‬

غير أن تغير الدور الأمريكي في المنطقة لا يحظي بتأييد من الحلفاء الخليجيين،‮ ‬خصوصا السعودية، التي تنظر لهذا التحول الجذري في سياسات واشنطن كتخل أمريكي عن أمن الخليج واستقراره، وتغليب لكفة النفوذ الإيراني المتصاعد في المنطقة، لاسيما بعد التوصل إلي اتفاق نووي تاريخي مع طهران خلط الأوراق السياسية‮.‬

ولا ننسي هنا التغيير الذي طرأ على خطاب الرئيس الأمريكي تجاه المسائل الداخلية الخليجية، حيث أكد‮ -‬خلال مقابلة أجراها مع توماس فريدمان في يوليو الماضي‮-‬ أن الخطر الحقيقي الذي يواجه أمن الخليج ليس إيران بدرجة أولي، وإنما المشاكل الداخلية التي تعانيها تلك الدول، بغياب مجال للتعبير والحرية يصّعد من الخطاب المتشدد‮. ‬وهو انتقاد صريح للسياسات الطائفية التي اتبعتها السعودية في المنطقة، والتي أدت إلي الحد من الدور الأمريكي في حل الأزمات المترتبة عليها، وإن استفادت واشنطن من عامل الفوضي للاستدارة شرقا، والتأكد من‮ ‬غياب الاستقرار الذي يجعل تحكم أي قوة بنفط وغاز المنطقة أمرا مستحيلا‮.‬

ولا يعد التحول الأمريكي في وسائل تدبيره لأزمات الشرق الأوسط تخليا عن المنطقة، وإنما إعادة ترتيب لأولويات السياسة الخارجية الأمريكية، و هو ما تأكد في الوثيقة الأمريكية المحدثة حول الأمن القومي لسنة‮ ‬2015،‮ ‬والتي أشارت إلي أهمية هذه المنطقة بالنسبة لواشنطن، وسعيها للحفاظ على أمنها،‮ ‬واستقرارها،‮ ‬ومحاربة الإرهاب فيها،‮ ‬مما يحيلنا سريعا للحديث عن معطي مهم، يتمثل في‮ "‬ضبط النفس الاستراتيجي‮" ‬الذي طبع سلوك أوباما تجاه المنطقة، وتجاه العديد من القوي الإقليمية فيها كإيران‮.‬ فتصور الرئيس الأمريكي لطرق تدبير أزمات المنطقة ينبني بالأساس على القطع مع نهج الإدارة السابقة، وجعل الدبلوماسية أداة ووسيلة رئيسية لانتزاع مكتسبات بعيدا عن التدخل العسكري المباشر، مع فتح الحوار مع دول كانت تعد إلي الأمس القريب دولا مارقة، وهو ما أبان نجاعة كبيرة بعد التوصل إلي اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني‮.‬
لكن الوثيقة،‮ ‬في الوقت نفسه، وضعت تصورا واضحا لاتجاهات ذات أهمية كبري في السياسة الخارجية الأمريكية،‮ ‬بعيدا عن منطقة الشرق الأوسط،‮ ‬وأهمها‮(‬3‮):‬
‮- ‬تطوير اقتصاد قوي وخلاق، وتنمية الاقتصاد الأمريكي،‮ ‬ضمن نظام الاقتصاد العالمي الحر والمنفتح على بعضه‮.‬
‮- ‬تقوية نظام الطاقة الأمريكي، وتحقيق الوصول إلي مصادر الطاقة كلها،‮ ‬وذلك من أجل تقوية النمو الاقتصادي،‮ ‬والتطور على المستوى العالمي‮.‬
‮- ‬تنفيذ أجندة التجارة الدولية،‮ ‬خصوصا ما يعود منها للتجارة مع دول الباسيفيك والأطلسي، وشراكة الاستثمارات، بما يزيد من خلق فرص عمل للأمريكيين،‮ ‬وتقاسم الازدهار مع الآخرين‮.‬

يبقي هذا التصور الأمريكي للاستدارة شرقا رهنا بحسابات ضيقة، مرتبطة أساسا بمدي تفاعل دول آسيا الوسطي والباسيفيك مع المشروع الأمريكي، في ظل الخصوصيات التي تتحكم في صياغة السياسة الخارجية لتلك الدول، والتأثير الصيني‮ - ‬الروسي في سياساتها تواليا، وبمدي الدور الروسي الجديد في منطقة الشرق الأوسط،‮ ‬بعد الضربات العسكرية الروسية في سوريا ضد تنظيم الدولة الإسلامية‮ "‬داعش‮".‬

لنتفق،‮ ‬بدءا، على أن العمليات الروسية في سوريا،‮ ‬وإن كانت تخضع لمحددات داخلية وخارجية مرتبطة بمنظومة من المصالح الحيوية لروسيا، بما فيها حماية الأمن القومي الروسي،‮ ‬والحفاظ على نقطة ارتكاز استراتيجية في الشرق الأوسط، وبشكل خاص في سوريا، فإنها لا تخلو،‮ ‬بشكل أو بآخر،‮ ‬من ترتيب بين موسكو وواشنطن‮.‬ إذ لا يمكن أن نتصور أن واشنطن عاجزة عن الموازنة بين استدارتها للشرق،‮ ‬والحفاظ على مصالحها في الشرق الأوسط، وإنما نحن أمام صفقة دولية وإقليمية معقدة على الأراضي السورية، لملء الفراغ‮ ‬من المنظور الروسي، وجر روسيا واستنزافها في حربها على التنظيمات الإرهابية من المنظور الأمريكي‮.‬

ومن ثم، في ظل هذه التحولات الجذرية في بنية النظام الدولي،‮ ‬وبنية الإقليم، فإن الحديث عن نجاعة في محاربة تمدد تنظيم الدولة الإسلامية‮ "‬داعش‮" ‬يبقي قاصرا‮.‬ فنحن أمام جيل جديد من التنظيمات الإرهابية،‮ ‬لم يشهد التاريخ المعاصر مثيلا له، بفعل توافره،‮ ‬من الناحية النظرية،‮ ‬على كل مقومات الدولة، فهو يسيطر على أراض واسعة، ويضبط سلوك فئات كبيرة من المواطنين العزل، وله جيش يصل عدده‮ -‬حسب تقديرات‮- ‬إلي‮ ‬30‮ ‬ألفا، ويتوافر على موارد ذاتية مهمة، وله منابر إعلامية،‮ ‬سمعية ومكتوبة، ومتمرس في استغلال وسائط التواصل الاجتماعي لتجنيد عناصر من دول أوروبا،‮ ‬وشمال إفريقيا،‮ ‬والقوقاز، وتدريبها على القيام بعمليات داخل دولها‮.‬

وعليه، تتحكم العديد من المحددات في أنماط استجابة الدولة العربية لمختلف المتغيرات الجارية في الإقليم على مستوى السياسات الخارجية‮.‬ فبعد التوصل لاتفاق نووي بين إيران ودول‮ (‬5‮ + ‬1‮)‬، اتبعت دول مجلس التعاون الخليجي،‮ ‬وعلى وجه التحديد السعودية والإمارات، سياسة انفتاح تجاه موسكو، ردا على السلوك الأمريكي في الإقليم، والذي صنفته الرياض في خانة التخلي عن أمنها واستقرارها لمصلحة امتداد النفوذ الإيراني‮.‬

وكان لتنامي نفوذ طهران في اليمن، والبحرين، ولبنان، وسوريا، والعراق، في ضوء انكفاء واشنطن عن أزمات الشرق الأوسط، أثر كبير على مخرجات السياسة الخارجية للرياض، التي اتبعت سياسة هجومية في اليمن وسوريا،‮ ‬تندرج ضمن باب‮ "‬تحمل المسئولية‮" ‬الذي نادت به إدارة أوباما، مع السعي لبناء علاقة جديدة مع روسيا الاتحادية، وهو ما تجلي في لقاء ولي ولي العهد،‮ ‬محمد بن سلمان، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ملتقي سان بطرسبرج الاقتصادي في يونيو‮ ‬2015، وإبرام اتفاقيات في ميدان الطاقة والاقتصاد،‮ ‬وتبادل التكنولوجيا النووية والعسكرية‮. ‬إلا أن الخلافات الجوهرية في وجهات النظر بين موسكو والرياض بخصوص الحالة السورية، لاسيما بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا، أعادت العلاقات من جديد إلي دائرة الشك والتوتر‮. ‬توتر امتد للعلاقات السعودية‮ - ‬المصرية، بفعل نهج القاهرة سياسة خارجية متوازنة، ومنفتحة على الدور الروسي المتصاعد في الإقليم، تضع محاربة الإرهاب والدولة الإسلامية‮ "‬داعش‮"‬، على سلم أولوياتها‮.‬

وكان لرفض القاهرة طلب السعودية إرسال قوات برية إلي اليمن انعكاس سلبي على علاقات البلدين، حيث توجهت الرياض نحو تركيا لبناء محور‮ (‬الرياض‮ - ‬أنقرة‮ - ‬الدوحة‮)‬، بديلا للمحور المصري‮ - ‬السعودي، وهو خطأ استراتيجي فادح وقع فيه نظام الملك سلمان بن العزيز، بانغماسه اللاعقلاني في الصراع مع إيران في الإقليم،‮ ‬ومنه في سوريا على وجه التحديد، على حساب وضع استراتيجية واضحة لمحاربة الإرهاب وتنظيم‮ "‬داعش‮" ‬مع الشركاء المصريين،‮ ‬في ظل رفض إماراتي لاستبدال تركيا بالحليف المصري، وحسبان انفتاح الملك سلمان على أنقرة تراجعا عن الموقف الرافض لتنظيم الإخوان المسلمين المحظور‮.‬

وتتمثل حدود الاعتماد السعودي على أنقرة، في الفشل والتخبط اللذين أصابا المخططات التركية إزاء الضربات الجوية الروسية في جبل التركمان، وهو ما تجلي واضحا في المحاولة اليائسة من أنقرة لتغيير قواعد اللعبة السياسية في سوريا بإسقاط طائرة السوخوي الروسية‮ (‬سو‮ ‬24‮)‬ لربح أوراق ضغط على طاولة المفاوضات في فيينا،‮ ‬ومن ضمنها فرض منطقة عازلة‮. ‬غير أن نشر موسكو منظومات‮ ‬S300‮ ‬وS400‮ ‬وفورت، وتزويد مقاتلاتها بصواريخ جو‮ - ‬جو، كرد على العمل التركي الخطير، غير من قواعد الاشتباك في الأجواء السورية، ومهد لمرحلة جديدة يصعب فيها الحديث عن دور تركي فعال في أي حل سياسي في سوريا، في ظل الاتهامات الموجهة لأنقرة من موسكو بتسهيل عبور الإرهابيين لسوريا،‮ ‬وشراء النفط السوري من التنظيمات الإرهابية‮.‬

هذا وغيرت العمليات الإرهابية،‮ ‬التي تبناها تنظيم الدولة الاسلامية‮ "‬داعش‮" ‬في باريس، من مواقف الدول الأوروبية تجاه مخرجات الحالة السورية، بالتركيز في المرحلة الراهنة على القضاء على هذا التنظيم، عن طريق تكثيف الضربات الجوية،‮ ‬بالتنسيق مع الجانب الروسي، والدعوة‮  ‬لخلق قوة عسكرية برية تتكون مبدئيا من الجيش السوري،‮ ‬والمعارضة المسلحة‮ "‬المعتدلة‮"‬،‮ ‬وقوات أحرى‮. ‬و يعد الجيش المصري الأكثر قدرة على لعب هذا الدور، كنواة لقوات عربية مشتركة لمحاربة‮ "‬داعش‮"‬، بفعل قدراته العسكرية الكبيرة،‮ ‬وجاهزيته القتالية العالية، وكذا لاتباع القاهرة سياسة خارجية متزنة تجاه أزمات الإقليم‮. ‬غير أن تصلب الرياض في موقفها الداعي برحيل الأسد، وتنسيقها مع الجانب التركي المتشبث بمنطقة عازلة في جبل التركمان، يجعل من ايجاد صيغة سياسية ملائمة‮  ‬شرطا أساسيا للتحول صوب محاربة هذا التنظيم، الذي يتطلب استراتيجية محكمة،‮ ‬وسنوات من الاشتباك معه‮.‬

واتبعت قطر سياسة خارجية براجماتية ومستقلة عن دول مجلس التعاون الخليجي، تعمل فيها على استثمار مساحة الحركة المتاحة لها، حيث يخضع سلوكها في الإقليم لهاجسين، أولهما‮: ‬توجسها من الرياض،‮ ‬وتخوفها من تكرار السيناريو العراقي‮ - ‬الكويتي على الأراضي القطرية، وثانيهما‮:‬ محاولة الخروج من محور الصراع السعودي‮ - ‬الإيراني‮.‬

أما المغرب، فاتخذ من التوجه لإفريقيا جنوب الصحراء مخرجا من مخرجات سياسته الخارجية لضبط عناصر تأزمها،‮ ‬والاستفادة من فرص تنميتها، كحاجز أمام التهديدات الأمنية المتنامية في المنطقة، وكذا الانفتاح على كل من الصين وروسيا، وتقديم نفسه كشريك اقتصادي للدولتين،‮ ‬قصد كسب أوراق سياسية جديدة‮.‬ويبدو واضحا تراجع أولوية‮ "‬القضية الفلسطينية‮" ‬في أجندة السياسة الخارجية للدولة العربية، حيث أصبح اهتمام كل قُطر منصبا حول سياسات قُطرية للحد من عناصر التأزم الداخلية، وصياغة سياسة خارجية قادرة على التكيف مع المتغيرات الدولية والإقليمية، والبحث عن توسيع النفوذ،‮ ‬على ضوء خفض الانخراط الأمريكي في الإقليم‮.‬

ثالثا‮- ‬مستوى السياسات الداخلية‮:‬

كان لنموذج الدولة العربية الخاضعة للاقتصاد المعولم تداعيات خطيرة على نظامها السياسي، بفعل عجزها عن ابتكار أدوات تسمح لها بالموازنة بين تحديات الاقتصاد العالمي،‮ ‬والتزاماتها السياسية،‮ ‬والاقتصادية،‮ ‬والاجتماعية،‮ ‬والثقافية تجاه المواطن‮. ‬فنهج الدولة للحلول الترقيعية لمجابهة الأزمات الاقتصادية على حساب القدرة الشرائية للمواطن، وذلك بلجوئها لقروض تقيد سياساتها بفعل الإصلاحات التي يشترطها صندوق النقد الدولي،‮ ‬قصد ضبط التوازنات الماكرو اقتصادية، عن طريق تبني خطط للتقشف،‮ ‬والخفض من الميزانية العامة،‮ ‬وكذا رفع الدعم عن المواد الأساسية‮ -‬خلق حراكا شعبيا يستمد شرعيته من الشارع، أدي إلي الإطاحة بنظم سياسية في تونس، ومصر، وانهيار الدولة في ليبيا،‮ ‬والعراق،‮ ‬وسوريا،‮ ‬واليمن‮.‬

وعليه، فإن الحديث عن أنماط استجابة الدولة العربية،‮ ‬على مستوى السياسات الداخلية، مرتبط أساسا بالعامل الاقتصادي، الذي يعد محددا لأنماط التفاعلات الاجتماعية،‮ ‬ومعيارا للسياسات العمومية‮.‬

1- ‬تراجع مفهوم الدولة التقليدي‮:‬

يتمحور دور الدولة التقليدي في تدبير الشئون العامة،‮ ‬عن طريق استغلال الموارد الوطنية لتلبية احتياجات المواطن‮.‬ ويتأسس هذا الدور على عقد اجتماعي مفترض يربط الجماعة بالفرد، ويتلخص في انخراط هذا الأخير بإرادته الحرة في الجماعة، وتعبيره عن ولائه لها، واحترام القوانين التي وضعتها، بناء على إرادة الأغلبية، مقابل تحقيق أمنه، واحترام حقوقه، المدنية،‮ ‬والسياسة، والاقتصادية،‮ ‬والاجتماعية،‮ ‬والثقافية‮.‬

ولم يعد دور الدولة في ظل العولمة محصورا في بعده التقليدي‮.‬ فالتحديات التي تواجهها الدولة، بفعل ارتباط اقتصادها بشكل مباشر بالاقتصاد العالمي، واستمرار تراجع فاعليتها، تضعها أمام إمكانية فك الارتباط بهذا الأخير، وما يتبع ذلك من خطر انهيار الاقتصاد الوطني بصفة كلية، بفعل بحث المستثمرين عن الأسواق الاقتصادية التي تقدم لهم امتيازات كبيرة لتنمية رءوس أموالهم،‮ ‬أو اتباع سياسات اجتماعية أكثر قسوة، تسهم في انخفاض درجات الرضا الاجتماعي، عن طريق نهج التقشف، والخفض من الموازنة، ورفع الدعم عن المواد الأساسية‮.‬ وليست أي دولة عربية بمنأي عن هذا الخيار، فدول،‮ ‬كالمغرب،‮ ‬وتونس،‮ ‬ومصر،‮ ‬والأردن،‮ ‬أسرعت إلي تطبيق هذه السياسات، مع الاستدانة لسد العجز الذي تعرفه الميزانية العامة،‮ ‬وكذا لتمويل مشاريع استثمارية‮.‬

كما أن ارتباط عائدات الدولة العربية بسلسلة من التفاعلات داخل المنظومة الاقتصادية العالمية،‮ ‬يجعل من أي تغير في بيئة الإقليم ذا تأثير مباشر في الاقتصاد الوطني، بفعل ارتباط مؤشر جاذبية الاستثمارات الأجنبية بعوامل،‮ ‬كالتوترات السياسية، والتقلبات الاقتصادية، والانفلات الأمني، وهو ما أثر بالفعل في الاقتصادين المصري والتونسي، جراء الضرر الذي أصاب قطاع السياحة في البلدين، على ضوء الهجمات الإرهابية التي عرفتها الدولتان‮. ‬كما دخلت الجزائر في أزمة اقتصادية خانقة، جراء تراجع عائداتها من النفط، بفعل تهاوي أسعار هذا الأخير في الأسواق العالمية، في ظل ارتباط نظامها الاجتماعي بمنظومة ريعية لاعقلانية، تجعل من الفرد مستهلكا،‮ ‬ومحصور الإبداع‮. ‬في حين استفاد المغرب من عامل الاستقرار كوجهة سياحية بديلة عن المناطق المتأزمة، وكذا تحسن العجز في الميزانية العامة بفعل تهاوي أسعار النفط‮.‬

ولا تُستثني دول مجلس التعاون الخليجي من‮  ‬تراجع نموذج الدولة الكفيلة‮.‬ فانخفاض عائدات النفط،‮ ‬التي كلفت ميزانية تلك الدول أكثر من‮ ‬300‮ ‬مليار دولار سنويا كخسائر، حدا بحكوماتها إلي الإعلان عن خطة لرفع‮  ‬الدعم بشكل تدريجي عن النفط ومشتقاته،‮ ‬خلال اجتماع الدوحة في سبتمبر‮ ‬2015، وما تبع ذلك في التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي في منتصف أكتوبر‮ ‬2015، والذي حذر السعودية من خطر نفاد احتياطياتها المالية في ظرف خمس سنوات، إذا لم تقم بتقليص الإنفاق الحكومي، خصوصا أنها تنفق‮ -‬حسب التقرير نفسه‮- ‬107‮ ‬مليارات دولار سنويا علي الدعم‮(‬4‮).‬‮

2- ‬احتواء التحديات‮:

إن محاولة احتواء الدولة العربية للتحديات،‮ ‬التي يفرضها انخراطها في الاقتصاد العالمي، باتت أحد أهم عناصر هشاشتها، بفعل ارتفاع نسبة عدم الرضا الشعبي إزاء العنف الاقتصادي الممارس من طرف الدولة، حيث تجنح هذه الأخيرة،‮ ‬خلال الظرفية الدولية الراهنة المطبوعة بأزمة اقتصادية‮ -‬بحسبانها اختلالا في التوازنات الماكرو اقتصادية،‮ ‬يتخللها إغراق السوق بالمنتجات وسط اختلال في الطلب لمصلحة العرض‮- ‬إلي تحطيم قوي الإنتاج الصغري الوطنية لمصلحة الاحتكاريات الكبرى الوطنية والغربية بهدف استعادة التوازن ما بين العرض والطلب،‮ ‬مع فرض ضرائب على المقاولين الصغار،‮ ‬والمواطنين البسطاء، واستثناء المستثمرين الكبار،‮ ‬حفاظا على عامل جذب رءوس الأموال، وهو ما يشهده المغرب حاليا، حيث تم النص على إجراءات ضريبية بالجملة في مشروع المالية لسنة‮ ‬2016،‮ ‬وذلك بالرفع من الضريبة على القيمة المضافة بالنسبة لنقل المسافرين على متن القطارات إلي‮ ‬20 ٪‮  ‬بدلا من‮ ‬14 ٪، وإلغاء حكومة العدالة والتنمية للضريبة على الثروة‮ (‬أو ضريبة التضامن‮) ‬التي كانت من ضمن برنامجها الانتخابي، مع تقديم حزمة واسعة من الحوافز في القطاعات الصناعية من تسهيلات ضريبية وعقارية،‮ ‬وجمركية للمستثمرين‮.

‬وإذا كانت هذه الإجراءات مصحوبة بمعدل نمو لا يقل عن‮ ‬3 ٪‮ ‬سنويا، فإنها لا تعكس التوزيع العادل للثروات، حيث إن ثروة الملك محمد السادس تضاعفت خلال سنة واحدة‮ -‬حسب مجلة‮ "‬فوربيس‮" ‬الأمريكية‮-‬ إذ انتقلت من‮ ‬ 2.4  ‬مليار دولار سنة‮ ‬2014‮ ‬إلي‮ ‬5‭.‬7‮ ‬مليار دولار سنة ‮  ‬2015‮‬، في حين أن المغرب يحتل المرتبة‮ ‬119‮ ‬من أصل‮ ‬174‮ ‬دولة في مؤشر الفقر‮ (‬5‮).‬

إذا كان ضمان الأمن والسلم من بين أهم أهداف الدولة، فإن الولاء لها والالتزام بالعقد الاجتماعي مرهونان بمدي فاعليتها في تحقيق الحد الأدني من متطلبات المواطن، الذي اختار التنديد بالسياسات اللاشعبية التي أضرت بقدرته الشرائية، بفعل التهميش،‮ ‬وانعدام الشعور بالعدالة الاجتماعية، وهي سياسات وجدت الدولة العربية نفسها مجبرة على اتخاذها،‮ ‬رغم تهديدها للسلم الاجتماعي‮. ‬وأدي تصاعد المظاهرات السلمية ضد سياسات الدولة العربية إلي تفعيل احتكارها للعنف المشروع، لضبط استقرار الداخل،‮ ‬وفرض احترام قراراتها، حيث شهدت تونس،‮ ‬والمغرب، والجزائر، ومصر، ولبنان، والأردن تدخل قوات الأمن لتفريق مظاهرات في هذا الخصوص‮. ‬وهو أمر طبيعي، فمتلازمة العنف والمشروعية لصيقة بالمسار المعاصر للدولة العربية‮.‬ غير أن العنف لا يمكن أن يكون مشروعا،‮ ‬في ظل مجتمع متفاوت طبقيا، وأن دولة الحق والقانون لن تتحقق،‮ ‬في ضوء تغليب شرعية الأوليجاركية على شرعية الدولة التقليدية، وإنما بالموازنة بين الجانبين،‮ ‬ووضع ضوابط لحدود كل طرف‮. ‬وهنا،‮ "‬وجب علينا أن نفهم جيدا دور وتأثير الأوليجاركية التي قويت تحت كنف أنظمة ما قبل الحراك العربي، لأنها قد تكون بمنزلة ثورة مضادة‮(‬6‮)".‬

إذا كان احتواء الدولة العربية،‮ ‬ذات الموازنة الضعيفة، لعناصر التأزم،‮ ‬والانهيار،‮ ‬والهشاشة التي تطبع مسارها الداخلي، مرهونا بالأساس بتحديات الانخراط الكلي في اقتصاد معولم، وسط تنامي الشعور بالتهميش، فإن الأمر يختلف عند نظيرتها من دول الخليج، التي جعلت من الامتيازات الاجتماعية التي تتيحها لها فوائضها المالية، رغم تراجعها، مدخلا لاحتواء اجتماعي وسياسي، مع الاستمرار في انتهاك مجال الحقوق والحريات، حيث تتعرض المرأة في السعودية لأبشع دروب التمييز، ويحكم بالسجن بعقوبات قاسية على كل من انتقد سياسات حاكم من حكام دول الخليج، مع دعم الأنظمة السياسية‮  ‬للخطاب الطائفي، وتوفير المرجعية الدعوية للتيار السلفي الجهادي الذاهب بالمنطقة ككل نحو عمق الهاوية‮. ‬وانطلاقا من هذا المعطي، فإن تمادي الدولة العربية في الاستبداد والإقصاء يذهب بالأطراف المهمشة نحو التطرف والنزعة لرفض المجتمع،‮ ‬وكره الآخر‮.‬ كما أن تمادي الدول الخليجية في استعمال العنف المشروع خارج إطار القانون يرفع من احتمال انهيار العقد الاجتماعي الذي يربطها بالأفراد‮ -‬خصوصا أن فوائضها المالية مهددة بالانتهاء في السنوات الخمس القادمة، وأن احتياطياتها من النفط والغاز لن تدوم،‮ ‬إن لم تقم بإصلاحات سياسية حقيقية تواكب التطور الكبير الذي عرفه ميدان الحقوق والحريات‮.‬

3- نهج سياسات مغايرة‮:‬

لا يمكن الجزم بأن الولاء للدولة العربية،‮ ‬واحترام التعاقد الاجتماعي سينفرط‮ -‬وإن كان دور الدولة العربية قد تراجع أمام شرعية الشارع والأفراد كقوة ثورية، واقتراحية، وتغييرية جديدة‮- ‬ولكن بقاء الدولة كإطار حمائي للجماعة مرتبط بمدي استحداثها لنمط استجابة جديد، عن طريق خلقها لآليات لمواجهة التحديات التي تنمي من احتمالات انهيارها داخليا، على الصعيدين السياسي والاقتصادي‮. ‬سياسيا، بالقطع مع الإقصاء والاستبداد بأشكاله القديمة،‮ ‬وأي محاولة جديدة لإحيائه، حيث أدي الحراك الشعبي،‮ ‬الذي عرفته مصر في‮ ‬30‮ ‬يونيو‮ ‬2013،‮ ‬إلي إسقاط حكم الاخوان المسلمين، وتأكيد قومية الدولة المصرية،  بتأثيراتها في محيطها الإقليمي، والرفض التام لـ‮ "‬أخونة مصر‮"‬،‮ ‬وتحويلها لمركز استقطاب لسياسات المحاور العربية في عهد مرسي‮. ‬وهو الدرس الذي استفادت منه جيدا حركة النهضة في تونس، عن طريق إقرارها بالتخلي السلمي عن السلطة، في ظل تنامي الاحتجاجات والمعارضة، والتأسيس لحكومة وحدة وطنية تضم كل الأطياف السياسية‮.

‬كما تنازلت المؤسسة الملكية في المغرب عن جزء من سلطاتها الدستورية، لمصلحة مؤسسة رئاسة الحكومة، مع الإقرار بتعديلات دستورية، لم تصل للمستوى المطلوب، إلا أنها خلقت مناخا إيجابيا، وفتحت الباب على مصراعيه أمام العديد من القضايا السياسية والحقوقية المهمة، كمسألة الملكية البرلمانية، واستقلالية القضاء، والفصل بين السلطات، واحترام حقوق الإنسان بشموليتها،‮ ‬وفقا لجميع المواثيق والعهود الدولية في هذا الجانب‮. ‬وهو المسار الذي تبعه الجانب الأردني، وإن على استحياء، بإقرار تعديلات دستورية حول قيود كانت تعرقل العمل السياسي والبرلماني، والعمل على تحقيق استقلالية القضاء،‮ ‬وتوسيع نطاق الحريات العامة‮(‬7‮).‬

اقتصاديا، بالبحث عن فرص تنمية ذاتية جديدة، مستقلة من ناحية التمويل والتخطيط عن المركز الاقتصادي الغربي، وقادرة على تحقيق عائدات على المستوى المتوسط‮.‬ ولعل كلا من مصر والمغرب سباقتان في هذا المجال، حيث عملت الأولي على إنجاز مشروع قناة السويس الجديدة، بتوسيع القناة لتسهيل حركة الملاحة،‮ ‬والرفع من عائدات القناة سنويا، وهو ما يتوجب‮ "‬ليس فقط توفير عوامل الجذب لها، ولكن أيضا ضمان عدالة توزيع عوائد التنمية الناتجة عن أي توسع في النشاط الاستثماري في تلك المنطقة‮. ‬وبقدر ما،‮ ‬تعد عدالة التوزيع تلك شرطا لاستقرار النظام السياسي في مصر، وعدم إعادة إنتاج تجربة الفشل السياسي والاجتماعي الذي صاحب تسارع معدلات النمو الاقتصادي إلي نحو‮ ‬7٪‮ ‬خلال السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، فإن عدالة التوزيع تلك تعد بالتالي أحد عوامل الجذب الاستثماري لتلك المنطقة‮"(‬8‮)‬، إضافة إلي السعي لدمج مصر في مشاريع تكاملية مهمة، حيث قامت القاهرة في مايو‮ ‬2015‮ ‬بتقديم طلب رسمي لإنشاء منطقة تجارة حرة مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي‮. ‬في حين توجه المغرب باستثمارات مهمة نحو إفريقيا جنوب الصحراء في محاولة لخلق مركز للتبادل الاقتصادي،‮ ‬والتعاون بصيغة رابح‮ - ‬رابح،‮ ‬والاستفادة القصوي من فرص التنمية التي تتيحها المنطقة، مع دعم مشاريع للبنية التحتية،‮ ‬وإنشاء طرق للنقل والمواصلات‮.‬

ويبقي السؤال المطروح‮:‬ هل يمكن أن تواجه الدولة العربية خطر الانهيار بشكلها الحالي،‮ ‬مثلما تحقق في حالات سابقة كالصومال،‮ ‬وسوريا،‮ ‬وليبيا؟ وجب بدءا التمييز بين حالتي الفشل والانهيار، بحسبان الأولي عجزا نسبيا للدولة عن القيام بوظائفها على مختلف المستوىات، وفشلها،‮ ‬خلال فترات متقطعة،‮ ‬في السيطرة على جزء من إقليمها، رغم وجود سلطة سياسية‮.‬ أما الثانية،‮ ‬فهي حالة لاحقة للفشل، وتعرف‮ ‬غياب سلطة سياسية،‮ ‬أو عجزها عن ضبط الجزء الأكبر من إقليمها لفترات طويلة‮. ‬وعليه، فإن الدولة العربية،‮ ‬بشكلها الحالي، تبقي معرضة لسيناريو الفشل، بتوافر أربعة محفزات داخلية‮. ‬سياسيا، في حال استمرار الاستبداد،‮ ‬وقمع الحقوق والحريات‮. ‬واقتصاديا، بالعنف الاقتصادي الممارس على الفئات الهشة‮. ‬واجتماعيا، بانعدام الرضا الاجتماعي، وغياب التوزيع العادل لعوائد التنمية، والاستمرار في التهميش‮. ‬وأمنيا، بانتشار الإرهاب والفكر المتطرف في الإقليم، واختراقه لدول المنطقة، في ظل تنامي نزعة انفصالية في العديد منها‮ (‬القبائل في الجزائر، الصحراء في المغرب، الشيعة في المنطقة الشرقية السعودية‮...).‬

غير أن سيناريو الفشل ينمو وينكمش، وفق التفاعل الإيجابي والسلبي بين البيئة الداخلية للدولة العربية،‮ ‬والبيئة الخارجية، مما يعني توافر محددات خارجية، دولية كانت أو إقليمية،  تسهم في تحفيز اتجاهات الإقليم‮. ‬وعليه، فإن ما تعرضت له فرنسا من أعمال إرهابية في باريس غير من نظرة أوروبا وحليفتها،‮ ‬واشنطن،‮ ‬لأي تقسيم للخريطة الجيوسياسية في الشرق الأوسط، وعجل من انكماش سيناريو فشل وانهيار الدولة العربية، بحسبانه خطرا على أمنها واستقرارها،  في ظل تنامي الفكر المتطرف،‮ ‬وانتشار الإرهاب العابر للحدود‮. ‬إلا أن الاستدارة الأمريكية شرقا، وخفض انخراطها المباشر في الشرق الأوسط، أسهما في نمط جديد من العلاقات المتداخلة والمتشابكة في الإقليم، واختلال في عناصره الضابطة من قوة، ومصلحة، وموازين القوي، نحو نظام إقليمي جديد،‮ ‬تلعب فيه إيران، وتركيا، وإسرائيل أدوارا بارزة‮.‬

المراجع‮ :‬

‮1- ‬ياسر صلاح، انهيار الدولة في مواجهة العولمة، مدونة الحقوق، ‮ ‬https://hogog.wordpress.com
2- ‬مارينا أوتاوي، تقاسم العبء في الشرق الأوسط، مركز كارينجي للسلام الدولي، ديسمبر‮ ‬2008،‮ ‬ص‮.‬1
3- العميد الركن نزار عبدالقادر، الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط‮ .. ‬سياسة نفض اليدين، مجلة الخليج، نقلا عن مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية في الجيش اللبناني، انظر الرابط
http://www.gulfmagazine.com/section/5811/?mobile=1
4‮4- لمزيد من التفصيل، راجع تقرير صندوق النقد الدولي حول التوقعات الاقتصادية في الشرق الأوسط المنشور بتاريخ‮ ‬21‮ ‬أكتوبر‮ ‬2015‮:‬
http://www.imf.org/external/pubs/ft/reo/2015/mcd/eng/mreo.1015htm#
5‮5- لمزيد من التفصيل، راجع تقرير فوربس عن أغنياء إفريقيا لسنة‮ ‬2015‮:‬
http://www.forbes.com/profile/king-mohammed-vi/
6-  Toby Dodge, Conclusion: The Middle East After the Arab Spring, LSE- IDEAS, p‮.‬65.
7‮ ‬- لمزيد من التفصيل حول التعديل الدستوري الأخير في الأردن، انظر الرابط الآتي‮:‬
http://constitution-unit.com/11/03/2015/constitutional-amendments-in-the-hashemite-kingdom-of-jordan/
- 8‮ ‬مالك عوني، بوابة التنمية‮: ‬تطوير محور قناة السويس واستعادة عبقرية الموقع المصري، مجلة السياسة الدولية،‮ ‬2‮ ‬أغسطس‮ ‬2015،
http://www.siyassa.org.eg

 

رابط دائم: