إصلاح الخطاب الدينى أم البيئة المجتمعية؟
12-10-2015

د. وحيد عبد المجيد
* مستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام
كلما ازداد الإرهاب، ومع كل تطور فيه، تصاعدت الدعوات إلى إصلاح الخطاب الدينى اعتقاداً فى أن المشكلة تكمن فى نصوص ينبغى تصحيحها أو التصدى لها، وليست فى المجتمع وبيئته المشوهة التى تدفع البعض إلى استخدام نصوص موجودة منذ قرون طويلة لدعم خروجه على هذا المجتمع.
 
ويبدو الاعتقاد فى أن «إصلاح الخطاب الدينى هو الحل» مرتبطاً بقراءة جزئية لتجربة أوروبا التاريخية فى الانتقال من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، وموقع قضية الإصلاح الدينى فيها.
 
لقد كان بناء الدولة الحديثة فى أوروبا صعباً وعسيراً. صراع طويل خاضه الأوروبيون منذ إرهاصات فجر نهضتهم فى القرن الرابع عشر لبناء هذه الدولة عبر مراحل عدة امتدت إلى نهاية القرن الثامن عشر. وبمقدار ما كانت تجربتهم مضنية، فقد صارت نموذجاً يُحتذى به لدى أنصار الدولة الحديثة فى العالم.
 
غير أن الاقتداء بنموذج بُنى على تحرير الإنسان من أغلال كبلته على مدى قرون طويلة يتطلب فهماً دقيقاً لمسألة معقدة للغاية هى طبيعة العلاقة بين التطرف الذى يسكن العقل، والواقع الذى يدفع إلى هذا التطرف، أو بمعنى آخر العلاقة بين النص الذى يعبر عن هذا التطرف والظروف التى تؤدى إلى حضور مثل هذا النص فى مراحل معينة وغيابه فى غيرها.
 
فإذا كان الإرهاب يبدأ تطرفاً يسكن العقل، وما دام هذا التطرف يرتبط بإساءة تأويل نصوص إسلامية، فإنه يبدو للوهلة الأولى أن إصلاح الخطاب الذى يؤدى إلى ذلك هو الحل، ولكن طرح مسألة إصلاح الخطاب الدينى على هذا النحو يختزل أزمة مركبة فى واحد فقط من جوانبها، فضلاً عن أنه ليس أهمها. فالعلاقة- أية علاقة بين النص- أى نص- والواقع لا تحدث من فراغ بل ترتبط بظروف يعيش فيها الإنسان الذى يتأثر بهذا النص وفق تأويل معين أو فهم محدد له.
 
ولو أن جوهر الأزمة يكمن فى الخطاب الدينى نفسه، لما ظل من يمارسون الإرهاب هم الاستثناء من القاعدة العامة. فقليل هم من يتطرفون دينياً، مهما ازدادت أعدادهم فى هذا البلد أو ذاك. وأقل منهم أولئك الذين ينتقلون من التطرف إلى الإرهاب، أى من الإيمان بخطاب متطرف إلى ممارسة فعل عنيف.
 
ولو أن الأزمة محصورة فى خطاب دينى متطرف لأصبح السؤال واجباً عن مغزى انحصار هذا الخطاب فى مراحل كثيرة، كما حدث فى مصر فى القرن التاسع عشر وحتى قرب منتصف القرن العشرين، ثم حضوره بصورة هامشية فى منتصف سبعينياته، قبل أن يزداد منذ ذلك الوقت.
 
ولذلك إذا بحثنا عن مكمن الأزمة فسنجده فى حالة المجتمع والثقافة السائدة فيه، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لفئاته المختلفة، وطبيعة النظام السياسى الذى تؤثر سياساته وممارساته فى حياة الناس. فكلما كان المجتمع أكثر محافظة سادت فيه ثقافة منغلقة، خاصة حين يكرّس التعليم هذه الثقافة ويتخلى عن دوره الرئيسى فى تفتيح العقل الذى يظل مغلقاً. وكلما كان النظام السياسى متسلطاً واحتكارياً ومُقيداً لمشاركة المجتمع فى إدارة الشأن العام، صار حائلاً أمام انفتاح ثقافة المجتمع وتفتح الزهور فيه بألوانها المختلفة.
 
وبدلاً من تفتح الزهور تتراكم عوامل الغضب والاغتراب عن المجتمع تحت السطح بأشكال ودرجات متفاوتة. وعندئذ يؤثر الخطاب الدينى المتطرف فى أولئك الذين يبلغ غضبهم أعلى مبلغ ليس بسبب تطرفه فقط، ولكن لكونه مناسباً للتعبير عن حالة الاغتراب أيضاً.
 
ولذلك يؤدى الخطاب الدينى المتطرف الآن الوظيفة التى أدتها فى مرحلة سابقة خطابات أيديولوجية أخرى تتيح بنيتها أن تُستخدم بعض تأويلاتها لتبرير اللجوء إلى العنف، مثل خطابات ماركسية عدة لينينية ومادية وتروتسكية ويسارية جديدة، وأخرى قومية وفوضوية وغيرها فى أنحاء مختلفة من العالم.
 
ولم يكن السعى إلى إصلاح أى من هذه الخطابات هو الذى أدى إلى محاصرة آثاره العنيفة، بل السياسات التى استهدفت تغيير البيئة المجتمعية التى لم يحدث هذا الأثر إلا من خلالها. وإذا عدنا إلى تجربة أوروبا التاريخية التى نُسىء فهم موقع الإصلاح الدينى فيها، نجد أن تغيير البيئة المجتمعية كان أكثر فاعلية فى مواجهة التعصب والتطرف والحروب المذهبية مقارنة بدور هذا الإصلاح.
 
فلم تفلح البروتستانتية التى ظهرت رداً على انغلاق الكاثوليكية وتوحش كنائسها الأوروبية فى تحقيق إصلاح دينى، إذ سرعان ما صارت جزءاً من المشكلة وليس الحل، لأن البيئة المجتمعية ظلت على حالتها البائسة. ولذلك انغلقت البروتستانتية بدورها وصارت جزءاً من مشكلة العنف الدينى.
 
ولم ينته هذا العنف إلا بفعل تغير البيئة المجتمعية فى المقام الأول، وبعد حروب مذهبية قاسية (بروتستانتية- كاثوليكية). فقد ذهبت رسالة رائد الإصلاح الدينى مارتن لوثر (1483- 1546) بشأن احترام حرية الاعتقاد أدراج الرياح لما يقرب من قرنين إلى أن بدأ التغيير فى البيئة المجتمعية يفعل فعله فى وضع حد للحروب المذهبية. فكان هذا التغيير المجتمعى هو السبيل إلى الإصلاح الدينى، وليس العكس.
 
----------------------------------------
نقلا عن المصري اليوم، 2-7-2015.

رابط دائم: