هل تعمق أزمة اليونان خطوط الصدع الأوروبية؟
22-7-2015

عرض: طارق راشد عليان
* باحث علوم سياسية

تاريخ النشر:22 يوليو 2015

تُثير أزمة الديون اليونانية احتمال حدوث صدع في منطقة اليورو الأوروبية، ففي الوقت الذي يوجد فيه اتجاه تقوده ألمانيا يُناقش علانية إمكانية رحيل اليونان عن منطقة اليورو، توجد هناك بلدان أخرى بقيادة فرنسا تدفع في اتجاه التوصل إلى اتفاق سياسي. يأتي ذلك بينما طلب وزراء مالية منطقة اليورو من اليونان في 12 يوليو 2015 إدخال إصلاحات إضافية على أنظمة المعاشات التقاعدية، واعتماد برنامج أوسع للخصخصة، ومراجعة تشريعاتها الخاصة بالعمل، وتطهير قطاعها المصرفي، وإلغاء الطابع المسيّس للإدارة العامة فيها، حيث يؤمن هؤلاء الوزراء بأنه عندئذ فقط ستكون أثينا في وضع يؤهلها للبدء في المفاوضات من أجل حزمة إنقاذ ثالثة.

بوادر الانقسام الأوروبي تلك يرصدها تحليل لمؤسسة "ستراتفور" الأمريكية المعنية بالتحليلات الاستخباراتية والجيوسياسية نشر في الـ12 من يوليو 2015، إذ يشير إلى تجاوز الأزمة حدود الوضع في اليونان؛ فللمرة الأولى خلال ستة عقود من الاندماج الأوروبي، فإن ألمانيا -وهي عضو مؤسس في الجماعات الأوروبية- صارت منفتحة على فكرة نقض عملية التقارب الاقتصادي والسياسي في أوروبا.

وفيما كان أعضاء مجموعة اليورو يتناقشون في بروكسل، كشفت وسائل إعلام عن أن وزارة المالية الألمانية أصدرت ورقة داخلية تقترح تعليق عضوية اليونان في منطقة اليورو لمدة خمس سنوات، وهو ما يظهر أن جزءًا من الحكومة الألمانية لم يعد يؤمن بأن اليورو "لا رجعة عنه" كما تنص معاهدات الاتحاد الأوروبي.

- الشقاق الأوروبي ومؤشراته:

بحسب التحليل، فقد عمّقت الدراما اليونانية الشقاق بين أوروبا المتوسطية وأوروبا الشمالية، إذ إن ألمانيا ليست البلد الوحيد الذي يشترط مطالب تقشفية إضافية على اليونان، حيث تؤيدها أيضًا البلدان الشمالية الأخرى، مثل فنلندا وهولندا، وحتى الاقتصادات الأصغر حجمًا مثل سلوفاكيا وسلوفينيا ولاتفيا وليتوانيا تخامرها شكوك في قدرة أثينا على إدخال إصلاحات ورغبتها في فعل ذلك.

وقد أدخل كثيرٌ من هذه البلدان الأصغر حجمًا تدابير تقشفية موجعة للتغلب على الأزمة الاقتصادية التي عصفت بأوروبا، وهي تعارض الآن أي تساهل مع اليونان؛ حيث نوّهت رئيسة وزراء لاتفيا لايمدوتا ستراويوما مؤخرًا إلى المفارقة الساخرة التي تنطوي عليها مطالبة الدولة البلطيقية الصغيرة بتقديم مساعدة مالية لليونان، "التي تساوي المعاشات التقاعدية فيها ضعفي مثيلاتها في لاتفيا".

ولفت التحليل إلى أن اليونان لا تتمتع بأصدقاء كثيرين في مجموعة اليورو في أيامنا هذه، لكن فرنسا وإيطاليا كان موقفهما لينًا، وطلبتا حلًّا سياسيًّا للإبقاء على أثينا في منطقة اليورو، حيث تخشى باريس وروما العدوى المالية المترتبة على خروج اليونان من منطقة اليورو، وذلك في وقت يكافح فيه اقتصاداهما من أجل النمو وخلق فرص العمل. كما أن كلا البلديْن تتربع على السلطة فيهما أيضًا حكومتان من يسار الوسط الذي يتعاطف كثيرون من مشرعيه مع اليونان، ويريدون إيجاد حل سياسي لهذه الأزمة. ففي مواجهة الموقف الألماني، قال الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند، إن باريس مستعدة لفعل أي شيء لأجل الإبقاء على اليونان في منطقة اليورو، في حين طلب رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي من برلين الكفّ عن إذلال اليونان.

ورجّح التحليل أن ينجوَ الاتحاد الأوروبي ويحافظ على بقائه لو حدث وخرجت اليونان منه، محذرًا في الوقت نفسه من أنه سينهار يقينًا في حال دبّ خلاف كبير بين فرنسا وألمانيا، وهما أكبر قوتَيْن سياسيتَيْن واقتصاديتَيْن في هذه الكتلة. وبعد الاستفتاء اليوناني، ساعدت باريس أثينا على الخروج بمقترحات أكثر شمولا للإصلاح الاقتصادي، لتواجه فقط موقفًا ألمانيًّا لا يتزحزح. وقد سعت فرنسا تقليديًّا إلى أن تكون الجسر بين أوروبا الشمالية والمتوسطية؛ حيث إن موقعها يجعلها تجمع بين كونها أمة متوسطية وشمالية. لكن الأزمة اليونانية جعلت هذه الاستراتيجية صعبة بوجه خاص؛ لأن حماية الروابط مع برلين تتضارب الآن مع هدف قيادة أوروبا الجنوبية.

 مخاوف محلية:

ووفقًا لستراتفور، فإن الأزمة اليونانية تتمخض أيضًا عن مخاوف محلية للاعبين الأساسيين الضالعين فيها؛ حيث أحدث التصويت الذي أجراه البرلمان اليوناني في 10 يوليو 2015 حينما وافق المشرعون على خطة تقضي بإدخال تدابير تقشف بعد رفض تلك التدابير في استفتاء شعبي بأقل من أسبوع، تصدعات في الحكومة اليونانية، حيث صوّت 17 عضوًا في حزب سيريزا الحاكم ضد هذه الخطة، أو امتنعوا عن التصويت عليها، أو غابوا عن التصويت، مما يضع سيطرة رئيس الوزراء أليكسيس تسيبراس على أغلبية في البرلمان اليوناني موضع شك.

وتتمتع الحكومة اليونانية بأغلبية في البرلمان بفارق 11 مقعدًا، ولم تحظ الخطة بالموافقة إلا بفضل دعم من المعارضة. وعقب التصويت مباشرة، قال وزير الاقتصاد اليوناني جورج ستاثاكيس إنه ينبغي طرد المشرعين الذي يعارضون خطط الحكومة من حزب سيريزا.

وثمة شاغل أساسي بالنسبة للبلدان الأوروبية الشمالية هو ما إذا كان سيكون بمقدور البرلمان اليوناني إدخال إصلاحات في مقابل الحصول على أموال إضافية أم لا. ويؤكد التصويت الذي جرى في 10 يوليو أن تسيبراس سيحتاج على الأرجح إلى دعم من المعارضة لتمرير تشريع يعد به الدائنين، وهو موقف ربما لا يكون رئيس الوزراء مستعدًّا لاحتماله لفترة طويلة. وإذا أخذنا في اعتبارنا الوضع السياسي في اليونان، نجد أن انهيار الحكومة الحالية يزداد رجحانًا يومًا بعد يوم، على حد قول التحليل.

وأوضحت مؤسسة "ستراتفور" أن أزمة اليونان تخلق مشكلات محلية بالنسبة للدائنين، حيث شهدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل منذ بدء المفاوضات مع اليونان في مطلع فبراير مقاومة من الأعضاء المحافظين في حزبها "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، الذي يرتاب في صدق أثينا في وعودها بشأن تنفيذ إصلاح. وسيكون من الضروري أن يصدق البرلمان الألماني على حزمة إنقاذ ثالثة لليونان، وهو ما يفسر جزئيًّا ضغط برلين على أثينا من أجل فرض شروط صارمة قبل أن يتسنى الإفراج عن أية أموال.

غير أن ميركل تحكم بالمشاركة مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني -وهو من أحزاب يسار الوسط- الذي يميل إلى تبني موقف أكثر لينًا نسبيًّا تجاه اليونان، وقد انتقد أعضاء هذا الحزب مؤخرًا زعيمه سيجمار جابرييل بسبب تصريحه بأن الاستفتاء اليوناني أحرق كل الجسور المؤدية إلى اتفاق. كما وضع المقترح الذي قدمه وزير المالية الألماني بتعليق عضوية اليونان في منطقة اليورو الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني في موقف محرج، وأصدر الحزب بيانًا في 11 يوليو أيّد فيه مبادرة فرنسا الرامية إلى الإبقاء على اليونان في منطقة اليورو.

وتتمتع ميركل وحزبها الاتحاد الديمقراطي المسيحي بشعبية، وليس الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني مستعدًّا للتسبب في سقوط الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة، لكن كما أن الأزمة اليونانية تختبر مرونة وصمود التحالف الفرنسي الألماني، فإنها تختبر أيضًا قوة الائتلاف الحاكم في ألمانيا.

وتُشكل الأزمةُ اليونانية تحديًا أمام الحكومة الفنلندية أيضًا. فمنذ مارس الماضي وفنلندا يحكمها ائتلاف يشمل حزب "الفنلنديون الحقيقيون" -وهو من الأحزاب المشكِّكة في جدوى الاتحاد الأوروبي- الذي يعارض تقديم حزمة إنقاذ ثالثة لأثينا. وقد انتهجت فنلندا تقليديًّا موقفًا متشددًا فيما يتعلق بعمليات الإنقاذ في منطقة اليورو، لكن تشكيلة الحكومة قلّصت المجال المتاح أمام هلسنكي للمناورة. وكما هو الحال مع ألمانيا، يتعيّن أن يصدق البرلمان الفنلندي على تقديم حزمة إنقاذ ثالثة لليونان.

أزمة أوروبية:

ووفقًا للتحليل؛ لا يُواجه الاتحاد الأوروبي أزمةً يونانيةً فحسب، بل يواجه أيضًا أزمة في هياكله، حيث أظهرت الأحداث الجارية في اليونان إلى أي مدى يؤدي قيام اتحاد عملة من دون اتحاد مالي إلى صراع في أوروبا. فمنطقة اليورو نادٍ يضم 19 ديمقراطية، لكل منها مصالحها الوطنية وأولوياتها ومحدودياتها، وكل طرف فاعل مضطر إلى السعي إلى تحقيق أهدافه الخاصة، وهو على طول الخط مقيد بالشأن السياسي الداخلي.

وأشار إلى أن الحكومة اليونانية وعدت بإنهاء التقشف والبقاء في منطقة اليورو والتوصل إلى إعفائها من الديون، وهو ما ثبت في النهاية أنه وعد مستحيل، مشيرًا إلى أن الحكومة الألمانية تحتاج إلى حماية أسواق صادراتها، ومن ثمّ اتحاد العملة، مع ضمانها في الوقت نفسه عدم بعثرة أموال دافعي الضرائب.

وأوضح التحليل أن كلا الحكومتَيْن الفرنسية والإيطالية تريد قيادة أوروبا المتوسطية مع حماية روابطهما السياسية التي تجمعهما بألمانيا. أما البلدان التي تلقت حزم إنقاذ من قبل، مثل إسبانيا والبرتغال وأيرلندا، فيرعبها احتمال أن يؤدي التساهل مع اليونان إلى تعزيز القوى السياسية المناهضة للتقشف كلٌّ في بلدها. أما الأمم الشمالية والبلطيقية الصغيرة التي كان الركود الاقتصادي فيها شديدًا بوجه خاص خلال المراحل الأولى من الأزمة الاقتصادية، فهي ترفض فكرة الاضطرار إلى تعريض ثروتها الوطنية للخطر من أجل مساعدة بلد على الجانب الآخر من القارة.

إن الأمور كانت ستصبح أسهل على الأرجح لو كانت أوروبا اتحادًا فيدراليًّا، لكن هذا مستحيل بفعل التاريخ والجغرافيا. وما بدأ كنقاش فني حول الوضع المالي العام لبلد على أطراف أوروبا تصاعد ليتحول إلى صراع يعرّي مواطن الضعف الهيكلي في الاتحاد الأوروبي.فما يزال أمام الاتحاد الأوروبي فترة قصيرة للعثور على حل لهذا الصراع، مشيرًا إلى أن دين اليونان الذي تدين به للبنك المركزي الأوروبي سيحل أجله في 20 يوليو. لكن القرارات التي تُتخذ في الأيام المقبلة لن تصوغ مستقبل اليونان فحسب، بل تصوغ مصير الاتحاد الأوروبي أيضًا.


رابط دائم: