الصين واليونان.. فقاعة وأزمة
15-7-2015

مدحت نافع
* خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
يجتهد المحللون فى رصد أزمتين اقتصاديتين عظيمتين ضربتا العالم خلال الأسابيع الماضية، فبينما رأى البعض أن أزمة اليونان تتعلق بإدارة مالية فاشلة، ومؤشرات اقتصادية ضعيفة، ظهر أن ما يحدث فى الصين من انهيارات فى سوق المال وأسواق السلع وخاصة المعادن، عبارة عن تداعيات انفجار لفقاعة سوقية جديدة سرعان ما تزول. لكن الرابط بين الأزمتين لا يمكن إدراكه فى معزل عن سياق عام بدأت ملامحه فى الظهور منذ أعوام.
 
اليونان الذى خطف انظار العالم أخيرا، واجه منذ أيام استفتاء شعبيا ساخنا على حزمة تقشفية جديدة من الترويكا (البنك المركزى الأوروبى ــ المفوضية الاوربية ــ صندوق النقد الدولى) تهدف إلى تحويل العجز المزمن فى الموازنة اليونانية إلى فائض يبلغ 3.5% (بعد استبعاد مدفوعات فوائد الديون)، عن طريق زيادة وتنويع المتحصلات الضريبية، وضغط الإنفاق الحكومى، وخاصة مخصصات الأجور والمعاشات. وقد استطاع الشعب اليونانى أن يميز بين ما هو اقتصادى وما هو إنسانى، وكان التصويت برفض الحزمة التقشفية بمثابة تحد لإرادة السياسة النقدية الموحدة لمنطقة اليورو، ومخاطرة كبيرة تهدد اليونان بالاستبعاد من تلك المنطقة.
 
وبينما تصدرت أزمة اليونان ــ وبدرجة أقل ــ أزمة بورتريكو عناوين الأنباء الاقتصادية، كانت أكبر بورصتين فى الصين تتعرضان لصدمات عنيفة. ها هى أسهم الشركات الصينية التى حققت نحو 110% ارتفاعا منذ نوفمبر 2014 لتبلغ ذروتها فى يونيو 2015، تخسر خلال ثلاثة أسابيع ما يقرب من 30% من قيمتها. فمنذ 12 يونيو 2015 وحتى الأسبوع الأول من شهر يوليو الحالى فقدت كل من بورصة شنغهاى نحو 24% من قيمة الأسهم المقيدة بها، بينما بلغ الانخفاض فى مدينة «شينزن» الجنوبية نحو 30%. قدرت الخسارة فى رأس المال السوقى لتلك الشركات بما يقرب من 3.2 تريليون دولار وهو ما يزيد عن الناتج المحلى الإجمالى لبريطانيا عام 2013 والذى لم يتعد 2.7 تريليون دولار! ويعادل أكثر من عشرة أضعاف الاقتصاد اليونانى قبل تراجعه فى السنوات الخمس الأخيرة!.
 
ولأن صعود مؤشرات السوق كان مصدرا لتفاخر جهات إدارة السوق الصينية، وتم استخدامه فى الدعاية لتعزيز الوضع الاقتصادى الصينى، فإن بداية الهبوط كان من المنطقى أن يرسل رسائل عكسية تؤشر بتراجع الاقتصاد الصينى، وتعطى إشارة بيع واضحة، خاصة لأولئك الذين حققوا مكاسب كبيرة من تداولهم خلال العام الماضى.
 
الحكومة الصينية مازالت تتبنى تدابير للتدخل فى الأسواق، تتنافى مع الطبيعة الحرة لأسواق رأس المال، منها مثلا قيام جهات الرقابة على الاسواق بمنع الوسطاء من تنفيذ عمليات البيع، وإلغاء العمليات التى تؤدى إلى انخفاض المؤشرات، وتوجيه تعليمات بالشراء المستمر، وتجميد الطروحات الأولية، وحض كبرى شركات الوساطة على إنشاء صندوق مشترك برأسمال 19.4 مليار دولار، بغرض شراء أسهم فى كبرى الشركات المكونة لمؤشر شنغهاى المركب!..هذا النوع من التدابير يتسبب فى زيادة الذعر المالى، ويغذى الاتجاه البيعى، فضلا عن أنه لم يمنع من الخروج من الأسواق، فحتى كتابة هذه السطور هناك نحو 1400 شركة من أصل 2800 شركة متداولة فى الصين قررت إيقاف أسهمها لمنع تداولها فى ظل هذا التراجع العنيف.
 
اليوم هناك أكثر من 90 مليون مواطن صينى يستثمرون أموالهم فى الأسهم المتضررة من الأزمة، وهو ما يفوق عدد أعضاء الحزب الشيوعى الصينى، ووفقا لشبكة الـBBC فإن 80% من المتعاملين بالأوراق المالية الصينية هم أفراد من صغار المستثمرين. ولأن غالبية المتعاملين هواة دخلوا السوق تحت تأثير سلوك القطيع، فمن السهل أن يكون خروجهم وفقا لذات السلوك مدمرا للأسهم.
 
مما سبق يمكن ان يتبين القارئ أبعاد الأزمة الصينية الحالية، ويمكنه اعتبارها مجرد فقاعة سعرية تنفجر، لكن قراءة المشهد فى سياق أزمة اليونان، وفى ضوء مؤشرات أداء الاقتصاد الصينى، يضفى بعدا جديدا على الأزمة. وبعيدا عن قنوات العدوى المالية التى أصبحت أكثر قدرة على النفاذ بين الدول عبر أسواق المال، وعمليات الاندماج والاستحواذ بين الشركات عابرة الجنسيات، وخطوط الإنتاج عابرة المحيطات.. وسائر مظاهر العولمة الحديثة، يمكن أن نرى أزمتى اليونان والصين كوجهين لعملة واحدة أصدرتها سياسات نقدية «تجريبية» اتخذتها بعض البنوك المركزية بهدف الخروج من تداعيات أزمة الرهن العقارى التى انفجرت فى الولايات المتحدة عام 2008.
 
ففى اعقاب أزمة الرهن العقارى توسعت البنوك المركزية فى اتباع سياسات التسهيل الكمى التى تهدف إلى شراء الأوراق المالية بغرض تعزيز أسعارها، لكن المستثمرين المحترفين أدركوا ما أصاب الأوراق المالية المتداولة من تضخم سعرى مفتعل تسببت فيه تلك السياسات، فاتجهوا إلى تصحيح الأسعار المتضخمة فى بورصات كبرى مثل بورصة شنغهاى لتتناسب مع المؤشرات الاقتصادية البائسة فى اقتصادات أوروبية مثل اقتصاد اليونان وغيره. تلك المؤشرات الاقتصادية التى تتمثل أساسا فى معدلات نمو ضعيفة (فقدت اليونان 25% من الناتج المحلى الإجمالى خلال السنوات الخمس الأخيرة) ومعدلات تضخم كبيرة، ومعدلات بطالة مخيفة وصلت إلى 60% بين الشباب اليونانى. أرادت البنوك المركزية بتلك السياسات غير التقليدية أن يشعر مالكو الأسهم بأنهم أكثر ثراء نتيجة لارتفاع أسعار الأسهم التى فى حوزتهم، ومن ثم يشعرون بزيادة ثروتهم ويتجهون إلى الإنفاق والتوسع وزيادة فرص العمل، بما لهذا الإنفاق من أثر على خروج الاقتصاد من الركود والتباطؤ، لكن شيئا من هذا لم يسر على النحو المطلوب.
 
تلك الفجوة بين مؤشرات الاقتصاد المهمة وبين أسعار الأصول يمكن أن تختفى – بيانيا ــ إذا تحسنت المؤشرات أو تراجعت أسعار الأصول لتعكس الوضع الاقتصادى بشكل أفضل. ما تحاول اليونان تحقيقه هو تحسين الوضع الاقتصادى، وما تحاول أسواق الصين القيام به هو تصحيح أسعار الأصول لتقترب من قيمتها الفعلية التى تعكسها مؤشرات النمو والتشغيل والتوزيع (تراجعت معدلات النمو فى الصين إلى نحو 7% خلال الربع الأول من عام 2015 وهو الربع الأقل نموا خلال السنوات الست الماضية والتوقعات تدور حول معدل نمو سنوى لا يتجاوز 6% مقارنة بمعدل بلغ 14% عام 2007). إن المعضلة التى أرهقت الاقتصاديين والمفكرين منذ عهد أرسطو بحثا عن العلاقة بين القيمة والثمن، مازالت تأخذ صورا مختلفة عبر الزمن، وتجسدت فى الفقاعات الاقتصادية الحديثة لتعكس ما يمكن أن نطلق عليه «فجوة المعلومات». من ناحية أخرى لا يمكن ان نغفل الأثر المباشر لتراجع قيمة اليورو بشكل كبير أمام الدولار الأمريكى ــ على خلفية تفاقم أزمة اليونان ــ وما ترتب عليه من جعل الصادرات الصينية تبدو أغلى نسبيا على المستوردين الغربيين الذين يقومونها بالدولار الأمريكى.
 
النتيجة الآن اقتصاد يونانى فشل حتى تاريخه فى تحقيق أهداف أربعة: إصلاحات هيكلية شاملة، سياسات تقشف ذكية فعالة، إسقاط جزئى للديون، تمويل خارجى مناسب للخروج من الأزمة، لكن اليونانيين يحاولون بلورة مشروع إنقاذ وطنى بعيدا عن ضغوط «الترويكا»، ومازال أمامهم الكثير من التحديات.
 
الصين على الطرف الآخر تشهد حالة من انهيار أسعار الأصول التى أقبل على شرائها المستثمرون خلال فترة طويلة من الانتعاش، وتوسعت البنوك التجارية فى إقراض أنشطة شراء الأصول بما يهدد امتداد أزمة سوق المال إلى السوق المصرفية مع تعرض المقترضين بضمان الأصول إلى التعثر. وبالطبع انتقلت العدوى إلى أسواق السلع والخدمات وأدت إلى تراجعات قياسية فى أسعار الذهب والنحاس.
 
السؤال الآن: إذا كانت أزمة الصين هى الوجه الآخر لأزمة اليونان، وإذا كانت تداعياتها المتوقعة تفوق فى حدتها الأزمة اليونانية، فإلى أى مدى يكون التراجع الكبير فى أسعار الأصول الصينية مؤثرا على الاقتصاد العالمى؟
 
على الرغم من كبر حجم الاقتصاد الصينى الذى ينذر تأثره بتبعات عالمية كبيرة، فإن أسواق الأوراق المالية فى الصين مازالت مغلقة، ولا تمثل ملكية المستثمرين الأجانب فى الأسهم الصينية أكثر من 2% من هياكل الملكية. كذلك لا يمثل التمويل عبر الأسهم أكثر من 5% من إجمالى مصادر التمويل فى الصين، ويبلغ إجمالى الودائع البنكية فى الصين نحو 21 تريليون دولار أمريكى بما يوفر ضمانة قوية ضد التقلبات العنيفة فى مختلف الأسواق.
 
مع ذلك تظل البورصة مرآة للاقتصاد، وتلك التقلبات التى أصابت ثانى أكبر سوق فى العالم (بمعيار رأس المال السوقى) تثير المخاوف حول الوضع الاقتصادى بصفة عامة. خاصة وأن هذا التراجع يأتى فى سياق معدلات نمو اقتصادى هى الأقل منذ ست سنوات وهو ما يشير إلى موجة تصحيح تجذب أسعار الأصول لأسفل بغية الاقتراب من مؤشرات الاقتصاد الأهم. على خلاف اليونان، الصين أكبر من أن تسقط، كما أن أثر أزمتها على الاقتصاد الامريكى سيكون عنيفا من أكثر من زاوية: فمن ناحية من المتوقع أن تتأثر ثروة المستثمر الصينى بهذا التراجع، مما ينعكس على الطلب على الصادرات الأمريكية، كذلك من المنتظر ان تتحرك الحكومة الصينية بقوة لوقف نزيف الأسهم، وذلك اعتمادا على الاحتياطى من الأصول المالية والتى تشكل أذون وسندات الخزانة الأمريكية جانبا كبيرا منها.
 
فى الختام يجب أن ننتبه إلى حقيقة أن لكل سياسة اقتصادية ثمنها، ولا توجد سياسة مثالية أو روشتة علاج معتمدة لمختلف الأدواء. فقط ثمة مجموعة من التوازنات الدقيقة التى تتطلب تدخلا سريعا ومستمرا لتعديل آلية عمل اليد الخفية ولإدارة المخاطر المختلفة وبأقل تكلفة ممكنة.
 
--------------------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، الأربعاء، 15/7/2015.

رابط دائم: