نقد الحركات الإسلامية من منظور السيد فضل الله
5-7-2015

فاروق رزق
*
يُعدّ ‬العلاّمة المرجع السيّد محمد حسين فضل اللّه أحد أبرز روّاد مسيرة الحركة الإسلامية الذين ‬سعوا ‬إلى تصويب أدائها وأهدافها ورفدها بالأفكار التي ‬تغذّي ‬ثمارها وحيويتها، ‬كما سعَوا طيلة أعوام تربو على الستين عاماً ‬إلى بلورة خطابها الديني ‬والفكري ‬والسياسي.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
 
حاول السيد إبداع نهج لحركة إسلامية جديدة تعمل بكلّ ‬قوّة ووعي ‬وتدقيق من أجل أن ‬يكون الإسلام قاعدة للفكر والعاطفة والحياة، ‬كما لعب دوراً ‬كبيراً ‬في ‬انفتاح بعض الحركات على مقولات سياسية وفكرية حديثة، بعدما كانت تعيش نوعاً ‬من التخلّف الفكري، ‬وكان الطاغي ‬عليها التسطيح وأسلوب الوعظ والإرشاد، ‬ولم تحمل العمق والفكر والكياسة السياسية ولا البُعد الاستراتيجي.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
 
كما تمتّع بفرادة المنهج، ‬ودقّة التحليل، ‬وثقافة التأمّل، ‬وأسلوب النقد، ‬وحكمة المعالجة، وجدّية المجتهد في ‬مراقبة الواقع وتحليل التطوّرات ومعاينة المستجدّات، من ‬دون أن ‬يظلم أي ‬عنوان من العناوين الإسلامية الحركية مهما اختلفت معه في ‬الرأي ‬أو الموقف.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
 
‬وكان إلى ذلك شخصية عارفة بعمق الإسلام وشريعته، ‬ومتحرّكة في ‬واقعه، ‬ليس بإملاءات الذات الجهوية الطائفية أو المذهبية، ‬إنّما بشخصية رجل الانفتاح والإصلاح والإيجابية والواقعية والشجاعة في ‬الخطاب، ‬وصاحب المنظور الاستراتيجي ‬البعيد المدى، ‬والمعتمد منطق الأولويات الذي ‬يدرك ترتيبها بنظرة علمية، ‬وهو المفكّر والفقيه الذي ‬قدّم للحركة الإسلامية روحاً ‬جديدة وعقلاً ‬ناضجاً ‬وفلسفة للتعامل مع التحديات، ‬متجدّدة بالتنوّع وصادقة في ‬التوجّه.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
 
مع كل ما تقدّم، ‬كان السيّد من القيادات النادرة في ‬العالم الإسلامي ‬التي ‬تجري، ‬بعد كلّ ‬مرحلة من مراحل تطوّر مسار الحركة الإسلامية، ‬مراجعة نقدية لما آلت إليه التجربة، ‬حتّى لا تسقط هذه الحركة تحت تأثير الأخطاء القاتلة والمميتة، ‬ولكي ‬تبقى في ‬حركة وعي ‬للواقع فلا تقع في ‬خطأ، ‬وفوق ذلك لكي ‬تعود إلى أصالة المفاهيم الإسلامية، ‬بعيداً ‬عن المفاهيم المتحوّلة التي ‬قد تعلق بأهداب مسيرتها أثناء علاقتها الجدلية بالواقع.‬ فكيف شخّص السيد مشكلات هذه الحركة وإلى ماذا دعاها؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
 
أزمة خطاب ماضوي
 
رأى السيّد أنّ ‬الحركة الإسلامية تعاني من أزمة خطاب لا يزال ‬ينطلق من مفردات الاجتهادات التاريخية وأساليبها. من دون دراسة المتغيرات الكبيرة التي ‬تحكم الواقع في ‬تطوّر قضاياه وحاجاته ووسائله وعلاقاته، سواء من ناحية طريقة الحكم وعنوانه وإرادته وتنظيمه، أو من ناحية الأوضاع السياسية التي ‬تحيط به، ‬أو من جانب التحديات الفكرية التي ‬تترك تأثيراتها على المسألة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
 
كما لاحظ أنّ ‬اللغة التي ‬تتحدّث بها هذه الحركة، على صعيد المضمون والأسلوب، لا تتناسب مع مفردات اللغة المعاصرة، مسجّلاً العديد من الثغرات في ‬خطابها الإسلامي ‬على الوجه الآتي:‬‬‬‬‬
 
ـ الارتجال في ‬محطات عدّة، ‬كمسألة الدخول في ‬السلطة والموقف من التعامل مع الأنظمة، ‬وتنظيم الأوضاع المحلية للناس، ‬في ما بين المطالبة بدولة إسلامية أو دولة ديموقراطية، ‬أو دولة بلا دين.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
 
ـ إثارة قضايا ميتة أمام التحديات المتصلة بالقضايا المصيرية الكبرى كإشكالات الماضي ‬وقضاياه، والعمل على تحريك نزاعاته وخلافاته لإشغال الساحة بالأوضاع السلبية التي ‬لا علاقة لها بالواقع من قريب أو من بعيد‬‬.
 
ـ الانكماش في ‬محيط محدود ‬يتحرّك فيه الخطاب من خلال قضايا ‬غارقة في ‬خصوصيات المحيط ‬ومفرداته الداخلية التي تبعد الحركة عن الانطلاق على أساس الخط الإسلامي ‬العام.‬‬‬‬‬‬
 
ـ الغلوّ الذي ‬يجد آذاناً ‬صاغية له من خلال فضائيات ‬لا هم لها ولا شغل إلاّ ‬دسّ ‬السم في ‬الدسم، ما ‬يزيد الواقع الإسلامي ‬تعقيداً ‬ويمنعه من تلمّس الأخطار الآتية إليه من الخارج، ‬وخصوصاً ‬من العدو الإسرائيلي ‬ودول الاستكبار العالمي.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
 
‬ ـ النزعة المذهبية التي ‬تحاول مصادرة الحاضر على أساس خلافات الماضي، ‬الأمر الذي ‬يثير الشكوك والتشنجات النفسية في ‬ساحة الواقع الإسلامي ‬الحركي، ‬بطريقة ‬قد تساهم في ‬إسقاط عناصر القوّة في ‬خط المسيرة العام.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
 
أمام هذه الثغرات الخطيرة، دعا السيد إلى ضرورة توسيع آفاق الخطاب الإسلامي ليشمل خطاب الإنسان للإنسان لأن «‬إسلامك هو عيش للإنسانية فيه، ‬ولأنّ ‬هذه الإنسانية هي ‬صورة داخلنا، ‬وصورة عقلنا المفكّر، ‬وقلبنا النابض في ‬الذات، ‬وطاقتنا المتفجّرة في ‬الواقع».‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
 
إسلاميون لا يملكون ثقافة الإسلام
 
لاحظ السيّد أنّ ‬بعض الإسلاميين من الدعاة والعلماء أو من الخطباء والوعاظ أو من المتحركين في نطاق المسؤولية السياسية أو الاجتماعية أو حتى الدينية، لا ‬يملكون ثقافة الإسلام ولا ‬يملكون كفاءة الخطاب الإسلامي ولا ثقافة تحريك الخطاب الإسلامي ‬في ‬الواقع.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
 
‬ كما لاحظ خللاً ‬في ‬الوعي ‬الإسلامي عند هؤلاء ‬في ما هو الانفتاح على الحياة الإسلامية التي ‬يعيشها المسلمون في ‬ساحات الصراع، ‬في ‬الفهم الموضوعي ‬للواقع بجميع أوضاعه، أو في ‬الثقافة الإسلامية المنفتحة على مشاكل الحياة وحاجات الإنسان فيها، بالطريقة التي ‬يستطيع هؤلاء من خلالها أن ‬يواجهوا ذلك كلّه بالعمق والامتداد، بحيث ‬يشعر الناس بأنّ ‬الإسلام قادر على أن ‬يملأ الفراغ ‬من موقع فكره ومنهجه وتشريعه.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
 
لقد استطاع هؤلاء الدعاة، وفق سماحته، أن ‬يعمّقوا التخلّف في ‬ذهنية الأمّة، ‬ويدفعوا زعاماتهم إلى مستوى القداسة، ‬وأن ‬يثيروا الفتن المذهبية داخل الحياة الإسلامية، ‬حتى ارتفعت الحواجز بين المسلمين، بحيث حالت بينهم وبين اللقاء حتّى في ‬مواطن الاتفاق، ‬وذلك من خلال التأكيد على المفردات الصغيرة والآفاق الضيقة التي ‬تحبس كلّ ‬مسلم في ‬دائرته الخاصة، كما لو كانت ديناً ‬مستقلاً ‬ينفصل عن الدين الذي ‬يلتزمه الآخر.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
 
وفي سياق متصل، رأى السيد أنّ ‬التيارات الإسلامية تعاني في ‬الغالب من فقدان المنظّرين الفكريين، ‬وأنّ أغلب قياداتها إمّا شخصيات شبابية مناضلة، ‬أو رجالات دعوية ناشطة في ‬مجال التبليغ ‬الديني، لافتاً إلى أن الضعف العلمي الملحوظ ‬في ‬أوساطها قد أدّى إلى تنامي ‬التيارات التقليدية المذهبية داخلها وهو ما ‬يُنذر في ‬المستقبل، بافتقاد هذه التيارات الشرعية الدينية. علماً أنّ هذا ‬الأمر قد لا ‬يلاحظ حالياً ‬بسبب القوّة السياسية والإعلامية التي ‬تملكها هذه التيارات.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
 
غياب حركة النقد
 
لاحظ السيّد، ‬في ‬سلبيات واقع الحركة الإسلامية، ‬غياب حركة النقد الذاتي ‬في ‬نطاق القاعدة والقيادة، ‬بحيث ‬يعيش الناس ما ‬يشبه عبادة الشخصية التي ‬تمنع تسجيل الملاحظات على تصرّفات المسؤولين، ‬أو مواجهة أفكارهم بالنقد الموضوعي، ‬فتحوّلت المسألة في ‬الوعي ‬الحماسي ‬الانفعالي ‬إلى أن ‬يكون النقد مظهر عداوة بدلاً ‬من أن ‬يكون وسيلة ترشيد للقيادة وحركة مسؤولة لتحقيق الكمال للعمل الإسلامي، «‬وأصبح المسؤولون ‬يسمعون كلمات الإطراء التي ‬أدمنها الكثيرون منهم، والتي ‬شاركت في ‬انتفاخ شخصياتهم وأفقدتهم روحانية التواضع في ‬أخلاقهم، ‬وحيوية التقوى في ‬سلوكهم، ‬حتّى تحوّلت الأخطاء مقدسات، ‬وبدأ الانحراف ‬يأخذ معنى الاستقامة.. وأصبحنا نعيش في كهوف مغلقة يمنع فيها فتح أي باب للحوار والنقاش»‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬.
 
التعصّب الأعمى
 
لم ‬ينسَ السيّد التصويب على أهم الأمراض التي ‬تعاني ‬منها الحركة الإسلامية، ألا ‬وهو سيطرة مرض التعصّب الأعمى على الكثير من النخب والتيارات الإسلامية وادعاؤها القبض على ناصية الحقّ ‬المقدّس دون ‬غيرها.‬‬‬‬‬‬‬‬
 
ويطرح سماحته هذا المرض المقيم في ‬داخلنا من منظور شرقي ‬عام، ‬مظهراً ‬أنّ ‬مشكلتنا في ‬هذا الشرق، ‬وفي ‬العالم العربي ‬تحديداً، ‬أنّنا نتقن فن خطاب الأزمة والتعصّب، ‬ولا نتقن خطاب الوعي ‬والعقلانية المنفتحة في ‬كلّ ‬ما نفكر فيه، ‬وأنّنا نحدّق بأنفسنا قبل التحديق بالآخر، ‬وأنّنا نحاول من خلال هذا الخطاب الديني ‬أو الثقافي ‬أو السياسي، ‬أو الاجتماعي، ‬الاستماع إلى صداه في ‬داخلنا لا في ‬الآخر، ‬وبهذا كففنا عن أن ‬يفهمنا الآخر لأنّنا لسنا معنيين به.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
 
وكما أنّ ‬هناك تمذهباً ‬يصل إلى حد العصبية في ‬الدين، يرى السيد أنّ ‬في ‬العلمانية تمذهباً أيضاً قد ‬يصل إلى حد العصبية في ‬الانتماء، ‬لأنّ ‬»قضية العصبية في ‬هذا الشرق ليست خصوصية الدين في ‬إنتاج العصبية في ‬الإنسان، ‬وإنّما هي ‬خصوصية الإنسان الذي ‬يعيش الانفعال والغرائزية ويتحرّك من خلال كثير من مفردات التخلّف، ‬وهو ما ‬ينتج العصبية والحقد».‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
 
من هنا تنطلق العصبية، ‬كما ‬يحدّدها السيّد، ‬من حالة الضعف الثقافي، ‬لأنّ ‬من ‬يملك زمام الفكر الذي ‬يؤمن به، ‬لا ‬يخاف من أن ‬يعطي ‬الحرية للآخر، ‬فالذين ‬يصادرون الحرية هم الخائفون من أن تصادر الحرية تخلّفهم وضعفهم وتردّدهم.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
 
------------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، السبت، 4/7/2015.
 

رابط دائم: