هل يمكن أن يطال التفكك مصر؟
11-5-2015

مالك عوني
* مدير تحرير مجلة السياسة الدولية، كاتب وباحث مصري في العلاقات الدولية، مؤسسة الأهرام
22 إبريل 2015
 
تواجه سبع دول عربية، على الأقل في اللحظة الراهنة، مخاطر تفكك حقيقية تهدد وجودها المادي والقانوني، وتنبئ بإعادة رسم محتملة لخريطة المنطقة، وحدود دولها بشكل دراماتيكي غير مسبوق، منذ بدء ترسيم هذه الحدود بشكلها الحالي على يد القوى الاستعمارية الأوروبية، انطلاقا من منطقة المغرب العربي، وشمال إفريقيا في ثمانينيات القرن التاسع عشر. 
 
وإذا كان الترسيم الأول تم جبرا بيد قوى خارجية، فإن مخاطر التفكك وإعادة الترسيم الراهنة، وبرغم كل المحفزات النابعة من السياق الدولي، وتداعيات سياسات التدخل الدولي الشائهة في المنطقة، تتأسس على ديناميات انقسام وصراع داخلية فاقم منها أساسا نموذج الدولة الإقصائية الذي ساد في كل أنظمة الحكم العربية، التي تلت مرحلة الاستقلال الوطني، وأدى إلى إخفاق تجربة بناء دولة قومية في إطار هذه الحدود. 
 
كانت مصر مستبعدة تقليديا من خطاب التفكك، إلا أن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، حذر يوم 7 يوليو 2014 من احتمال امتداد مخاطر التفكك تلك إلى الدولة المصرية، مما يحمل مؤشرا خطيرا ينبغي التوقف أمامه، واستجلاء حقيقته وتداعياته المحتملة.
 
تُعد الدولة المصرية استثناء من الطبيعة المصطنعة للدولة العربية التي نشأت عن عمليات الترسيم تلك، إلا أنها عانت بدورها أعباء نموذج الدولة الإقصائية ذاته. وقد توافر لمصر من عوامل التكامل القومي والمجتمعي التي تطورت طبيعيا عبر التاريخ ما أتاح لها أن تعرف نموذج الدولة/الأمة الوحيد في المنطقة. نشأ الاجتماع المصري، عبر هجرات بشرية متتالية ومتنوعة، مرتبطا بنهر النيل الذي وفر مورد الحياة في مختلف تجلياتها لهذا الشعب، مما جعل من عبء تنظيم مياه النهر وإدارتها همّا ومصلحة مشتركين لجموع من أقام على ضفتيه. 
 
ولم يكن ممكنا لأي جماعة أن تنعزل عن مسئوليات التنظيم، والإدارة، والتنسيق مع بقية الجماعات الأخرى. وهكذا، نشأ في مصر مجتمع ذو طبيعة تعددية، لكنها تعددية انتظمت في لُحمة وطنية واحدة أسستها حتمية التعايش المشترك، عبر تفاعل تاريخي ممتد، يُعدّ الأطول في التاريخ الإنساني.
 
توافر لهذا الاجتماع الإنساني الفريد في المنطقة، إضافة إلى عامل الاستقرار حول النهر، عاملان آخران شديدا الأهمية منحا هذا الاجتماع ثراء وصلابة. العامل الأول هو الموقع الجغرافي المتوسط الذي جعل مصر قبلة لحركات التجارة في العالم القديم وما يرتبط بها من تفاعل وتلاقح بشريين إيجابيين أسهما في إثراء الخبرة الإنسانية لهذا الشعب، وتنوع مصادره المعرفية. أما العامل الأخير، فهو الحماية الطبيعية التي وفرتها الصحاري المحيطة بالوادي لهذا الاجتماع البشري، مما جعل عمليات الدخول إليه منضبطة، ولا تتجاوز في كثافتها قدرة المجتمع على احتوائها واستيعابها. بعبارة أخرى، نشأت على ضفاف النهر وفي واديه السهل المنبسط بوتقة صهر فريدة في المنطقة بأسرها، ونشأت عنها أمة اختزنت طبقات التاريخ الإنساني بأسرها دون تناقضات حقيقية بين مكوناتها البشرية المختلفة، حيث أمكن تذويب التباينات بين هذه المكونات المختلفة، ودمجها عبر منظومة قيم التفاعل الإيجابي الخاصة بإدارة النهر.
 
تأسست الدولة المصرية استجابة طبيعية لاحتياجات تنظيم هذا الاجتماع البشري، وكانت دوما مع اختلاف الأنظمة السياسية المتتالية تدرك دورها الرئيسي في إدارة النهر وحمايته، وبالتالي حماية الوجود الإنساني للشعب الذي استوطن هذا الوادي. ونتج عن ذلك أنه بالرغم من سمة الاستبداد التي صبغت جل التاريخ السياسي لتلك الدولة، فإنه لم ينشأ بينها وبين المجتمع في عمومه تناقض وجودي، يفضي إلى مثل تلك الصراعات التي نشهدها حولنا اليوم، ويسعى فيها أحد طرفين -الدولة أو عناصر اجتماعية منضوية في ظلها- إلى نفي الآخر. كان إقصاء الاستبداد في مصر-عدا استثناءات شديدة المحدودية- إقصاء سياسيا، وليس إقصاء مجتمعيا، فاحتفظ المجتمع بقدر كبير من التصالح مع الدولة ككيان مؤسسي ناظم. لكن هل لا تزال عوامل التكامل تلك تحظى بالفعالية ذاتها التي كانت لها تاريخيا بما يقي مصر من نزعات التفكك التي تتصادم في المنطقة حولها حاليا؟.
 
نظن بداية أن المخزون التاريخي للدولة/الأمة في مصر لا يزال قويا وحاكما، رغم كل ما يبدو بين فينة وأخرى من مشاهد تجاذب اجتماعي، سواء على أسس دينية أحيانا، أو مناطقية وعصبية أحيانا أخرى. تبدت فاعلية هذا المخزون في لفظ المجتمع المصري- قبل الدولة- لقوى التطرف والإرهاب، رغم محاولاتها اختراقه عدة مرات خلال السنوات الأربعين الأخيرة. كما تبدت هذه الفاعلية في دفاع الشعب المصري، في حراكه الثوري في 30 يونيو 2013، عن قيم الدولة الوطنية، في مواجهة مشروع أممي استهدف تقويضها بادعاءات تؤسس حكما استبداديا وتمييزيا مقدسا هذه المرة.
 
لكن بالرغم من هذه الفاعلية والحيوية التي لا تزال تتمتع بها قيم الدولة/الأمة في مصر، يجب الانتباه إلى أن الجزء الأكبر من العوامل التي أسست لوجود هذه الدولة وتكاملها بدأت تتآكل بفعل تطورات التكنولوجيا والعولمة من جهة، والعبء التاريخي للحكم الاستبدادي، وفشل الاستجابة لتحديات التنمية العادلة من جهة أخرى.
 
 ونظن أن مواجهة هذه الأزمة هي الدافع والغاية الحقيقيان للحراك الثوري المصري في 25 يناير 2011. ومن شأن قراءة متأنية لواقع التآكل والإنهاك هذا لعوامل التكامل الوطني المصري أن تكشف عن حاجة حقيقية لإعادة تأسيس جديدة للدولة الوطنية في مصر بما يتوافق مع معطيات وتحديات عصر مختلف جذريا عما خبرته الدولة المصرية عبر ما يزيد على خمسة آلاف عام.
 
ما وراء المدى المنظور.. التحول في العوامل المؤسسة:
 
يكشف نمط استجابة المصريين المتمركز حول المقوم الوطني للتحديات التي أنتجتها حالة ضعف دولة ما بعد الاستقلال في العالم العربي، وتآكل حضورها وشرعيتها، مع قدر من الحصانة النسبية لا تزال تتمتع به دول الخليج العربية، في ظل فوائضها المالية الضخمة، عن أن ميراث الدولة/الأمة في مصر لا يزال حاضرا بقوة في وجدان المصريين، بالرغم من أي عوامل ضعف تواجهها هذه الدولة. 
 
وبالنظر إلى تمايز نمط الاستجابة المصري عما شهدته كافة الدولة العربية التي شهدت انتفاضات شعبية ضد حكوماتها وحكامها، منذ نهاية عام 2010، فإنه يمكن تأكيد أنه، باستثناء بعض محاولات شد الأطراف التي تستهدف إنهاك الدولة المصرية، فإن سيناريو التفكك والانفجار داخليا لا يبدو محتملا في المدى المنظور، خاصة أن هذا السيناريو لا يبدو محبذا من قبل القوى الإقليمية والدولية ذات الأثر والخطر في السياسة الإقليمية، لما سيرتبه من تهديدات لا يمكن ضبطها لاستقرار الإقليم، ولكل موازين القوة القائمة فيه. لكن في الوقت ذاته، فإن فحص العوامل المؤسسة لميراث التكامل الوطني والارتباط العضوي بالدولة يطرح شكوكا حقيقية في مدى فاعلية هذه العوامل في إحداث الأثر ذاته الذي أنتجته تاريخيا، وتحصين الدولة المصرية فيما وراء ما يبدو منظورا من تحديات.
 
في إطار تحليل التحول في العوامل المؤسسة للدولة المصرية، نلاحظ بداية أن الكفاية المائية لنهر النيل، التي مثلت مقوم الحياة، والنمو، والتوحد في مصر تاريخيا، بدأت تتآكل، مقابل متطلبات النمو المتسارع الذي شهدته الدولة والمجتمع في مصر على السواء، منذ مطلع القرن التاسع عشر، حتى بلغت هذه العلاقة حد العجز المائي المعوق للتنمية، قبل ما يزيد على عقدين من الزمن. بعبارة أخرى، استنفدت الطاقة التنموية للنهر بوضعه التاريخي حدودها، وبات الاستقرار حوله يهدد بأن يكون عاملا للتصارع الاجتماعي على عوائد التنمية وقيمها المحدودة. بدأت ملامح هذا الخطر تبرز في تصاعد معدلات العنف والتطرف المجتمعيين، وتراجع قيم العمل المنتج، ويتمثل أخطرها في ملمحين، أولهما: تنامي الحضور السلبي للعصبيات العائلية في الوادي، أو القبلية المحيطة به، والتي يعجز المركز التنموي في الوادي عن صهرها. ويفاقم من خطر هذا الملمح ارتباط بعض هذه المكونات الاجتماعية بتنظيمات جريمة منظمة، أو إرهاب عابرة للحدود، حيث باتت تؤسس وجودها على أنشطة وأفكار نافية لوجود الدولة الوطنية، أو قوتها على الأقل. أما ثاني هذين الملمحين وآخرهما، فيتمثل في تزايد حالات العنف المجتمعي على أسس دينية. ويبدو أن أي مواجهة حقيقية للعنف والتطرف المجتمعيين تبدو غير ممكنة، في ظل ضعف القدرة التنموية للنمط النهري التقليدي.
 
تقتضي مواجهة هذا التحول التاريخي في قدرة النهر الجامعة والموحدة تأسيسا جديدا للدولة المصرية على مستويين، الأول: معرفي-اقتصادي يحرر المجتمع المصري من الاعتماد مطلقا على مياه النهر. ويستلزم هذا التأسيس المعرفي إعادة تعريف لقيمة الإنسان المصري، وآليات تطوير قدراته وتوظيفها، كما يستلزم ضمان عدالة توزيع فرص التنمية المتحررة من النهر وعوائدها. المستوى الثاني والأخير: إقليمي يمنح مصر قدرة تأثير جديدة في حوض النيل، تتيح لها تعبئة الموارد المائية الضخمة المهدرة للنهر، والتي تفوق بنحو 18 ضعفا إيراداته الحالية. ويستلزم هذا التأسيس الإقليمي أن تكون مصر قاطرة تنموية لدول الحوض جميعا، من خلال فضاء للتعاون والمنفعة المتبادلة المتجاوزة للأبعاد المائية.
 
بالتزامن مع هذا التحول التاريخي في قدرات النهر التنموية، فقد تضاءلت الوظيفة الحمائية للصحاري المصرية مع التطور الكبير والهائل في وسائل المواصلات والاتصالات. لكن البروز الجلي لهذا التضاؤل ارتبط بعاملين، أولهما: تحول مصر إلى مجتمع طارد ومُصدّر للعمالة المهاجرة، التي ارتبطت بمجتمعات أجنبية في ظروف عدم توازن مادي، وتراجع معرفي وحضاري، مما جعلها مصدرا لقيم وأنماط سلوك مستوردة ومتعارضة في جزء كبير منها مع سمات التنوع المصري، فضلا عن أنها فاقمت الاحتقان الاجتماعي، نتيجة غلبة النمط الاستهلاكي عليها. لكن الأخطر أنها أضرت ضررا جسيما بتماسك الطبقة الوسطى التي اتسعت جدا بالمعيار المادي، وازدادت التباينات المصلحية بين مكوناتها، مع اختلال كبير في منظومة القيم التي تستند إليها. وأدى ضعف الطبقة الوسطى إلى تراجع دورها الضابط لتفاعلات المجتمع، وقيمه، وتماسكه، في إطار المنظومة الوطنية التقليدية، لمصلحة منظومات قيم وأفكار، بل وانتماءات مستوردة.
 
يتمثل ثاني هذه العوامل وآخرها في الانتشار الواسع لوسائط التواصل الاجتماعي التي جعلت تدفق الأفكار والمعارف غير محدود، كما ونوعا، ومتحررا في الوقت ذاته من أن يكون موضوعا لعمليات صهر مجتمعية واسعة النطاق. أفرز هذا التطور جماعات معرفية منعزلة، وأحيانا متصارعة، ولم تعد التعددية الناجمة عن هذه الوسائط أداة لتعزيز المعرفة الجمعية وإثرائها، بقدر ما باتت أداة لتفتيتها وشرذمتها. فاقم من هذا الأثر انسداد قنوات التواصل والتفاعل الاجتماعي البديلة بسبب الهيمنة السلطوية عليها، وعدم إتاحتها بشكل حر لتلاقح أفكار الأفراد ومعارفهم ومصالحهم. يبدو ذلك على مستويات عدة، بدءا بالتنظيم المحلي، وصولا إلى النقابات والأحزاب. ورغم أنه لا يمكن توقع تأثير تفكيكي مباشر للانكشاف والهشاشة المعرفيين المتناميين في المجتمع المصري، فإنهما في الواقع يضعفان بشدة من حيوية المجتمع وقدرته على الاستجابة الخلاقة للتحديات المتنامية التي يواجهها، والأخطر من قدرته التاريخية على الصهر الاجتماعي.
 
  وتقتضي مواجهة خطر هذا الانقسام المعرفي والاجتماعي المتزايد، خاصة في ظل التدفق الكبير لهذه المجموعات المتباينة، معرفيا، وقيميا، ومصلحيا، إلى الفضاء السياسي المصري، بعد الحراك الثوري في 25 يناير 2011، إعادة تأسيس جديدة للبناء السلطوي في مصر على المستويين السياسي والمعرفي، بما يجعل الإنسان والجماعات أكثر تحررا من القهر السياسي والمعرفي الذي لا يؤسس فقط لانغلاق الجماعات المتباينة معرفيًا في مصر، لكن يهدد بجعل علاقاتها صراعية.
 
وإجمالا، يبدو أن الدولة الوطنية المصرية باتت تواجه تحديات لعناصرها المؤسسة، مما يستلزم جهدا واسعا للتوافق الحر على قواعد مؤسسة جديدة تحفظ لهذا الاجتماع البشري تعدديته الإيجابية، وحيويته التنموية، وتصالحه السياسي، وفاعلية تأثيره الخارجي.

رابط دائم: