السياسة الخارجية المصرية بين الشمال والجنوب‮ :‬ عصر التحولات الكبري في العالم
21-2-2016

د‮. ‬بطرس بطرس‮ ‬غالي ‬
* مؤسس‮ ‬مجلة‮ "‬السياسة الدولية‮"

كانت‮ "‬السياسة الدولية‮" ‬هي المجلة العربية الدورية الأولي الموجهة إلي القارئ العام في مجال كان الاهتمام به مقصورا علي نخبة ضيقة من دارسي العلوم السياسية والدبلوماسيين،‮ ‬وبعض المشتغلين بالعمل العام‮. ‬وهذه نقلة نوعية حققتها المجلة، حيث جعلت قضايا السياسة الدولية جزءا من النقاش العام الذي تجاوز الأوساط الأكاديمية،‮ ‬والدوائر المتخصصة،‮ ‬ومنتديات المثقفين، وانتشر في المجتمع‮.‬

وهذا إنجاز في حد ذاته، لأن الكثير من المجلات والمطبوعات التي صدرت في ذلك الوقت، وبعده، توقفت أو أغلقت‮. ‬وعندما تبقي مجلة متخصصة لمدة نصف قرن، فهذا يعني أنها قادرة علي الاستمرار، فضلا عن أن الحاجة إليها لا تزال قائمة، بل ازدادت عما كانت عليه قبل نصف قرن‮.‬

لقد أردنا إيجاد منبر دوري مستمر لمتابعة ما يحدث في العالم،‮ ‬ودراسته،‮ ‬وتحليله، وإتاحة المعرفة به لكل من يرغب في الإلمام بها‮. ‬وبدأنا هذا العمل في وقت كان فيه العالم يتهيأ لتحولات كبري تحمل في طياتها أعمق تغيير في تاريخه علي مر العصور‮.‬

فقد أخذ العالم العربي يشهد، بُعَيد إصدار‮ "‬السياسة الدولية‮"‬، تغييرا لا سابق له في تاريخه من حيث عمقه،‮ ‬وشموله،‮ ‬والمدي الزمني الذي حدث فيه، ولا‮ ‬يزال‮. ‬واكبت‮ "‬السياسة الدولية‮" ‬هذا التغير الذي سيزداد في السنوات والعقود القادمة نتيجة العولمة وتداعياتها التي قربت البعيد،‮ ‬وجعلت العالم الشاسع المترامي الأطراف أشبه بقرية صغيرة، وبفعل القفزة التكنولوجية الهائلة التي صارت تعرف بـ‮ "‬الثورة الرقمية‮"‬،‮ ‬وتجلياتها المتجددة واللانهائية‮.‬

غيرت العولمة أنماط العلاقات الدولية، والقواعد المنظمة لها، ووسعت نطاق تفاعلاتها‮. ‬فلم تعد الدولة هي الفاعل الوحيد فيها، حيث ازداد حضور قوي أخري‮ ‬Nonstate Actors، مثل الشركات الكبري العملاقة المتعددة الجنسيات، والمنظمات‮ ‬غير الحكومية،‮ ‬أو المجتمع المدني‮. ‬وأصبح الارتباط بين العلاقات السياسية والاقتصادية أقوي من أي وقت مضي في التاريخ‮.‬

كما‮ ‬غيرت الثورة الرقمية أنماط الحياة الإنسانية في أعماقها، وأتاحت فرصا لا محدودة للتواصل بين الناس في أنحاء العالم، وفتحت أبوابا لتغيير جذري سيزداد مستقبلا في نظم التعليم،‮ ‬والاقتصاد،‮ ‬والإدارة،‮ ‬والإعلام،‮ ‬والفن، كما في المنظومات الاجتماعية، حيث أصبح النجاح والتقدم مرتبطين بإبداعات وابتكار أفكار جديدة،‮ ‬والقدرة علي تنفيذها‮. ‬فمن أهم معالم التحولات الكبري التي تغير العالم الدمج المتزايد لتكنولوجيا الثورة الرقمية في مجالات الحياة كافة، علي نحو يجعل العالم الراهن مختلفا عما كان عليه قبل عقود قليلة‮.‬

ولذلك،‮ ‬تزداد في هذا العالم المتغير أهمية العقل الإنساني في إنتاج الثروة، إلي جانب الموارد ورأس المال، في ظل تطور متسارع يجعل المعرفة هي المصدر الرئيسي للازدهار الاقتصادي‮.‬فالتغيير المترتب علي الطفرة التكنولوجية المقترنة بالعولمة هو الأكبر والأسرع في تاريخ العالم الذي ظل في حالة ركود وسكون علي مدي قرون طويلة،‮ ‬منذ أول تحول كبير فيه،‮ ‬عندما عرف الإنسان الزراعة، وإلي أن دخل عصر الصناعة‮.‬

غير أن التغيير الذي تحدثه الثورة الرقمية ربما يفوق ما ترتب علي الثورة الصناعية، رغم أنهما من منبع واحد يقوم علي فكرة أن أفضل الاختراعات هي التي لا تكتمل أبدا‮.‬
ولنأخذ مثلا اختراع أول سيارة تعمل بوقود بترولي‮ (‬أحفوري‮)‬، واختراع أول موقع علي شبكة معلوماتية‮.‬

لم تكن السيارة مجرد جسم يتحرك علي عجلات، بل كانت رافعة لصناعة أحدثت تغييرا كبيرا في حياة الإنسان،‮ ‬والمجتمع،‮ ‬والاقتصاد،‮ ‬وهكذا الحال بالنسبة لاختراع الإنترنت‮. ‬فقد ثبت أن أهمية أي اختراع يرتبط بالآفاق التي يفتحها‮. ‬فكلما كانت هذه الآفاق أوسع، صار الاختراع أكثر أهمية‮. ‬وبمقدار ما تكون الآفاق التي يفتحها هذا الاختراع شاملة لمجالات مختلفة ومتنوعة، يزداد تأثيره‮.‬

وهكذا،‮ ‬غير هذان التحولان الكبيران‮ (‬الثورتان الصناعية والرقمية‮) ‬صورة العالم، وسيواصلان تغييرها إلي جانب تحول ثالث يقع في مجال الجغرافيا السياسية التي لم تفقد أهميتها،‮ ‬بل تغيرت معادلاتها، وهو انتقال مركز الثقل في التفاعلات العالمية تدريجيا من البحر المتوسط إلي شرق آسيا‮.‬

وفي ظل هذه التحولات الكبري، أصبح علي مصر أن تشق طريقا جديدا،‮ ‬وسط أمواج متلاطمة في منطقتها، علي أساس من الوعي بعمق التغيير الذي يحدث في عالم تحتاج إلي دعم حضورها فيه، وفي إطار استيعاب دروس هذا التغيير،‮ ‬وتبني رؤية جديدة تماما للبحث العلمي، ومراجعة الميل الغالب في سياستها الخارجية نحو الشمال، وإعطاء أهمية كبري للجنوب،‮ ‬وتعزيز التعاون مع دوله‮.‬

(*) اخر مقال نشره د.بطرس بطرس غالي في مجلة السياسة الدولية بمناسبة ذكراها الـ50 ، عدد إبريل 2015


رابط دائم: