البيئات الحاضنة للكراهية في المنطقة العربية
9-2-2015

د. خالد حنفي علي
* باحث في الشئون الإفريقية
‮"‬نحتاج إلي الكراهية كي نجعل لحياتنا معني‮..."‬،‮ ‬عبارة صادمة وردت علي لسان بطلة الرواية الشهيرة‮ "‬مديح الكراهية‮" ‬للأديب السوري خالد خليفة لتشكل وسيلة نفسية دفاعية لمواجهة القمع الأمني،‮ ‬والانتهاك،‮ ‬والتهميش بحق أبناء طائفتها‮ (‬السنية‮)‬، وتعكس في الوقت ذاته المدي الذي يمكن أن تتحول فيه الكراهية،‮ ‬في ظل بيئات استبدادية إلي قيمة معنوية ورمزية لدي هؤلاء الذين يتعرضون القهر، عندما يملكون هويات مختلفة‮.‬
 
المفارقة أن تلك الرواية الشهيرة، التي أثارت جدلا كبيرا عند صدورها قبل سنوات، مارست ما يشبه‮ "‬الإنذار المبكر‮"‬،‮ ‬أو كما يسميه البعض‮ "‬البشارات الدموية‮"‬، ليس فقط لجهة تفسير لماذا خرج السوريون ضد قمع نظام بشار الأسد، وإنما لحجم‮ "‬الكراهية العمياء‮" ‬التي خلفها نظام البعث السوري بين مكونات المجتمع‮.‬
 
لقد عالج الكاتب في‮ "‬مديح الكراهية‮" ‬طبيعة الصراع الدموي في حلب بين السلطة والإخوان، خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وما خلفه من كراهية وعنف وغضب بين الطوائف المختلفة، حتي بات الاحتماء بـ‮ "‬هوية متوهمة‮" - ‬بحسب مصطلح أماراتيا صن‮ - ‬هو السبيل في مجتمع لا مكان فيه للمعتدلين، حيث سيلقون عادة مصير الضابط نذير،‮ ‬أحد شخوص الرواية، والذي دفع وظيفته ثمنا لرفضه قتل سجناء الطائفة الأخري‮.‬
 
وإذا كانت الثورة السورية تعد امتدادا للحالة الاحتجاجية العربية ضد الأنظمة الاستبدادية، والتي انطلقت من تونس، فإن ظاهرة انتشار الكراهية باتت هي الأخري عنوانا مرافقا للحالة العربية،‮ ‬سواء داخل أبنيتها المجتمعية،‮ ‬أو بين دولها، حيث وجدت‮ "‬الكراهيات الكامنة‮" ‬في بيئات ما بعد الثورات فرصة للتعبير عن نفسها في تجليات عديدة،‮ ‬تارة تتعلق بالتحريض علي العنف ضد الآخر، وتكفيره،‮ ‬ونزع الوطنية عنه، بل وقتله، دون خوف من سلطات انتقالية هشة يراهن بعضها في شرعية بقائه علي زيادة نشر الكراهية تجاه الآخر، ومحاولة إلغائه في إطار صراعات صفرية‮.‬
 
تغيير بلا تعايش‮ = ‬كراهية‮:‬
 
ولأن الكراهية تضرب بجذورها التاريخية في الأرض العربية، لذا لم يكن من اليسير علي الثورات أن تحد منها،‮ ‬أو تخفض من توابعها، بالرغم من كون الثورات في عمق مضمونها‮ "‬فعلا اجتماعيا تطهيريا‮" ‬يستهدف بالأساس رفع الظلم عن الذات والآخرين،‮ ‬عبر تحقيق قيم العدل والحرية‮. ‬بل علي العكس، فقد منحت الكراهية روافد جديدة تروي ثمرتها العدائية، لاسيما أن لحظات التغيير وما بعدها عادة ما تمثل حالة كاشفة لكل الظواهر السلبية والإيجابية،‮ ‬سواء في المجتمع أو السلطة‮.‬
 
ولعل النظرة العامة لمراحل ما بعد الثورات تكشف عن تنامي معدلات انتشار الكراهية في منطقتنا العربية، مقابل تراجع قيم التعايش،‮ ‬والتسامح،‮ ‬والعفو‮.‬ فالذين أسقطوا نظام القذافي في ليبيا،‮ ‬وتخلوا في سبيل ذلك عن انتماءاتهم الأولية، لم يجدوا‮ ‬غضاضة في أن يرفعوا السلاح بعد الثورة ليقتل بعضهم بعضا، مستدعين في ذلك أشكالا من الكراهيات الكامنة،‮ ‬تارة تصطبغ‮ ‬بأبعاد مناطقية، وأخري دينية، وثالثة قبلية‮. ‬فيما تحولت رومانسية الثمانية عشر يوما لثورة الـ‮ ‬25‮ ‬يناير في مصر إلي تشرذم سياسي، واستقطاب مدني‮  ‬ديني، وعداء اجتماعي‮. ‬وتحول المجتمع المصري،‮ ‬بعد أربع سنوات من الثورة،‮ ‬إلي وجهة أخري لم يكن ينتظرها من التغيير، حيث بدا أن عليه أن يكافح نمو الجماعات الإرهابية التكفيرية، التي ما كانت لتظهر لولا هذا المناخ من الكراهية‮.‬
 
ولا يختلف الحال في اليمن، إذ اتجهت الثورة بعد سنوات إلي اتخاذ ملامح طائفية تبدت أخيرا مع مشهد سيطرة جماعة أنصار الله الشيعية‮ (‬الحوثيين‮) ‬علي صنعاء، بما أعطي ذريعة دينية جديدة لتنظيم القاعدة،‮ ‬كي يكرس وجوده، ويطرح خطابا يستند إلي دعم السنة وتكفير الشيعة‮. ‬ولم تنج من تلك الحالة العربية المضطربة المحرضة علي الكراهية سوي تونس، حيث بدا لأطرافها أن تكلفة الوفاق والتعايش أقل كثيرا من عواقب الإقصاء، وعدم الاعتراف بالآخر‮.‬
 
في هذه البيئة العربية المضطربة، تصبح العوامل المغذية للكراهية أكثر حدة وتطرفا،‮ ‬بل وكراهية للحياة،‮ ‬وحبا للموت،‮ ‬وقتل الآخرين لمجرد الاختلاف، كما يقول المفكر عبد الحميد الأنصاري‮. ‬ولعل النموذج المتطرف الذي تمثله الدولة الإسلامية في العراق وسوريا‮ (‬داعش‮) ‬هو بمنزلة نتاج جديد‮ - ‬قديم لانتشار الكراهية في المنطقة العربية، فلم يعد الأمر مقصورا علي خطابات تكفير يلوكها بعض المتطرفين في وسائل إعلامهم، بل تحول تكفير الآخر إلي مسلك عدواني يتمثل في قتله بدم بارد،‮ ‬أيا كان قريبا‮ (‬عراقيين‮)‬،‮ ‬أم بعيدا‮ (‬غربيين‮).‬ بل إن داعش خلقت نموذجا من الاسترقاق للنساء من الطائفة الإيزيدية في العراق،‮ ‬يشكل رصيدا جديدا للكراهية في المنطقة‮.‬
 
ورغم أن الكراهية المذهبية والطائفية تمثل نمطا تاريخيا في المنطقة،‮ ‬برز في حالات العراق،‮ ‬ولبنان،‮ ‬وإيران،‮ ‬والكويت،‮ ‬قبل الثورات،‮ ‬بفعل المدركات العقائدية المتبادلة الخاطئة، فإنه استشري في المنطقة بأسرها بعد الثورات، لاسيما مع تصاعد التوظيف السياسي للمكون الطائفي في صراعات البحرين،‮ ‬وسوريا،‮ ‬واليمن‮. ‬بل إن الاصطفافات والمحاور التي خلقتها مراحل ما بعد الثورات خلفت كراهيات ممتدة في العلاقات الإقليمية،‮ ‬أسهمت فيه وسائل الإعلام بالقدر الأكبر، كمثل حملات الكراهية الإعلامية بين مصر وقطر، بسبب الخلاف السياسي الرسمي بينهما، بعد إسقاط جماعة الإخوان المسلمين في مصر‮.‬
 
إن انتشار الكراهية وتجلياتها في المنطقة العربية بات ظاهرة مؤثرة استدعت من العدد الجديد لملحق اتجاهات نظرية فهما لمحفزاتها،‮ ‬سواء علي صعيد المجتمع،‮ ‬أو النظام السياسي،‮ ‬أو الإقليم،‮ ‬أو النظام الدولي، ومن ثم محاولة رسم سبل الحد من آثارها، لاسيما أن الكراهية ليست قدرا للفرد،‮ ‬أو الجماعة،‮ ‬أو الدولة، فهي لا تولد مع الإنسان، كما يقول الزعيم الجنوب الإفريقي الراحل نيلسون مانديلا،‮ ‬أحد رموز التسامح الإنساني، فالأفراد أو الجماعات يكتسبونها من البيئة المحيطة الحاضنة‮.‬ أي بعبارة أخري، فإن نشوء الكراهية يرتبط بطبيعة الظروف السياسية والمجتمعية، وما تحمله من قيم وسياسات، وتزداد حدتها عند التنافس،‮ ‬أو تقاطع المصالح بين الأفراد والجماعات أو عندما ترتبط بأيديولوجيات دينية‮ (‬السنة، والشيعة، البروتستانت والكاثوليك‮)‬، لاسيما إذا لم تتوافر أطر قانونية،‮ ‬وسياسية،‮ ‬ومجتمعية تنظم إدارة هذه التنوعات‮.‬
 
مصادر انتشار الكراهية‮:‬
 
علي أن نقطة البدء في فهم مسألة انتشار الكراهية في المنطقة العربية تتعلق بالاصطلاح ذاته، لاسيما أنه تعرض للكثير من التنظيرات، خاصة من جانب علماء النفس، ذلك أنه من المفاهيم التي ترتبط بمكونات فكرية ونفسية جوانية‮. ‬فمن أكثر التعريفات الشائعة للكراهية أنها تعبر عن طبيعة المشاعر الإنسانية التي قد تنفر من الآخر‮ (‬أيا كانت طبيعته‮: ‬شخصا، مؤسسة، دولة، سياسة معينة، مذهبا‮ ... ‬إلخ‮). ‬وتتجلي الكراهية في مظاهر متعددة، مثل خطابات الازدراء،‮ ‬والتكفير،‮ ‬والتخوين للآخر،‮ ‬انطلاقا من انتمائه العرقي،‮ ‬أو الديني،‮ ‬أو السياسي،‮ ‬أو الجغرافي،‮ ‬أو الطبقي،‮ ‬أو الثقافي،‮ ‬أو المهني‮..‬إلخ، وتنتقل في مرحلة أخري إلي السلوك العدواني تجاه الآخرين‮.‬
 
إذن،‮ ‬فمكمن الكراهية يتعلق بمتغيرين اثنين، هما‮ (‬الأنا، والآخر‮)‬، فثمة ظروف وعوامل تسهم في تشكل مشاعر، ووعي سلبي لـ‮ "‬الأنا‮"‬، وتدفعها للنظر إلي الآخر أو المختلف علي أنه‮ "‬عدو‮"‬،‮ ‬أو أقل منها‮. ‬ويتخذ المتغيران مستويات متعددة تبدأ بالفرد،‮ ‬مرورا بالجماعات، وانتهاء بالدول ذاتها‮. ‬وتتحدد عملية الانتقال بين هذه المستويات وتأثيراتها بمدي تحول الوعي الفردي للكراهية إلي حالة جمعية خاصة بالفئة التي تصيغ‮ ‬السياسات العامة للدول‮.‬
 
وثمة مجموعة من الاقترابات النظرية التي تفسر انتشار الكراهية بأشكالها المتعددة،‮ ‬سواء أكانت كراهية ذات طبيعة سياسية،‮ ‬أم دينية،‮ ‬أم طائفية، ويتراوح أبرزها ما بين اقترابات نفسية، تتعلق بطبيعة الخلل في التكوين الذاتي للإنسان، واقتصادية تنصرف لمسألة‮ ‬غياب العدالة الاجتماعية،‮ ‬والتهميش التنموي لبعض شرائح المجتمع، وما يخلفه ذلك من عداء وحقد، وسياسية تتعلق بطبائع الاستبداد الذي يخلق أناسا وجماعات تتملكهم ثقافة الرغبة في قمع الآخرين، ومجتمعية تتعلق بطبيعة العلائق المتوترة بين الانتماءات الأولية في المجتمع‮.‬
 
ورغم ما تملكه المنطقة العربية من تراث ديني وقيمي يحض علي التسامح والعفو، فإن انتشار الكراهية جاء نتاج مجموعة من مشكلات هيمنت علي المجتمعات العربية، وخطت سلوكياتها، حيث عاشت في ظل أنظمة استبدادية لعقود طويلة،‮ ‬وبالتالي تماهت معها تلك المجتمعات سلوكيا بمنطق‮ (‬الضحية والجلاد‮). ‬وبالتالي، فعندما حدث التغيير،‮ ‬تحولت إلي جلاد للمختلفين معها‮.‬ كما أن ثمة فجوة بين تطلعات الناس،‮ ‬وإحباط الواقع‮.‬ فحلم التغيير عندما يعقبه فشل،‮ ‬وغضب،‮ ‬وحرمان للفئات الأكثر رغبة في التغيير لتحسين أوضاعها، فإنه يخلف عداء بين الفئات الأكثر حرمانا في المجتمع‮.‬
 
أضف إلي ذلك تعمق ثقافة الانغلاق،‮ ‬وتآكل الانفتاح علي الآخر، مدعومة بخطابات التكفير الديني، تارة عبر تأويلات سياسية ومصلحية للنص المقدس، وتارة أخري عبر التخوين،‮ ‬ونزع الوطنية عن المخالفين في الرؤي السياسية والمجتمعية‮. ‬ووسط هذا، تتلقف وسائل الإعلام العربي كل تلك المشكلات لتزيد من نشر الكراهية، لاسيما في ضوء خضوعها، إما لأجندة سلطوية،‮ ‬أو رأس المال،‮ ‬أو لتحالف يجمعهما، بما جعلها تنحاز لفريق دون آخر، وتفقد مهنتيها، وبالتالي تعمق البغضاء في المجتمع‮.‬
 
علي أن الحد من انتشار الكراهية في منطقتنا العربية ليس بالأمر المعقد، خاصة أن العديد من دول العالم مرت بحالات أكثر حدة وتجليا للبغضاء، ولكن امتلكت إرادة الصفح،‮ ‬وصاغت أطرا سياسية وقانونية للتعايش مع الآخر، وتجاوز آلام الماضي‮. ‬فعلي سبيل المثال، فإن رواندا التي أسهمت روح الكراهية بين قبيلتي الهوتو والتوتسي فيها في مجزرة قتل فيها‮ ‬800‮ ‬ألف شخص،‮ ‬خلال مئة يوم في تسعينيات القرن العشرين،‮ ‬في أعلي معدل للقتل في التاريخ البشري، اتجهت بعدها إلي المصالحة والاعتراف بالآخر،‮ ‬وصياغة أطر تكفل التعايش في إطار سلطة القانون، كمدخل لتفكيك الكراهية‮. ‬وعلي‮ ‬غرار رواندا، تبرز تجارب أخري للتعايش في جنوب إفريقيا،‮ ‬والبرازيل،‮ ‬وتشيلي،‮ ‬وغيرها‮.‬
 
إن محاولة فهم انتشار الكراهية في المنطقة العربية، والتي يسعي ملحق اتجاهات نظرية في عدده الجديد إلي إلقاء الضوء عليها،‮ ‬تنطلق من فرضية أساسية، هي أن ظاهرة الكراهية موجودة‮.‬ ورغم صعوبة قياسها،‮ ‬والإمساك بتلابيبها بسبب طبيعتها المرتبطة بالنفس البشرية، فإن لها تجليات في الواقع،‮ ‬وتأثيرات في مجمل العلاقات،‮ ‬سواء الداخلية أو الخارجية‮.‬
 
وينصرف النقاش في الملحق حول صناعة الكراهية في المنطقة العربية إلي خمسة مستويات،‮ ‬هي‮:‬
 
أولا‮- ‬المجتمع،‮ ‬حيث يتم فهم طبيعة مغذيات الكراهية في المجتمعات العربية، علاوة علي السبل المطروحة للحد من هذه الظاهرة،‮ ‬وآثارها‮.‬
 
ثانيا‮- ‬النظام السياسي، حيث يناقش هذا المستوي مدي تأثير طبيعة النظم السياسية،‮ ‬سواء أكانت ديمقراطية أم تسلطية في نشر الكراهية، علاوة علي مدي تأثيرات التحولات في مراحل ما بعد الثورات في صناعة الكراهية‮.‬
 
ثالثا‮- ‬وسائل الإعلام‮: ‬حيث تتم مناقشة دور وسائل الإعلام بشقيها التقليدي والإلكتروني في زيادة،‮ ‬أو الحد من انتشار الكراهية في مرحل ما بعد الثورات
 
رابعا‮- ‬السياق الإقليمي‮: ‬حيث يناقش تأثيرات الكراهية في السياق الإقليمي، عبر إبراز الملامح الأساسية التي تسهم في تنامي العداء بين دول المنطقة، مع التطبيق علي حالتي العلاقات العربية‮ - ‬العربية، والعربية‮ - ‬الإيرانية‮.‬
 
خامسا‮- ‬النظام الدولي، حيث يناقش مدي إسهام النظام العالمي بما يحويه من قضايا كالعولمة، والسياسات الغربية تجاه المنطقة، ومعضلة النظرة الغربية تجاه الإسلام في صناعة الكراهية في المنطقة العربية،‮ ‬خاصة تجاه الآخر الغربي، مع طرح مداخل لتصحيح مسار العلاقات العربية‮ - ‬الغربية‮.‬

رابط دائم: