الاختبار "الصعب" لليسار في أمريكا الجنوبية
1-2-2015


*
طرأت تغيرات متلاحقة على المشهد الدولي، خلال العقدين الأخيرين، إذ برزت قوى إقليمية في قارة أمريكا الجنوبية، مثل البرازيل، والأرجنتين، وفنزويلا، أضف إلى ذلك تنامي موجة تشكيل التكتلات الإقليمية بين دول القارة ، والتي تمثل الفناء الخلفي للنفوذ الأمريكي.
 
ولا يعد هذا الدور المتنامي للقوى الإقليمية في أمريكا الجنوبية سوى انعكاس لما حققته هذه الدول من معدلات نمو اقتصادي مرتفعة، وعدالة في التوزيع، منذ أن استطاع  التيار اليساري أن يصل إلى الحكم في بداية الألفية، بعد أن ظل يلعب دور المعارضة منذ انتهاء حقبة الحكم العسكري في هذه الدول، وبداية مسيرة التحول الديمقراطي في عقدي السبعينيات والثمانينيات التي شهدتها دول المنطقة، فيما أطلق عليه صمويل هنتنجتون الموجة الثالثة للديمقراطية. 
 
وكثيرا ما مثلت الانتخابات، بحسبانها أبرز الآليات الديمقراطية الإجرائية، حلقة الوصل التي يستطيع من خلالها النظام السياسي الديمقراطي تجديد نخبته، وتداول السلطة فيما بين طرفيها اليميني واليساري، بما يعزز قدرة النخبة الحاكمة على استغلال الموارد المتاحة، ليس فقط في تحقيق الأهداف التنموية في الداخل، وإنما القيام بدور فعال على المستوى الخارجي يعكس قوة الدولة وتماسك نظامها.
 
 ورغم صعود اليسار في أمريكا الجنوبية إلى الحكم منذ أكثر من عقد، فإنه لا يزال يواجه تحديات تجلت في الانتخابات التي شهدتها عدة دول في أمريكا اللاتينية خلال 2014، الأمر الذي يضع حكومات تلك الدول أمام اختبار صعب خلال عام 2015.
 
نجاح دون تأييد واسع:
 
شهدت أمريكا الجنوبية في عام 2014 إجراء أربعة انتخابات رئاسية ، فقد فاز الرئيس خوان سانتوس في انتخابات كولومبيا التي أجريت في شهر يونيو، بينما استطاع ايبو موراليس الفوز في بوليفيا، وديلما روسيف في البرازيل فى أكتوبر. أما تاباريه باثكييث، فقد اعتلى سدة السلطة في نوفمبر في أوروجواي.  الملمح الرئيسي في هذه الانتخابات هو فوز مرشحي تيار اليسار، ويسار الوسط، عدا كولومبيا، التي فاز فيها مرشح تيار يمين الوسط السيد خوان سانتوس. ولا يمكن فهم هذا الفوز في كولومبيا بمعزل عن المفاوضات الجارية مع القوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك)، فقد جاءت هذه الانتخابات بمنزلة استفتاء على مسار المفاوضات الجارية، وخيار السلام مع فارك، مقابل خيار المواجهة العسكرية الذي كان مطروحاً كبديل.
 
جاءت تلك النتائج لتكمل مسيرة التيار اليساري في عام 2013، حيث استطاع نيكولاس مادورو الفوز برئاسة فنزويلا ليستكمل مسيرة اليسار، بعد وفاة هوجو شافيز الذي صعد إلى سدة الحكم في فنزويلا منذ ما يقرب من 15 عاماً، وكذلك انتخابات تشيلي، التي فازت فيها ميشيل باتشيليت، الرئيسة السابقة، ممثلة تيار اليسار الوسط، وكذلك انتخابات الإكوادور، التي فاز فيها الرئيس اليساري، رافييل كورريا، بولاية جديدة. بذلك، تصبح كل من باراجواي وكولومبيا الدولتين الوحيدتين في أمريكا الجنوبية اللتين يحكمهما تيار اليمين الوسط، ولتصبح انتخابات الأرجنتين المنتظرة في عام 2015 هي المحطة الأخيرة والحاسمة أيضاً في مسار هيمنة اليسار على رأس النظم السياسية في أمريكا الجنوبية.
 
وتجدر الإشارة إلى أنه في حين فاز ايبو موراليس (بوليفيا)، وديلما روسيف (البرازيل)، وخوان سانتوس (كولومبيا) بولايات رئاسية متتابعة، فإن تاباريه باثكييث (أوروجواي)، وميشيل باتشيليت (تشيلي) عادا إلى منصب رئيس الجمهورية، بعد توليهما هذا المنصب في ولاية سابقة، وذلك وفقا لما يقره دستورا البلدين من عدم ترشح الرئيس في الانتخابات التالية بعد انتهاء ولايته، بما لا يسمح له بتولى المنصب لولايتين متعاقبتين.
 
وبوجه عام في أمريكا الجنوبية، فإن هناك ظاهرة يرصدها المراقبون، منذ وصول موجة التحول الديمقراطي في أواخر السبعينيات إلى القارة، وهي أن أي رئيس يقوم بالترشح في الانتخابات، فإنه غالباً ما يفوز فيها على معارضيه، وإن تفاوتت هوامش الفوز بين المركزين الأول والثاني. فبالرغم من أن القارة شهدت انتخابات متعددة خلال عام 2014، فإن الوجوه والأحزاب والائتلافات لم تتغير كثيراً عما قبلها.
 
 وعليه، فإن من المنتظر في انتخابات 2018 أن يكون التنافس بين التيارات، وليس بين أشخاصها، ذلك لأن فرص ترشح الرؤساء أنفسهم لمنصب رئيس الجمهورية مرة أخرى ستكون أقل بالنظر إلى القيود الدستورية القائمة حتى الآن، بما يحمّل الفاعلين السياسيين من التيار اليميني مسئولية بلورة بدائل قادرة على المنافسة، كما يحمّل التيار اليساري مسئولية العمل على إقرار برامج وسياسات أكثر فعالية تضمن استمرار التأييد، وارتفاع معدلاته، بصرف النظر عن الأشخاص.
 
ويمكن القول إن نتائج انتخابات 2014 كشفت عن وجود دفعة جديدة لتيار يسار الوسط في أمريكا الجنوبية، وإن لم تكن قوية أو بفارق كبير عن منافسه، ولكنها أيضاً عكست هيمنة هذا التيار على أغلب دول القارة في السنوات الأربع القادمة، بحيث يصبح هذا العقد، بدءاً من عام 2010 ، ثاني عقد يساري في القارة، منذ صعود هذا التيار إلى سدة الحكم في هذه القارة، أثناء موجة الانتخابات التي شهدتها هذه الدول في مطلع الألفية، وذلك في تغير راديكالي آنذاك حل فيه محل الأحزاب اليمينية التي سيطرت على الحكم منذ انتهاء عهد النظم العسكرية.
 
المد اليساري إقليمياً ودولياً:
 
ولعل سيطرة التيار اليساري على الحكم في القارة لها انعكاساتها الإقليمية والداخلية. فمثل هذا المد، إن اكتمل بفوز يساري جديد للرئيسة الأرجنتينية الحالية، كرستينا كيرتشنر، في الانتخابات القادمة في 2015 ، سيمثل دعماً لسياسات القارة التكاملية، والتي تجلت في تأسيس عدة تجمعات إقليمية مثل، السيلاك، واليوناسور والميركوسور، وهو ما يشكل دعما لموقفها كقوة إقليمية مؤثرة على الساحة الدولية، كما سيمثل من جانب آخر دعماً لبعض دوله التي تملك طموحات عالمية تتجاوز أمريكا اللاتينية، مثل البرازيل. 
 
ويعزز هيمنة التيار اليساري في أمريكا اللاتينية شبكة علاقاتها الخارجية التي أرستها مع القوى الصاعدة الأخرى، بعيداً عن مجالات نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية، مثلما تجلى ذلك في قمة البريكس التي عقدت العام الماضي. فبالرغم من قدرة دول أمريكا اللاتينية على تحقيق قدر من الاستقلالية في اتخاذ قراراتها عن النفوذ الأمريكي، وتنويع علاقاتها الدولية، خاصة الاستراتيجية الاقتصادية والعسكرية مع قوى دولية أخرى، مثل الصين، وروسيا، وإيران، فإن الولايات المتحدة تظل الشريك التجاري الأول لهذه الدول.
 
تحديات اليسار في ولايته الجديدة:
 
الملاحظ في انتخابات 2014 أن نسب فوز الرؤساء بالسلطة لم تتعد 65%، بأي حال من الأحوال، برغم ارتفاع نسبة المشاركة السياسية. ففي البرازيل، فازت روسيف بنسبة 51.6%، وموراليس بنسبة 60.5% في بوليفيا، وباثكييث بنسبة 56.6% في أوروجواي، وسانتوس بنسبة 51% في كولومبيا، وكورييا بنسبة 61% في الإكوادور، ومادورو بنسبة 50.6% في فنزويلا، وباتشيليت بنسبة 62% في تشيلي. وفي بعض الدول، لم يتم حسم الفوز في الجولة الأولى لعدم حصول أي من المرشحين على نسبة 50%+1 المطلوبة، الأمر الذي أدى إلى إجراء جولة ثانية للانتخابات. وتعكس هذه الأرقام أن اليسار اللاتيني يواجه مرحلة جديدة تتطلب منه مراجعة ومحاولة لاستيعاب التغير الحادث في نسب التأييد.
 
لقد استند اليسار اللاتيني في 2014 في حشد الأصوات إلى الترويج لإنجازاته خلال العقد الأول لصعوده، فقد اعتمدت ديلما روسيف في البرازيل، على سبيل المثال، بشكل كبير على شعبية الرئيس السابق، لولا دا سيلفا، الذي كان لدعمه لحملتها أكبر الأثر في فوزها بهذه الولاية الثانية، فضلاً عن قدرة البرازيل على انتشال 40 مليون شخص من الفقر، منذ بداية الألفية. وفي بوليفيا، أعلنت الدولة منح حقوق اقتصادية واجتماعية كبيرة للسكان الأصليين للبلاد، والذين لم يتمتعوا بها من قبل.
 
جاءت المنافسة اليمينية للتيار اليساري الغالب في القارة أثناء انتخابات 2014 في حدها الأدنى، فلم تستطع الفوز، ولم تقدم بديلا قادرا على المنافسة. إلا أن فوز الأحزاب اليسارية الموجودة في السلطة لم يكن يسيراً  في أغلب الانتخابات، وجاءت الفوارق ضئيلة. وفي أغلب الدول، لم يستطع اليسار الفوز من الجولة الأولى، كما تمت الإشارة، بحيث أًصبح على اليسار العمل، ليس فقط على حفظ مكانته، والحفاظ على إنجازاته التي قام بها في السنوات السابقة، بل تقديم بدائل ترضي القطاع العريض من المصوتين الذين أدلوا بأصواتهم للمعارضة اليمينية رغم ضعفها.
 
ومن المتوقع أن تكون هذه الموجة اليسارية الجديدة التي وصلت إلى الحكم أقل راديكالية من الموجة الأولى، أو- بمعنى آخر- موجة أكثر مواءمة بين الخطاب اليساري والمصالح اليمينية. فلم تعد الأولوية الأولى للخطاب اليساري هي مواجهة الولايات المتحدة بقدر ما أصبحت قضايا التنمية، ومراجعة البرامج الاجتماعية، وتوسيع قاعدة المستفيدين منها، وتحقيق عدالة في التوزيع، وترسيخ قواعد وآليات الحكم الديمقراطي، هى ما يسيطر على الخطاب اليساري، مثله مثل مطالب الناخبين.
 
البرامج الاجتماعية.. صمام الأمان:
 
ومن الواضح أن زيادة الإنفاق على البرامج الاجتماعية التي تبناها التيار اليساري، منذ وصوله إلى الحكم في بداية العقد الماضي، والتي حققت تغيراً إيجابياً ملموسا في حياة قطاع عريض من الشريحة التصويتية في القارة، هي صمام الأمان الذي يضمن بقاء التيار اليساري متصدراً المشهد السياسي. فبالرغم من أن هناك مطالبات بدأت تتبلور وتعكس الرغبة المتزايدة في إحداث تغييرات جوهرية دستورية، أو تنموية، أو متعلقة بزيادة مساحة وهامش حريات التعبير، فإن ثمة اقتناعا بأن هناك حالة من التغيير جارية بالفعل، وإن اختلفت وجهات النظر حول أسلوب إدارتها. 
 
وبالرغم كذلك من ظهور مؤشرات على حالة عدم رضا عن أداء الحكومات في بعض دول القارة، تمثلت في اندلاع مظاهرات حاشدة، مثلما شهدته البرازيل، قبل تنظيم بطولة كأس العالم، أو مطالبات بتعديل الدستور في تشيلي، أو مطالبات بإفساح مساحة أكبر لحرية التعبير في الإكوادور، فإن التيار اليساري لا يزال يمثل خيارا شعبيا لاستمرار التغيير، والتنمية، وعدالة توزيع الثروة بشكل أكبر مما يطرحه تيار يمين الوسط المنافس.  
 
فلم يعد بمقدور المواطن اللاتيني التخلي عن المكاسب الاجتماعية والاقتصادية التي حققها له التيار اليساري، منذ توليه الحكم بسهولة، الأمر الذي يجعل تدني نسب التأييد يعكس رسالة قوية اللهجة لليسار لتعديل أولوياته، وليس رفضاً له بشكل مطلق. وبالتالي، فإن القدرة على الاستمرار في تطوير، وتعزيز، وتوسيع قاعدة البرامج الاجتماعية، وجعلها أكثر هيكلية على المدى الطويل، يعد صمام الأمان للتيار اليساري، من خلال ضمان قاعدة تصويتية مؤيدة تسمح له بالاستمرار في الحكم، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، سيمثل عقبة في طريق وصول اليمين الوسط إلى الحكم، ما لم يبلور نماذج بديلة تضمن تحقيق مستوى التنمية الذي حققته البرامج اليسارية.
 
لقد أصبح جلياً في أمريكا الجنوبية أن الديمقراطية أصبحت "اللعبة الوحيدة في المدينة"، فقد ارتضت جميع الأطراف السياسية قواعد اللعبة، والعمل في إطارها، سواء بالمعارضة، أو بتسيير الحكم، واحتواء المطالبات المتجددة للمواطنين. وعليه، فلم يعد هناك سبيل بخلاف المواءمة أمام الأطراف السياسية، سواء أكان على التيار اليساري أن يخفض من سقف راديكاليته، أم على تيار يمين الوسط أن يجنح لأن يكون أقل محافظة، وأكثر تجدداً في سبيل البقاء والمنافسة.

رابط دائم: