صعود الحوثيين ومآلات الوضع في اليمن
15-3-2015

د‮. ‬إسكندر‮ ‬النيسي‮
* ‬أستاذ التاريخ السياسي المعاصر، اليمن‮.‬
في سياق الانتفاضات والثورات العربية بدءا عام‮ ‬2011،‮ ‬انخرط الحوثيون في اليمن ضمن الاحتجاجات ضد نظام علي عبدا لله صالح، وأقاموا علاقات مع المكونات المناهضة لنظامه في سائر أنحاء البلاد، واستفادوا من فراغ‮ ‬السلطة الذي تركته النخب المنقسمة علي نفسها في النظام السابق، ووسعوا سيطرتهم علي الأرض،‮ ‬وعملوا علي توسيع قاعدتهم الشعبية،‮ ‬ووضع‮  ‬برنامج لسياستهم،‮ ‬وسيطروا علي محافظة صعدة‮.‬
 
‮ ‬وبالتوازي مع الحوار الوطني والمسار السياسي، خاض الحوثيون معارك متتالية في مناطق مختلفة، كان أبرزها معركة عمران التي سيطر الحوثيون عليها في‮ ‬7‮ ‬يوليو‮ ‬2014،‮ ‬مما مثل تحولا مهما في التمدد الحوثي العسكري،‮ ‬وكانت محطة انطلاق نحو العاصمة صنعاء‮.‬
 
بعد سقوط عمران، ضرب الحوثيون حصارا شاملا علي العاصمة صنعاء منذ‮ ‬18‮ ‬أغسطس‮ ‬2014،‮ ‬ونجحوا في حشد وتعبئة أعداد كبيرة من اليمنيين الغاضبين للمطالبة بإسقاط حكومة الوفاق،‮ ‬وإلغاء رفع أسعار المشتقات النفطية،‮ ‬وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني‮. ‬وعلي نحو مفاجئ، نشبت مواجهات في شملان شمال صنعاء،‮ ‬سقط خلالها‮ ‬272‮ ‬قتيلا، وأكثر من‮ ‬680‮ ‬جريحا‮‬،‮ ‬وانتهت بسيطرة الحوثيين علي شملان‮. ‬ثم تحولت المواجهات إلي مبني التليفزيون الحكومي،‮ ‬حتي خضع لسيطرة الحوثيين في‮ ‬20‮ ‬سبتمبر‮ ‬2014،‮ ‬وتلته المنطقة العسكرية السادسة‮ (‬المقر السابق للفرقة الأولي مدرعة‮)‬، فاستسلمت صنعاء بكل مؤسساتها المختلفة للحوثيين في‮ ‬21‮ ‬سبتمبر 2014.
 
أولا‮- ‬البيئة الداخلية لسقوط صنعاء‮:‬
 
خلال حقبة علي صالح، تمكنت الحركة الحوثية من توسيع تحالفاتها السياسية والقبلية،‮ ‬مما أدي بدوره إلي اجتذاب الانتهازيين والبراجماتيين، الذين يسعي بعضهم إلي إعادة تشكيل الحركة،‮ ‬ويسعي آخرون إلي التحالف مع طرف صاعد،‮ ‬واستغل الحوثيون ذلك في الترويج،‮ ‬لأنهم يشكلون مظلة سياسية لتيارات متنوعة،‮ ‬وحتي متنافسة‮. ‬وفي العامين الأخيرين، بدا واضحا أن القوة العسكرية للحوثيين تساعدهم علي الحلول مكان الدولة الغائبة،‮ ‬أو علي الأقل الضعيفة، مما منحهم قدرا من الشرعية والحجية في تثبيت سلطتهم،‮ ‬وإدارة المناطق التي يسيطرون عليها،‮ ‬والتقليل من شأن الاتهامات الموجهة لهم بأن المكاسب الحوثية ما هي إلا نتاج قوة وإكراه، بدعم مالي وعسكري إيراني‮.‬
 
فقد جاءت سيطرة الحوثيين علي صنعاء في ظل انهيار عام للدولة،‮ ‬كان من أبرز ملامحه حالة تذمر واسعة داخل المؤسستين العسكرية والأمنية من حملة الاغتيالات التي تستهدف عناصرها في كل مناطق اليمن،‮ ‬وأيضا الفساد المالي والإداري،‮ ‬وتدني رواتب العسكريين وقوات الأمن،‮ ‬وافتقاد المعايير الموضوعية،‮ ‬مثل الكفاءة،‮ ‬والأقدمية في الترقي وتولي المناصب‮. ‬انعكس ذلك سلبا علي الولاء للدولة،‮ ‬ومعنويات منتسبي المؤسستين العسكرية والأمنية‮.‬
 
ووضح من خلال التطورات التي سبقت سقوط صنعاء،‮ ‬وأيضا أثناءه، وجود توجه رئاسي نحو التخلص من عدة أجنحة مهمة في الساحة السياسية، تشمل الجناح العسكري لحزب الإصلاح‮ (‬الإخوان‮)‬،‮ ‬المتمثل في اللواء علي محسن الأحمر،‮ ‬خصوصا بعد سقوط اللواء‮ ‬310‮ ‬في عمران،‮ ‬وكذلك الجناح المتشدد بقيادة عبدالمجيد الزنداني، والجناح القبلي بقيادة الملياردير حميد عبدا لله بن حسين الأحمر،‮ ‬مع الإبقاء علي من يعدّهم الرئيس منصور هادي معتدلين، مثل عبد الوهاب الإنسي،‮ ‬مستشار رئيس الجمهورية عن حزب الإصلاح،‮ ‬والقيادي في حزب الإصلاح محمد قحطان‮. ‬ومن اللافت أن التأييد الرئاسي لهاتين الشخصيتين يتسق مع رضا حوثي عنهما،‮ ‬الأمر الذي يشي بأن ثمة تفاصيل وملابسات لا تزال‮ ‬غير مفهومة تقف وراء سقوط صنعاء‮.‬
 
ثانيا‮- ‬عوامل إقليمية‮:‬
 
تمثل أبرز ملامح الدور الإقليمي في المشهد اليمني،‮ ‬بعد‮ ‬2011،‮ ‬في المبادرة الخليجية التي وقعتها كافة الأطياف السياسة اليمنية، باستثناء الحوثيين،‮ ‬برعاية واستضافة سعوديتين‮. ‬ولم يعترف الحوثيون بهذه المبادرة،‮ ‬لأنها منحت حصانة للنظام السابق‮. ‬ورغم ذلك، شارك الحوثيون في مؤتمر الحوار الوطني الذي يمثل أحد أهم بنود تلك المبادرة‮.‬
 
ومما يجدر التوقف عنده،‮ ‬فيما يتعلق بالدور الإقليمي، وجود خلاف سعودي‮ - ‬قطري حول الوضع في اليمن، بدأ مع انطلاق الثورة اليمنية عام‮ ‬‭.‬2011‮ ‬وقد نشب الخلاف عندما انقسم النظام السياسي إلي معسكرين، أحدهما انضم إلي الثورة، وهو اللقاء المشترك بزعامة حزب الإصلاح‮ (‬الإخوان‮)‬،‮ ‬وكذلك التيار القبلي للإصلاح من أولاد الأحمر، خصوصا حميد الأحمر، الممول الرئيسي‮  ‬للثورة،  وعلي محسن صالح الأحمر،‮ ‬قائد المنطقة العسكرية الشمالية،‮ ‬قائد الفرقة الأولي مدرع‮. ‬وكان مفاجئا للسعودية أن ينضم حلفاؤها التقليديون إلي الثورة، خصوصا أن بعضهم يتلقي منها بانتظام دعما ماليا‮. ‬فبادرت الرياض إلي وقف دعمها، بينما برزت الدوحة لتقدم دعما متزايدا لأنصار الثورة في اليمن،‮ (‬خصوصا الإخوان‮). ‬وفي السياق ذاته، قدمت السعودية‮  ‬كل أشكال المساعدة للمصابين من قيادة المؤتمر الشعبي العام في محاولة اغتيال صالح في مسجد النهدين،‮ ‬بدءا بعلي صالح نفسه‮. ‬وسيرا علي المنوال نفسه، دعمت السعودية الرئيس الانتقالي عبد ربه منصور هادي الذي كثيرا ما أشاد بمواقف الرياض في مساندة‮ "‬اليمن‮".‬
 
ويبدو أن توسع حركة الحوثي عسكريا، وقيامهما بإخراج أولاد الأحمر من ديارهم في عمران،‮ ‬ثم إزاحتهم من المعادلة السياسة، كان بمباركة سعودية،‮ ‬وتساهل من الرئاسة اليمنية‮. ‬غير أن المكاسب النهائية آلت إلي الحوثيين،‮ ‬ربما دون أن‮  ‬تدرك‮  ‬السعودية‮. ‬وكان لانشغال السعودية بملفات أخري أثر كبير في ذلك‮. ‬فقد تحولت الأنظار إلي الملف العراقي وسيطرة‮ (‬داعش‮) ‬علي مناطق مهمة ونفطية هناك،‮ ‬وهو ما تزامن مع تغير رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي،‮ (‬الذي كان يتهم السعودية بدعم الإرهابيين في العراق‮)‬،‮ ‬علي أن يكون للسعودية دور جديد في المعادلة السياسية في العراق،‮ ‬بعد تولي ألعبادي رئاسة الحكومة ودخول المكون السني الموالي للسعودية في النظام الجديد في العراق، والذي قد يمثل خسارة لإيران،‮ ‬ومكسبا للسعودية‮. ‬لكن قد يكون هذا التسلسل استدراجا للسعودية في العراق،‮ ‬بعد ما كانت إيران تتحكم في المشهد العراقي بأن يعمل الغرب علي تحقيق توازن للقوي في العراق بما يزيد الصراع أكثر بين السعودية وإيران،‮ ‬وذلك من خلال السماح بدور سعودي في العراق وسوريا، مقابل مشاركة الطيران السعودي في قصف‮ "‬داعش‮"‬، وإسناد مهمة تدريب المعارضة السورية المعتدلة إلي الرياض، بغرض إضعاف دور إيران في العراق وسوريا‮. ‬ووسط تلك المستجدات المتلاحقة، فوجئت الرياض بتطورات خطيرة في خلفيتها الجنوبية علي الساحة اليمنية،‮ ‬لم تنتبه السعودية إليها إلا مع سقوط محافظة عمران بيد الحوثيين، مما جعل القيادة السعودية تبلغ‮ ‬الرئيس الانتقالي،‮ ‬عبد ربه منصور هادي،‮ ‬أثناء زيارته للمملكة بعدها مباشرة، انزعاجها من هذا التطور‮. ‬بينما كان هادي يتصور أن سيطرة الحوثيين علي عمران سيكون لها مردود إيجابي لدي السعودية، كونها خطوة ضد أولاد الأحمر‮. ‬ودفع هذا الالتباس الرياض لتنصح الرئيس بالمسارعة إلي مصالحة وطنية،‮ ‬قبل أن يدخل الحوثيون صنعاء‮. ‬وتمت بالفعل المحاولة في اجتماع لكل الفرقاء بمسجد الصالح بمناسبة صلاة عيد الفطر في‮ ‬28‮ ‬يوليو‮ ‬2014،‮ ‬لكن لم يتوصل المجتمعون إلي أي نتيجة إيجابية، لتكون المحصلة هي نجاح الدور الإيراني في مزاحمة الدور السعودي، ولتسقط العاصمة صنعاء،‮ ‬ومعها كل مؤسسات ومرافق الدولة في‮ ‬21‮ ‬سبتمبر‮ ‬‭.‬2014
 
ثالثا‮- ‬البعد الدولي‮:‬
 
تعامل المجتمع الدولي مع الوضع في اليمن استنادا إلي المبادرة الخليجية التي حظيت بإجماع إقليمي وعالمي‮. ‬وقام جمال بن عمر،‮ ‬ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في اليمن،‮ ‬بزيارة صنعاء‮ ‬33‮ ‬زيارة من أجل الإشراف علي التسوية السياسية،‮ ‬خلال الفترة الانتقالية‮. ‬وكان بن عمر يلتقي كافة الأقطاب المتصارعة في الساحة اليمنية من أجل تقريب وجهات النظر في إكمال المرحلة الانتقالية،‮ ‬وفقا لبنود المبادرة الخليجية، ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني‮. ‬ومثل هذا الموقف الدولي فرصة لا تتكرر لدعم التسوية السياسية‮. ‬غير أن تحركات الأحزاب المتناحرة في اليمن عكست عدم رغبة في نجاح التسوية السياسية لتعارضها مع مصالحها‮. ‬وأدي ذلك الإهدار للدورين الإقليمي والدولي من قبل تلك القوي إلي تمكين قوي أخري كانت تتبع ذلك المسار العكسي الذي سارت فيه المرحلة الانتقالية لتفرض نفسها علي الساحة‮. ‬ويبدو أن ممثل الأمين العام في اليمن أدرك ذلك الوضع، فذهب إلي صعدة مع فريقه‮  ‬التابع للأمم المتحدة لمحاورة عبد الملك الحوثي من أجل الاتفاق علي بنود اتفاقية السلم والشراكة،‮ ‬وإرسال ممثل حوثي لتوقيعها‮. ‬غير أنه أثناء وجود بن عمر في صعدة، كانت المعارك تدور في صنعاء‮. ‬وعاد أنصار الحوثي مع بن عمر،‮ ‬لكن بعد أن سقطت الدولة كاملة،‮ ‬فتم توقيع اتفاقية السلم والشراكة من قبل الجميع تحت وطأة مزيج من الإرادة والرغبة في إنهاء الوضع المنهار، والتأثر بقوة السلاح والسيطرة الميدانية الفعلية للحوثيين علي صنعاء‮.‬
 
وهكذا،‮ ‬يمكن القول إن الأجنحة التي كانت تتصارع علي السلطة والثروة،‮ ‬قبل‮ ‬2011،‮ ‬هي نفسها القوي التي ترفض أن ينتقل اليمن إلي دولة مدنية حديثة‮. ‬وبالتوازي مع ذلك، لا توجد معارضة حقيقية فاعلة منذ الوحدة اليمنية عام‮ ‬1990،‮ ‬فالحزب الإسلامي الذي جمع كل التيارات الدينية، وتأسس عام‮ ‬1990‮ ‬تحت اسم‮ (‬التجمع اليمني للإصلاح‮)‬، أصبح حليفا للرئيس صالح حينها،‮ ‬وتم‮  ‬استخدامه في مواجهة الحزب الاشتراكي اليمني،‮ ‬خلال المرحلة الانتقالية للوحدة‮.‬
 
كما كان فشل حكومة الوفاق الوطني،‮ ‬خلال المرحلة الانتقالية، أحد الأسباب الأساسية في تدهور أوضاع البلاد في كل المجالات‮. ‬ونتيجة الإخفاقات التي مارستها النخب السياسية، والتناقضات،‮ ‬والصراعات،‮ ‬وغياب الدولة بمؤسساتها المختلفة، تعاظمت قوة الحوثيين الذين استفادوا من كل أخطاء القوي التقليدية‮: ‬الحكومية،‮ ‬والحزبية،‮ ‬والقبلية‮.‬
 
ولا يمكن تغييب دور الرئاسة اليمنية فيما آلت إليه الأمور، فقد تخلص الرئيس هادي من الجناح العسكري والقبلي للإخوان الذين أيدوه في بداية رئاسته‮. ‬بينما لم يكن الموقفان الإقليمي والدولي علي مستوي الحدث، حيث جاءت ردود الفعل أقل مما كان متوقعا في استمرار لمحدودية الفعالية التي سبقت سقوط صنعاء،‮ ‬وكانت ضمن أسبابه‮

رابط دائم: