الانفتاح المحكوم.. أي مسار محتمل للعلاقات الأمريكية- الكوبية؟
15-3-2015

جورج فريدمان
* عالم اجتماع وسياسة أمريكي، وهو المؤسس والمدير التنفيذي الرئيسي لمؤسسة "ستراتفور" للأبحاث السياسية والاستخباراتية الأمريكية.
عرض: محمد بسيوني
 
حينما خرج الرئيس الأمريكي باراك أوباما أخيرا ليعلن عن تطبيع العلاقات مع كوبا، طُرح تساؤل حول مدى إمكانية تأسيس هذا التحرك الأمريكي لمرحلة مغايرة من العلاقات بين الدولتين، تتجاوز الإطار التقليدي الذي ظل حاكماً للعلاقات على مدى عقود، حيث كانت التباينات الأيديولوجية هي العنصر المرجح في طبيعة العلاقات، لاسيما مع وصول فيدل كاسترو إلي الحكم في كوبا في 1959، وإقامة نظام شيوعي داخل كوبا يستند إلي دعم الاتحاد السوفيتي حينها، ومن ثم كانت ترى واشنطن في كوبا موضع تهديد استراتيجي لها في منطقة هي بالأساس من مناطق النفوذ التقليدي للولايات المتحدة.
 
ومع انتهاء الحرب الباردة، استمرت العلاقات الأمريكية - الكوبية على الدرجة ذاتها من التأزم، فكوبا لم تتخل عن توجهاتها الفكرية، كما لو أن التاريخ ثابت لم يراوح مكانه. وفي المقابل، ظلت واشنطن مصرة على تغيير النظام الشيوعي في هافانا كشرط أولي لتوطيد العلاقات مع كوبا. 
 
تأسيساً على ما سبق، نشر موقع ستراتفور، المعني بالشئون الجيواستراتيجية والاستخباراتية الدولية والأمن العالمي، مقالاً لجورج فريدمان في شهر ديسمبر 2014 بعنوان "الجغرافيا السياسية للعلاقات الأمريكية- الكوبية". ويقدم الكاتب الأمريكي، عبر المقال، رؤية تحليلية تستدعي تاريخ العلاقات الأمريكية - الكوبية، وتلقي الضوء على مدركات وتصورات صانع القرار الأمريكي حول حتمية بقاء كوبا في الفلك الأمريكي لما تمثله من أهمية استراتيجية للولايات المتحدة ومصالحها. 
 
الأهمية الاستراتيجية لكوبا 
 
تشغل المقاربة التاريخية حيزا كبيرا في الرؤية التي يقدمها جورج فريدمان، حيث يفترض أن أهمية كوبا - وأيضاً ما تمثله من تحد جيوسياسي - بالنسبة للولايات المتحدة بدأت في عام 1803، حينما اشترت الولايات المتحدة منطقة لويزيانا، التي كانت خاضعة حينها للسيطرة الفرنسية، إذ إن الرئيس الأمريكي آنذاك، توماس جيفرسون، عدّ لويزيانا منطقة مهمة للأمن الوطني الأمريكي لسببين جوهريين، أولهما أنها كانت توفر عمقا استراتيجيا مهما للدولة، لاسيما أن سكان الولايات المتحدة في ذلك الوقت كانوا متمركزين في المقام الأول فى شرق جبال الأبلاش في شريط طويل يمتد من نيو إنجلاند إلى الحدود بين جورجيا وفلوريدا، وهذا التمركز عزز من إمكانية تعرضهم للانكشاف والغزو الخارجي. أما السبب الثاني والأخير، فقد كان جيفرسون يتبنى رؤية للرفاهية والازدهار الأمريكي تتأسس على ضرورة امتلاك المزارعين لأراضيهم الخاصة، وألا يكونوا مجرد أجراء وأقنان، وكان من شأن امتلاك أراضي لويزيانا الثرية تحقيق هذه الرؤية، نظراً لما ستنتجه من ثروات تسهم في بناء الدولة الأمريكية، فضلا عن تزويد هذه الدولة بالعمق الاستراتيجي المطلوب لتأمينها. 
 
يضيف فريدمان أن جزءًا آخر من أهمية لويزيانا ارتبط بالمسارات النهرية الموجودة، التي سمحت للمزارعين من الغرب الأوسط بشحن منتجاتهم في السفن إلى نهر المسيسبي وما بعده وصولاً إلى نيو أورليانز، حيث سيتم هناك نقل الحبوب للسفن العابرة للمحيطات لتصل إلى أوروبا وغيرها من المناطق. بيد أن استمرارية التدفق في هذا المسار يتطلب من الولايات المتحدة التحكم في المجمع النهري أوهايو– ميسوري – المسيسبي (والمتضمن عددا من الأنهار الآخري)، وخليج المكسيك، والنقاط المركزية في المحيط الأطلسي الواقعة بين كوبا وفلوريدا، وبين كوبا والمكسيك. الأمر المهم بالنسبة للولايات المتحدة، في هذا السياق، هو الحفاظ على اتصال تلك السلسلة من المسارات، وعدم تعرضها للانكسار في أي نقطة، لأن ذلك سيؤدي حتماً إلى تداعيات سلبية على الولايات المتحدة وحركة التجارة. 
 
وفي تلك الآونة، كان الآباء المؤسسون للولايات المتحدة يتخوفون من بريطانيا بصورة كبيرة، فقد كانت هناك قوات بريطانية متمركزة في جزر البهاما القريبة من كوبا، وبالتالي ظل الهاجس الأمريكي من أن تقوم بريطانيا بالسيطرة على كوبا، وتفرض حصارا على الاقتصاد الأمريكي، فضلاً عن عرقلة حركة التجارة. ولا يمكن إغفال أن هذه التخوفات هي التي دفعت الولايات المتحدة إلى الاستيلاء على كوبا أثناء الحرب الإسبانية- الأمريكية ( خلال الفترة بين عامي 1898 و1900) ليتم تأمين مسار العبور بين نيو أورليانز والأطلسي.
 
هذه المعطيات دفعت الولايات المتحدة لإدراك أهمية الحفاظ على نفوذها داخل كوبا بصورة تحول دون وصول أنظمة حاكمة معادية لها، أو ارتباط هافانا بقوى خارجية يمكن أن تشكل تهديدا للمصالح الأمريكية. هذه المسلمات تفسر الطريقة التي كانت من خلالها تتدخل واشنطن في كوبا لإقامة أنظمة حكم موالية لها. وكان من أبرز هذه الأنظمة نظام الرئيس فولجنسيو باتيستا الشهير بتحالفه مع الولايات المتحدة، والذي تمت الإطاحة به في عام 1959، ليتولي بعده فيدل كاسترو مقاليد السلطة، ومعه تدخل العلاقات الأمريكية- الكوبية مرحلة جديدة. 
 
الحرب الباردة ومعضلة كاسترو
 
استدعى وصول كاسترو– ذى الأفكار الشيوعية - للسلطة في كوبا مخزونا هائلا من التمايزات الأيديولوجية، عززت الصراع الأمريكي- الكوبي، خاصة مع التحالف الذي تم بين النظام الكوبي والاتحاد السوفيتي (السابق)، والذي جعل كوبا محطة مهمة من محطات الحرب الباردة. وفي هذا الإطار، يطرح فريدمان أزمة الصواريخ الكوبية للتدليل على الكيفية التي تداخلت من خلالها كوبا في معادلة الحرب الباردة. 
 
لقد كان ميزان القوى يميل بدرجة ما لمصلحة الولايات المتحدة، فالاتحاد السوفيتي كان يفتقر إلى أسطول قاذفات طويلة المدى تستطيع أن تصل لأهداف بعيدة، في حين تمتلك الولايات المتحدة الخبرة العسكرية الكافية في القصف بعيد المدى. وخلال عقد الخمسينيات من القرن الماضي، كانت واشنطن تمتلك قوات جوية داخل أوروبا، والتي كانت بمنزلة تهديد للاتحاد السوفيتي. 
 
ومن ثم، طمح الاتحاد السوفيتي إلى مواجهة هذا الاختلال عبر التركيز على الصواريخ الباليستية، وقد نجحت موسكو حينها في تطوير صواريخ متوسطة المدى، بيد أنها لم تكن قادرة على الوصول إلى الأراضي الأمريكية. وهكذا، وجد الاتحاد السوفيتي في كوبا موضعا استراتيجيا مهما يمكن عبره نشر الصواريخ، وتهديد الولايات المتحدة. 
 
صحيح أن هذه الأزمة انتهت مع تهديد الولايات المتحدة بالرد على التحركات السوفيتية، وما استتبعه من توقيع واشنطن وموسكو اتفاقية تعهدت بموجبها واشنطن بعدم غزو كوبا. وفي المقابل، تعهدت موسكو بعدم وضع أسلحة نووية داخل الأراضي الكوبية، إلا أنها عززت من هواجس الولايات المتحدة إزاء كوبا. وهذه المرة، كان التماهي بين نظام كاسترو والاتحاد السوفيتي يتكفل باستدعاء فرضية "التحدي الكوبي الجيوسياسي". 
 
الإنفتاح المحكوم
 
تغير النظام الدولي كثيراً مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وتفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم، ولم تكن كوبا بمعزل عن هذه التغيرات. فهي من ناحية، خسرت حليفا استراتيجيا مهما كان يوفر لها الكثير من الدعم. ومن ناحية أخرى، فحتى وإن كانت الولايات المتحدة مصرة على إسقاط النظام الشيوعي بالكلية، فقد تبدد الكثير من تخوفاتها تجاه هافانا. 
 
وعطفاً على ما سبق، أثير تساؤل حول احتمالية التغير في العلاقات الأمريكية- الكوبية، وهو تساؤل يبدو فريدمان أكثر حذراً وتحفظاً في التعاطي معه، حيث يعتقد أن تطبيع العلاقات بين الدولتين، والتوصل إلى تسوية استراتيجية لأسباب التأزم أمر يحتاج إلى فترة زمنية أطول، وسيكون مرتهنا بتوازن القوى بين عوامل الدفع، وعوامل التراجع من جهة أخرى. 
 
وتتشكل عوامل الدفع بصورة رئيسية من إعلان الرئيس الأمريكي باراك أوباما، خلال شهر ديسمبر 2014 ، عن تطبيع العلاقات مع كوبا، وتبادل السجناء المحتجزين بتهم التجسس. هذا التطور في العلاقات الثنائية– الذي من الجائز وصفه بـ "الانفتاح المحكوم" – ارتبط بعاملين جوهريين، هما:
 
 أولاً: عدم امتلاك أوباما– وفقاً لفريدمان - لرصيد كاف من الإنجازات على مستوى السياسة الخارجية، وبالتالي فإن الانفتاح على كوبا قد يعطيه إنجازا، بدرجة أو بأخرى، خاصة أنه إنجاز يمكن تحقيقه بدون جهد كبير. كما أن هناك مجموعات داخلية– مثل غرفة التجارة الأمريكية– يمكن أن تساند المنحى الذي اتخذته الإدارة الأمريكية، وستوفر لها الغطاء السياسي اللازم داخل الحزب الجمهوري أيضاً. 
 
ثانياً وأخيرا: الضغوط التي تعرضت لها هافانا، منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، علاوة على المشكلة الآنية المتعلقة بعدم استقرار الأوضاع في فنزويلا، والاضطرابات التي تتعرض لها حكومة الرئيس نيكولاس مادورو، نتيجة للإخفاقات الاقتصادية، وهو ما قد يؤثر فى الأوضاع الداخلية في كوبا، إذ إن فنزويلا تمثل مصدرا مهما لإمداد هافانا بالنفط بأسعار مخفضة. ومن هذا المنطلق، فإن سقوط الحكومة الفنزويلية سيُفقد كوبا مصدرا رئيسيا من مصادر دعمها، وهذا السيناريو يجعل النظام الكوبي أكثر رغبة في الانفتاح على واشنطن. 
 
ولكن تظل هذه العوامل محكومة بمعادلة معقدة، تتقاطع معها عوامل أخرى للتراجع، وتحول دون إحداث تغير جذري. وترتبط تلك العوامل بالحسابات الداخلية الخاصة بكل دولة. ففي الداخل الأمريكي، يقف تحالف كوبي- أمريكي من المحافظين والمدافعين عن حقوق الإنسان عائقا أمام تطوير العلاقات بين الدولتين، نظراً لتنديده وإدانته المستمرة لسجل كوبا في حقوق الإنسان. بالإضافة إلى ذلك، فإن هناك اتجاها مؤثرا داخل الولايات المتحدة يربط الانفتاح التام على هافانا بإسقاط النظام الشيوعي هناك.
 
 وعلى الصعيد الداخلي في كوبا، فإن النظام الحاكم في هافانا ظل لسنوات يعول على فكرة العداء الأمريكي للتكريس لشرعية النظام الشيوعي، الذي يستند في الكثير من أفكاره إلى المعارضة للإمبريالية الأمريكية، بحسب فريدمان. واتساقاً مع هذا النهج، قام النظام الحاكم أيضاً بتوظيف العداء الأمريكي، والحصار المفروض من جانب واشنطن لتبرير الإخفاقات الاقتصادية الداخلية في كوبا. 
 
بناءً على ما سبق، يخلص فريدمان إلى أن الانفتاح الحادث في العلاقات الأمريكية- الكوبية سيظل انفتاحاً محكوماً ومؤطراً في حدود معينة، وذلك في انتظار ما ستسفر عنه التفاعلات المستقبلية بين عوامل الدفع، وعوامل التراجع.

رابط دائم: