العصر الرقمي الجديد‮ .. ‬إعادة تشكيل مستقبل الأفراد والأمم والأعمال
7-12-2014
* محمد مسعد العربي
 
Eric Schmidt & Jared Cohen
 
The New Digital Age: Reshaping the future of People، Nations and Business،(United States: Alfred A. Knopf، 2013)
 
يشهد المجتمع البشري تطورا مطردا في مجال التكنولوجيا الرقمية وتطبيقاتها، وهو التطور الذي بدأ قبل عقدين من الزمان، لتغدو معه حياة الإنسان أكثر ارتباطا بالأجهزة الإلكترونية والعوالم الافتراضية‮. ‬كما جاءت التكنولوجيا الرقيمة لتلقي بجل تأثيرها علي تطور الأنظمة السياسية،‮ ‬وتشكيل العلاقات الدولية، فقد أصبح أمن المعلومات أحد أهم أركان منظومة الأمن القومي لمعظم دول العالم، كما بدأ الحديث عن أن الحروب السيبرانية هي حروب المستقبل‮.‬
 
وعلي الرغم من الأهمية السياسية للتكنولوجيا الرقمية وتطبيقاتها،‮ ‬فإن الدراسات التي تستشرف المستقبل السياسي،‮ ‬والاقتصادي،‮ ‬والأمني للمجتمع البشري،‮ ‬في ظل التطور المستمر والمتوقع للتكنولوجيا وتطبيقاتها اتسمت بالندرة‮.‬
 
وقد جاء تعاون كل من إيريك شميت، رئيس شركة جوجل،‮ ‬المدير التنفيذي السابق لها، وجارد كوهين، مدير الأفكار في جوجل،‮ ‬الخبير في مجلس العلاقات الخارجية، ليجسر تلك الفجوة، وليقدما مؤلفا جديدا يتناول بالفحص والدراسة مستقبل المجتمع البشري في العصر الرقمي الجديد، والتأثيرات المستقبلية المحتملة للتكنولوجيا الرقمية في طبيعة حياة الإنسان،‮ ‬والاقتصاد،‮ ‬والسياسة،‮ ‬والعلاقات الدولية‮.‬
 
ملامح العصر الرقمي الجديد وقضايا الخصوصية‮:‬
 
كانت نقطة الانطلاق للمؤلفين في هذا الكتاب هي تطوير فكرة قديمة نسبيا، مفادها أن هناك عالمين،‮ ‬أحدهما هو العالم المادي الذي تطورت حضارته علي مدي آلاف السنين، وهو عبارة عن حزمة من الثقافات،‮ ‬والدول القومية،‮ ‬والحكومات،‮ ‬والمؤسسات،‮ ‬وهياكل للسلطة والقوانين‮. ‬وعلي الجانب الآخر،‮ ‬يوجد العالم الافتراضي، التي لا تزال حضارته في مهدها، وهو عالم ديناميكي، يفتقد السلطة العليا، فوضوي، حيث فقدت معه الحدود أهميتها،‮ ‬مع سهولة اختراقها، قواعده‮ ‬غير واضحة،‮ ‬في ظل مرونة توزيع السلطة داخله‮. ‬وفي ظل محاولات التعايش بين العالمين المادي والافتراضي، حاول كل منهما تحجيم سلبيات الآخر ومجابهتها، وهو الأمر الذي ولد حالة مستمرة من الصراع بينهما‮.‬
 
ويتوقع المؤلفان أن يتعاظم هذا الصراع خلال السنوات العشر القادمة التي قد تشهد زيادة عدد مستخدمي الإنترنت من مليارين إلي‮ ‬7‮ ‬مليارات، وهو ما سيشكل معه تحديا هائلا للمجتمع البشري، وقد يتسبب في اضطراب هائل‮.‬
 
واستعرض المؤلفان ملامح قضية من أهم قضايا العصر الرقمي الجديد، وهي قضية الخصوصية، والتي يمتلك المؤلفان رؤية متشائمة تجاهها،‮ ‬وذلك بسبب وجود‮  ‬من سماهم المؤلفان‮  "‬الصقور السياسية‮"‬،‮ ‬والتي تنتظر وقوع حوادث عامة خطيرة،‮ ‬حتي يصعدوا مطالبهم بتشديد المراقبة علي الإنترنت، وهو الأمر الذي يضفي الشرعية علي أنشطة تنتهك خصوصية الأفراد مثل استخراج البيانات الخاصة بالأفراد، ومتابعة مكالماتهم الهاتفية، وتتبع تاريخ تصفحهم للإنترنت، وسجلاتهم المصرفية، وكذلك سجلاتهم الطبية‮.‬
 
وقد يختار بعض الأفراد التخلي طوعا عن فوائد العالم الافتراضي‮ -‬التي لا تقاوم‮ - ‬مقابل الحفاظ علي أشياء أخري قيمة في عالمنا المادي مثل الخصوصية،‮ ‬وسرية المعلومات الشخصية والأمنية‮. ‬ولكن في هذه الحالة،‮ ‬قد تتشكك الحكومات في سلوك مثل هؤلاء الأفراد، الذي ستعده شاذا، وتنشأ سجلات خاصة ترصد سلوكياتهم،‮ ‬وتنتهك خصوصياتهم‮. ‬أي أن سلوك الأفراد‮ "‬غير السيبراني‮" ‬سيكون سببا في جذب التدقيق والمراقبة السيبرانية لهم‮.‬
 
الإرهاب الإلكتروني وظهور السيادة الافتراضية‮:‬
 
يحاول المؤلفان رسم خريطة لمستقبل المجتمع البشري،‮ ‬في ظل‮ "‬العصر الرقمي الجديد‮"‬، من خلال تناول أبرز سمات العصر القادم، والتي تثير المزيد من القلق العميق‮.‬ ومن أبرز تلك السمات‮:‬
 
‮- ‬تطور عمليات التنصت، بحيث لا تقتصر علي عملية رصد محتوي الرسائل بين طرفين فقط، وإنما تتعدي إلي تعديل ذلك المحتوي،‮ ‬وإعادة توجيهه بما يتلاءم مع مصالح الجهة المتنصتة‮.‬
 
‮- "‬البلقنة‮"‬، حيث يتخيل المؤلفان أنه إذا قررت مجموعة من الدولة الإسلامية ذات الأغلبية السنية أن تؤسس‮ "‬شبكة سنية‮" ‬لتكون جزءا من شبكة الإنترنت، وتصبح المصدر الرئيسي للمعلومات،‮ ‬والأخبار،‮ ‬والتاريخ،‮ ‬وأنشطة مواطني هذه البلدان، فإنه بذلك سيكون استخدام الإنترنت في هذه البلدان مقتصرا علي وجهة نظر ضيقة، تلك التي تبثها الشبكة الجديدة‮.‬
 
‮- ‬انتشار الطائرات بدون طيار المزودة بالكاميرات، والتي ستقود بلا شك إلي انتهاك خصوصية الأفراد في مجتمعاتهم، حيث ستكون جميع المناطق وتحركات الأفراد مراقبة ومرصودة، وهو ما قد يدفع العالم إلي تأسيس ما يسمي‮ "‬المناطق الآمنة‮" ‬التي يتطلب التصوير بها إذن الأشخاص المعنيين‮.‬
 
‮- ‬ظهور ما يسمي بـ‮ "‬طالبي اللجوء بسبب الإنترنت‮"‬، حيث في ظل النظم السياسية الاستبدادية التي تعمل علي تحجيم حركة المعلومات واستخدام الإنترنت، قد يقوم بعض النشطاء بتقديم طلبات للجوء،‮ ‬والانتقال إلي بلدان أخري،‮ ‬يستطيعون داخلها استخدام شبكة الإنترنت بحرية تامة‮.‬
 
‮- "‬الاتحاد السيبراني للدول الاستبدادية‮"‬، حيث يمكن أن تقوم تلك الدول الاستبدادية المنبوذة من قبل المجتمع الدولي، مثل روسيا البيضاء،‮ ‬وإريتريا،‮ ‬وزيمبابوي،‮ ‬وكوريا الشمالية، بتأسيس اتحاد إلكتروني خاص بها تتداول من خلاله استراتيجيات الرقابة والرصد‮.‬
 
‮- "‬السيادة الافتراضية والدولتية‮"‬، وهي فرصة قد يتصدر لها أولئك المطاردون في العالمين المادي والافتراضي، والجماعات ذات القومية والثقافة الواحدة،‮ ‬والتي تفتقد وجود دولة رسمية تشملهم، حيث يمكنهم تأسيس شبكة إلكترونية تجمعهم في العالم الافتراضي، يمارسون من خلالها نوعا من السيادة الافتراضية، وهو الأمر الذي ربما يكون له تأثير في اتجاه التأسيس الفعلي لدولتهم، مثل تأسيس الشبكة الكردية لأكراد سوريا،‮ ‬والعراق،‮ ‬وتركيا،‮ ‬وإيران كنوع من الاستقلال الظاهري‮.‬
 
‮- "‬السلطة التقديرية‮"‬، تلك التي سوف تمتلكها منظمات مثل‮ "‬ويكيليكس‮"‬، خاصة في ضوء توقع بروز العديد من المنظمات،‮ ‬مثل ويكيليكس، في التعامل مع البيانات والمعلومات التي تمتلكها، فتحدد متي تتم إذاعة تلك المعلومات، ومتي يتم إخفاؤها، وذلك بغض النظر عن الأضرار التي قد تلحق بأفراد أبرياء نتيجة ذلك‮.‬
 
‮- ‬انتشار الإرهاب الإلكتروني، حيث ستعمد الدول والجماعات الإرهابية إلي الاستفادة من تكتيكات الحرب السيبرانية، حيث ستعتمد الهجمات من هذا النوع علي سرقة الأسرار التجارية،‮ ‬والحصول علي المعلومات السرية، واختراق الأنظمة الحكومية للدول، ونشر المعلومات المضللة‮.‬
 
‮- ‬تعاظم فرص الدول الصغيرة علي مستوي السياسة الخارجية، حيث يذهب المؤلفان إلي أن امتلاك القوة في العالم المادي لا‮ ‬يمثل ضمانة لامتلاك القوة في العالم الافتراضي، وهو ما يمثل فرصا للدول الصغيرة التي تمتلك الشجاعة،‮ ‬وتبحث عن دور يتجاوز وزنها في العلاقات الدولية، وذلك من خلال استغلالها لتلك التناقضات التي قد تعتري سياسات الدول الكبري ما بين العالمين المادي والافتراضي علي مستوي السياستين الداخلية والخارجية‮.‬
 
مستقبل الثورات والأنظمة الاستبدادية‮:‬
 
يتحدث المؤلفان عن تطور شكل وطبيعة الثورات في المستقبل، حيث سيتجه العالم نحو ما يسمي بـ‮ "‬الثورات عبر الوطنية‮".‬ فالعصر الرقمي الجديد سيجعل الحركات الثورية في المستقبل عابرة للحدود،‮ ‬وشاملة للعديد من القوميات أكثر من ثورات الماضي،‮ ‬فضلا عن أن تكنولوجيا الاتصالات تسمح للنشطاء‮  ‬عبر الحدود‮  ‬بالمشاركة في عمليات تعبئة الجماهير،‮ ‬وحشدها ضد أنظمتها الحاكمة من دون مخاطر حقيقية‮.‬
 
ويؤكد المؤلفان أن العصر الرقمي الجديد لابد أن يثير مخاوف الحكام المستبدين، لأنه وفر أدوات‮ ‬غير مسبوقة للرقابة الشعبية،‮ ‬وانتقاد الأنظمة الحاكمة، ووفر فرصا لاتخاذ تحركات شعبوية جماعية في سبيل إسقاط الأنظمة القديمة‮. ‬ويشير المؤلفان إلي أنه رغم توقع ازدياد النشاط الثوري في المجتمعات البشرية في المستقبل، فإن عددا محدودا من تلك الأنشطة سيصبح ثورات ناجحة، وذلك لأن تسارع وتيرة الثورة يعني أن الحركات الثورية لديها فترة أقصر لخلق استراتيجيات،‮ ‬وتأسيس منظمات،‮ ‬وتنشئة قيادات، لا تكون قادرة فقط علي إسقاط الأنظمة القديمة، ولكنها قادرة علي امتلاك زمام السلطة‮. ‬فافتقاد الحركات الثورية مثل هذا النوع من الاستراتيجيات والقيادات سيمثل بلا شك بدايات ثورية خاطئة‮.‬
 
وختاما، يعرب المؤلفان عن تفاؤلهما حيال مستقبل المجتمع البشري،‮ ‬في ظل العصر الرقمي الجديد، الذي سيشهد زيادة الكفاءة والفرص،‮ ‬وتحسين نوعية الحياة، والتمتع بالمزيد من الحرية، من خلال مجابهة الحكومات الاستبدادية، التي تخشي هذا العصر، وتحاول أن تكون أقل اتصالا بهذا العالم الافتراضي‮.‬
 
-----------------------------
* باحث بمكتبة الإسكندرية

رابط دائم: