ملامح "عدم الواقعية" في سياسة أوباما الخارجية
22-10-2014

بول سوندرز
* خبير في العلاقات الدولية

عرض: سارة خليل، باحثة في العلوم السياسية

تضاربت الآراء في الآونة الأخيرة حول تقييم السياسات التي تتبعها إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، والتصريحات المتناقضة التي عادة ما يُدلي بها معبراً عن فصاحته البلاغية، ولكن دون أي أثر ملموس على أرض الواقع، الأمر الذي أثار انتقادات الكثيرين ضده لغياب استراتيجية شاملة لسياسته الخارجية، وغموضها إلى حد كبير، خاصة تجاه قضايا منطقة الشرق الأوسط، والنزاعات القائمة فيها، واتخاذ قرارات تُوضح بصورة جليًة تراجع وانحسار دور القيادة الأمريكية العالمية إلى حد كبير عما كانت عليه خلال العقود الماضية من القرن العشرين.

ولهذا، تنشغل الأوساط الأمريكية بعدة تساؤلات حول مدى واقعية السياسة الخارجية لإدارة أوباما، وما إذا كانت الإدارة تسعي حقاً للحفاظ على الدور الأمريكي عالميا، والذي بات يُشكل جزءا رئيسيا لنظام ما بعد الحرب الباردة، أم لا.

وللإجابة على تلك التساؤلات، نشرت مجلة "ناشيونال إنترست" تحليلاً للكاتب "بول سوندرز" في عددها عن شهري سبتمبر/أكتوبر 2014، تحت عنوان "باراك أوباما ليس واقعيا"، يتناول فيه أسباب حسبان البعض أوباما واقعيا عند صنع سياساته الخارجية، وملامح عدم واقعية سياساته التي يطرحها البعض، وما ينبغي أن تكون عليه السياسة الخارجية الأمريكية طبقا للمنهج الواقعي. ويقدم التحليل رؤية مستقبلية حول تداعيات سياسات إدارة أوباما الخارجية.

هل أوباما رئيس واقعي؟

يذكر الكاتب أن كلا من مؤيدي ومعارضي الرئيس الأمريكي باراك أوباما اعتادوا حسبان سياساته واقعية، خلال أغلب الفترات التي قضاها في منصبه حتى وقت قريب، وكانت تلك الرؤية هي التي دأب البيت الأبيض على ترسيخها، بحيث يلجأ الرؤساء الأمريكيون إلى الواقعية في صنع كل من السياسة الدولية والداخلية.
لكن الكاتب يذكر أن أوباما، خلال خطابه في ويست بوينت في مايو 2014، نأى بنفسه عن واقعية سياساته، بقوله "طبقاً للذين يصفون أنفسهم بأنهم واقعيون، فإن الصراعات في سوريا، وأوكرانيا، وجمهورية إفريقيا الوسطى ليست تعنينا لحلها". وتثير كلمات أوباما بأنه ليس واقعيا تساؤلين في غاية الأهمية. الأول: لماذا كان الرئيس ومستشاروه تروق لهم التصورات بأنه واقعي في سياساته؟. أما الثاني والأخير، فهو: ماذا غير أفكارهم؟.

في معرض إجابته على التساؤلين، يعرض الكاتب لدور مستشاري أوباما وفريقه الرئاسي في محاولة إظهار واقعية سياسات أوباما، مما يعطيه الشرعية الفكرية والسياسية الظاهرية للتعبير عن رغبته في التركيز على بناء الأمة من الداخل، مما يساعد الإدارة على تبرير تجنب التدخل – غير المبرر- في المشاكل الدولية المعقدة التي تستمر لفترة طويلة، خاصة تلك الموروثة من الرئيس السابق جورج دبليو بوش، والتي حاولت إدارة أوباما التخلص منها.

ويتحدث الكاتب عن رغبة أوباما في الخروج من العراق، والاتجاه إلى آسيا كبديل لمنطقة الشرق الأوسط، بحسبان آسيا أكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية. كما قرًر الانسحاب من أفغانستان تحت حجج أن الولايات المتحدة بذلت أقصى ما في وسعها هناك، وفضل البقاء بعيداً عن التورط في مزيد من الحروب في الشرق الأوسط، والتفاوض مع إيران، واستخدام الكونجرس كذريعة للبقاء خارج سوريا. كل ذلك كان بدعم واسع من الرأي العام الأمريكي لتلك القرارات بسبب المعاناة من الحروب التي خاضتها إدارة بوش.

ألمح الكاتب لغموض سياسات أوباما بسبب أنها لم توضح الأسباب المباشرة لاستعدادها لاستخدام القوة في ليبيا، وعدم استخدامها في سوريا، على الرغم من تجاوز الرئيس السوري بشار الأسد الخطوط الحمر التي أعلنها أوباما في السابق باستخدامه الأسلحة الكيميائية ضد المواطنين العزل. فقد كان أوباما حريصاً على بناء صورة واهية أمام الرأي العام، على حد قول الكاتب،  بعد خطاباته القوية، ورد الفعل الضعيف في الواقع على ضم شبه جزيرة القرم لروسيا، وعدم إعلانه متى ستلجأ إدارته إلى استخدام القوة، ومتى ستمتنع.  

حجة الالتزام بالمعايير الدولية 

يرجع الكاتب السبب الرئيسى لحسبان أوباما واقعيا لفترة طويلة من قبل كل من منتقديه والمدافعين عنه إلى السياسات البرجماتية التي كانت تتبعها إدارته. لكن سوندرز يبين أن الواقعية أكثر بكثير من البرجماتية، ولذا يرى أن الخلط بين المفهومين (الواقعية والبرجماتية) يعد واحداً من أكثر الأخطاء - الجوهرية والمستمرة - في مناقشات السياسة الخارجية الأمريكية. ولهذا، يرى سوندرز أن أوباما ليس واقعيا، لأن سياساته عادة ما تبدأ وتتوقف عند النهج البرجماتي.

وتطرق الكاتب لثقة أوباما المفرطة في المعايير الدولية، والتقدير الضئيل لاستخدامات القوة وحدودها، والحد الأدنى من الاهتمام بالسياسة الخارجية، وغياب استراتيجية أمريكية دولية لإدارته كما يرى الكاتب في مقالته. وفي سياق متصل، تبرز جهود أوباما المتكررة لمقارنة القرن الحادي والعشرين بالقرن التاسع عشر، ليظهر تعلقه المفرط بالقواعد والمعايير في ظل بيئة دولية تغلب عليها الفوضى، حيث لا توجد سلطة عليا، وعدم وجود إرادة حقيقية لديه لاكتساب هذا الدور لمصلحة الولايات المتحدة، على حد قول الكاتب.لكن القواعد والمعايير الدولية شهدت حالة من التطور المستمر على مدى القرنين الماضيين. فقد حاولت الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وبعض مؤسسات الأمم المتحدة إعادة تعريفهما، وإضعاف سيادة الدولة، وشرعنة استخدام القوة للرد على الأخطاء.

وأشار الكاتب إلى أنه من السذاجة توقع مراعاة الدول الأخرى - خصوصاً القوى الرئيسية مثل الصين وروسيا- القواعد والمعايير الدولية التي تراها الولايات المتحدة غير كافية، وتحاول تعديلها. فمن وجهة نظر بكين وموسكو، فإن واشنطن عادة ما تنتهك القانون الدولي نفسه الذي تزعم المحافظة عليه. وأضاف الكاتب أن القواعد والمعايير غير موضوعية، ويمكن تأويلها بطرق متضاربة، وبذلك فإن الحجج ووجهات النظر حول ما هو "قانوني" ليست لها أصل.

وليس معنى ما سبق إنكار الكاتب لدور القواعد والمعايير التي كانت قائمة في نهاية الحرب الباردة، والتي أسهمت بشكل كبير في تعزيز القوة الأمريكية وقدراتها في الدفاع عن مصالحها القومية. ومن خلال هذا النظام، فازت الولايات المتحدة بالحرب الباردة. لذلك، فإن محاولة تغيير الطريقة التي يُدار بها العالم تعد مخاطرة فعلية لزعزعة استقرار النظام الدولي الذي يصب في المصلحة الأمريكية بالأساس لمواجهة خصومها ومنافسيها، موضحاً أن جميع الواقعيين يفهمون ذلك، لكن أوباما يجهله.

ملامح عدم واقعية السياسة الخارجية لأوباما

يطرح الكاتب عددا من الملامح التي تظهر عدم واقعية السياسة الخارجية لإدارة الرئيس باراك أوباما، والتي لخصها في الآتي:

الملمح الأول- غياب استراتيجية أمريكية شاملة: يرى الكاتب أن افتقار إدارة أوباما لوجود استراتيجية دولية واضحة المعالم يعد من أقوى الحجج التي تتناقض مع المبادئ الواقعية، مشيرا إلى أنه ربما يلجأ الرئيس الأمريكي للأساليب البرجماتية في عدد من قضايا السياسة الخارجية. ولكن في ظل غياب استراتيجية شاملة، فإن البرجماتية التي يتبعها في بعض الحالات لا يمكن الاعتماد عليها لتحقيق أهداف كبرى.

وأردف الكاتب حديثه بأن إدارة أوباما لجأت إلى بعض السياسات - دون أسباب - من خلال أسلوب خطابي تبدو عليه السمة الواقعية، ولكن في حقيقته تغيب عنه الواقعية لغياب استراتيجية أمريكية موحدة، ومن تلك السياسات "القيادة من الخلف" في ليبيا، والدعم المتواضع للمعارضة السورية، والعقوبات غير الفعالة ضد روسيا كبديل لسياسات حقيقية، مشيراً إلى أن تلك السياسات بها القليل من الواقعية.

الملمح الثاني- نبذ القوة العسكرية: ألمح الكاتب إلى أنه كان من الطبيعي ألا تعتمد الإدارة الأمريكية برئاسة أوباما على القوة الأمريكية كمكون أساسي للسياسة الأمريكية بعد الحرب في أفغانستان والعراق. ولكن على عكس توقعات بعض المحللين، فإن الرئيس نبذ القوة العسكرية بصورة لم يسبق لها مثيل بين الرؤساء الأمريكيين منذ الحرب العالمية الثانية. وكانت تصريحاته في بروكسل الأكثر تعبيراً عن الصدمة بأن "روسيا لا يمكن ردعها بمزيد من التصعيد بالقوة العسكرية"، والذي يراه الكاتب تخليا مفاجئا عن المبدأ التأسيسي للسياسة الخارجية الأمريكية على مدى سبعة عقود.

كما صرح أوباما قائلاً "نادراً ما أجد أن ممارسة القوة العسكرية تقدم إجابات محددة"، واستدل الكاتب على ذلك بما حدث في شبه جزيرة القرم، واستراتيجية أوباما في التعامل مع القضية، والتي تمخض عنها الانتصار الروسي بضم القرم، وعدم اتخاذ إجراءات صارمة تجاه ذلك.

الملمح الثالث- البرجماتية المفرطة: رأى الكاتب أن اعتماد أوباما بشكل كبير على هجمات الطائرات بدون طيار في مكافحة الإرهاب يعد دليلاً واضحاً، ونتيجة مباشرة للبرجماتية السياسية المفرطة التي تتبعها إدارة أوباما. فالولايات المتحدة يمكنها القضاء على أعدائها بدون وجود قوات على الأرض، أو طيارين في الهواء مع وجود عدد محدود من الضحايا المدنيين.

وتثير هجمات الطائرات بدون طيار إشكاليات متعددة من قبيل مخاطر ردود الفعل السلبية بين السكان الأجانب، ووضع معايير - غير مقصودة - للآخرين الذين يملكون طائرات بدون طيار، فهي بذلك بمنزلة "منحدر للانزلاق" إلى صراع أوسع نطاقاً، في ظل عدم وجود معيار واضح لنجاحها. فغياب استراتيجية واضحة، والتركيز بشكل كبير على البرجماتية أديا إلى تقليل الوجود الأمريكي في المنطقة، ويتضح ذلك باستخدام الإدارة للطائرات بدون طيار، والتدرج في الانسحاب من المنطقة.

الملمح الرابع- التقاعس عن اتخاذ إجراءات فعلية واللجوء إلى الخطابة: انتقد الكاتب تصريحات أوباما بشأن بعض القضايا، وعدم قدرته على الإقناع، وفقدان مصداقيته. وتطرق هنا إلى القضية السورية، متسائلاً: كيف لأوباما إعلان أنه "حان الوقت لتنحي الأسد" دون اتخاذ أية إجراءات فعلية؟، وهل يمكن تنحية قائد مستبد من منصبه دون اتخاذ أية إجراءات؟. وعن القضية الأوكرانية، تساءل الكاتب: هل سيسفر إعلانه بأن ضم القرم لروسيا "غير مقبول" عن نتائج حقيقية؟. وفي هذا السياق، ذكر الكاتب أن الثقة الزائدة بالنفس، وعدم الاهتمام الملحوظ بعواقب الفشل، والتصريحات غير المسئولة المتتالية ليس لهما أي مكان في السياسة الخارجية الواقعية.

وكتب سوندرز أن إدارة أوباما تشارك بأقل قدر ممكن في الشئون الدولية من الناحية السياسية. كما أن استجابته للتحديات الأمنية عادة ما تهدف إلى إظهار قيامه بما يكفي لتجنب الانتقادات الداخلية الحادة، ومحاولته تقليل الضغوط على إدارته للتدخل في القضايا العالمية.

واقعية السياسة كما يجب أن تكون

عرض سوندرز في مقالته رؤيته لسياسة خارجية تتفق مع المبادئ الواقعية، موضحاً أنها لابد أن تقوم للحفاظ على القيادة الأمريكية الدولية – بدون تكبد نظامها خسائر سياسية أو اقتصادية فادحة - بحسبانها أفضل وسيلة لحماية المصالح القومية للولايات المتحدة. ويعد ذلك هو الاختلاف الأساسي بين الواقعيين والانعزاليين كما أوضح الكاتب، الذين تقتصر رؤيتهم على أن القيادة العالمية مكلفة للغاية، لذلك يرغبون في الحفاظ على الموارد الأمريكية. 

ويشير الكاتب إلى أن السياسة الخارجية الواقعية ترى العلاقات بين القوى الرئيسية في العالم عاملا رئيسيا في تحديد عدد وتأثير النزاعات الدولية التي يمكن أن تكون لها تداعيات خطيرة على الأمن القومي الأمريكي في عصر الدول الفاشلة والإرهاب. فالحروب بين الدول يمكن اندلاعها لعدة أسباب، لكن العلاقات بين القوى الكبرى تلعب الدور الحاسم في تحديد ما إذا كانت تلك النزاعات سيتم تصعيدها واستمرارها، أو إنهاؤها. وبالتالي، ينبغي على كل من يبحث عن الأمن والاستقرار والسلام البدء في عمل علاقات مع الدول الكبرى.

وفي سياق متصل، تطرق الكاتب إلى أن الولايات المتحدة هي المستفيد الأكبر من النظام الدولي الذي تأخذ بزمام المبادرة فيه دائماً، لذلك فإنه على واشنطن الحفاظ على ذلك من خلال عنصرين تحدث عنهما الكاتب في مقالته. الأول: الحفاظ على العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة الذين يدعمونها باستمرار، ويرتبطون بها بعلاقات وثيقة. الثاني والأخير: إدارة التواصل مع الدول غير الحلفاء، وأبرزها الصين وروسيا، اللتان تسفر معارضتهما لبعض القضايا عن أكبر خسارة للنظام الدولي، والمصالح الأمريكية. ويشمل ذلك تجنب التحالف الصيني -الروسي، الذي يعد أكبر تهديد محتمل للنظام الدولي الحالي، في ظل القيادة الأمريكية.

ويمكن تحقيق ذلك من خلال الحفاظ على الالتزامات والقيادة الصارمة والواقعية في تقييم مصالح الآخرين. وفيما يتعلق بالعنصر الثاني، أشار الكاتب إلى معرفة الواقعيين بأن إدارة المنافسة في العلاقات الدولية بنجاح تتطلب الحوافز والعقوبات، وليس نبذ القوة كما يفعل أوباما.

وبذلك، فإن استراتيجية السياسة الخارجية الواقعية ستعطي الأولوية الكبرى للمخاطر التي تشكل تهديداً على بقاء أمريكا ومصالحها، وهذا يعني منع استخدام الأسلحة النووية أو البيولوجية ضد الولايات المتحدة، والحفاظ على النظم المالية العالمية، ونظم التجارة، بما فيها التجارة في الطاقة والموارد الرئيسية الأخرى، وضمان بقاء حلفاء الولايات المتحدة، وتجنب ظهور قوى كبرى معادية. فالولايات المتحدة لديها العديد من الأهداف الأخرى بالغة الأهمية، ولكن لا ينبغي أن يتسبب التركيز عليها في تجاهل المصالح الحيوية الأمريكية أو النظام الدولي الموالى للولايات المتحدة. وبذلك، ينبغي على القادة الأمريكيين تحديد الأولويات، والتفريق بين المصالح الجوهرية والأقل أهمية.

وقد أنهى الكاتب مقالته بتوضيح آثار السياسة الخارجية لإدارة أوباما على المكانة والدور الأمريكيين عالميا، موضحاً أنه على الرغم من تجنب إدارة أوباما وقوع كوارث في السياسة الخارجية على المدى القصير، فإنها ارتكبت أخطاء مُكلًفة للغاية، مشيراً إلى أن تداعيات ذلك تعد أقل وضوحاً من الحروب التي خاضتها إدارة بوش، وربما تتضح تداعيات ذلك على المدى الطويل، خاصة فيما يتعلق بروسيا والصين، ودورهما في التعجيل بالتغييرات الخطيرة في النظام الدولي – الذي شكلته الولايات المتحدة وحلفاؤها عقب الحرب العالمية الثانية - والتي تمثل تحدياً كبيراً للقيادة الأمريكية عالميا، والذي بدوره يمثل تهديداً كبيراً للاقتصاد الأمريكي على المدى الطويل، ويزيد من احتمالية نشوب المواجهات والحروب، وهو الأمر الذي دفع الكاتب إلى تأكيد أن السياسة الخارجية لإدارة أوباما لا تتبع النهج الواقعي، الأمر الذي يمثل- من وجهة نظر الكاتب- كارثة للسياسة الخارجية الأمريكية.


رابط دائم: