القابلية للتفكير التآمري في مراحل التحولات الكبرى
29-10-2014

د. خالد حنفي علي
* باحث في الشئون الإفريقية
عندما أراد المفكر الجزائري مالك بن نبي أن ينفض غبار الاستسلام عن أبناء بلده، إبان الاستعمار الفرنسي، صاغ مفهوم "القابلية للاستعمار" في كتابه "شروط النهضة" في أربعينيات القرن الماضي، ليبعث برسالة مزدوجة، مضمونها أن مناعة المجتمعات، وقدرتها علي تجاوز التخلف من داخلها هما خط الدفاع الأول أمام الاختراق الخارجي، وإن لم يغفل دور الآخر (المستعمر) في تكريس سياسات الوهن في المجتمعات، ودفعها للتكيف(1).
 
ومنذ صك هذا المفهوم الذي يشير إلي مدي استعداد الناس، وميلهم لتقبل أمر ما، عبر تعديل توجهاتهم للتكيف مع ضغوطات معينة، صارت "القابلية" أحد أطر التفسير الرائجة لظواهر عديدة تكرست في المنطقة العربية، كالاستبداد السياسي(2)، والتهميش الاجتماعي، والتبعية للغرب، وهو ما امتد أيضا إلي ظاهرة "التفكير التآمري" التي تخبو، وتتصاعد، بحسب طبيعة الأحداث والتغيرات في المجتمعات.
 
فكلما انطوت هذه الأحداث علي تغيرات ذات طبيعة دراماتيكية، وتضافرت فيها عوامل متداخلة، وخلفت آثارا عميقة، أصبح بعض الأفراد والجماعات أكثر قابلية واستعدادا لتبني تفسيرات تآمرية لا عقلانية لأحداث التغيير، في محاولة منهم إما لتبرئة الذات، وإلقاء التهمة علي الآخرين، أو لعدم الإلمام بالعوامل المعقدة داخل الواقع(3)، أو حتي للتعبير عن مصالحهم المضادة لعملية التغيير.
 
ولذا، مثلت مرحلة الثورات العربية، وما تبعها من تفاعلات في المراحل الانتقالية، بيئة خصبة لتصاعد القابلية للتفكير التآمري، وتوظيفه من كافة الأطراف المشتبكة مع عملية التغيير، سواء أكانوا أفرادا، أم جماعات، أم سلطة، كل بحسب نظرته لعملية التغيير، ومدي توافقها مع مصالحه أو تصوراته حول ما يمكن أن تئول إليه.
 
فالقوي المضارة والمضادة للتغيير تبنت خطابا تآمريا يختزل ويبسط الثورات في مجرد مؤامرة خارجية لتفكيك المنطقة العربية، وإثارة النزعات الطائفية والمذهبية، مستدلة علي ذلك بتجليات المراحل الانتقالية من تعثر واستقطاب سياسي ومجتمعي، وانهيار اقتصادي، وتنامي جماعات العنف والإرهاب بالمنطقة(4). ولم يكلف هؤلاء أنفسهم عناء التفكير في أن خروج الناس إلي الشوارع - أيا كان دور وتأثير العوامل الخارجية - هو نتاج عوامل متراكمة لعقود من الظلم، والفساد، والاستبداد، والإفقار طالت غالبية شرائح المجتمع، وأن نواتج الثورات قد تشكل حالة مرحلية -وليست دائمة- تخضع برمتها لطبيعة الخصوصيات المجتمعية، وخبرات القوي السياسية في كل دولة علي حدة.
 
في المقابل، فإن بعض القوي المؤيدة للثورات ليست معصومة هي الأخري من تبني الخطابات التآمرية، فقد عزت تعثرات ما بعد الثورات إلي مؤامرات مشتركة بين قوي داخلية وخارجية، دون إدراك واقع ما بعد التغيير الذي تعرضت فيه الدولة والمجتمع إلي حالة من الانكشاف، أبرزت مكامن ضعفهما. فالدولة تراجعت قدرتها علي الضبط الاجتماعي، والسياسي، والأمني، في مواجهة تصاعد قوة الشارع الذي حوي "موزاييك" من الانتماءات المتعددة تم قمعها، وليس استيعابها خلال عقود، بما كان يستوجب اقترابات توافقية لا إقصائية في المراحل الانتقالية. فالإدارة الصفرية للصراعات لم تعد تتناسب مع مجمل التعددية التي أفرزت مرحلة الثورات.
 
وأسهم تباين الإدراكات والخبرات في دول الثورات لحالات الانكشاف وتبعاتها في نشوء مسارات متفاوتة. فبينما اعتقدت جماعة الإخوان المسلمين أنها قادرة علي إدارة العلاقة مع المجتمع والدولة المصرية، بمنطق صفري، فسقطت بعد عام من حكمها، إثر خروج الناس عليها في 30 يونيو، بدت حركة النهضة التونسية أكثر وعيا بطبيعة متطلبات مراحل ما بعد التغيير، لذا صاغت خطابا توافقيا مع شركائها في الترويكا، تجاوزت من خلاله العثرات الانتقالية(5)، فيما تحولت كل من سوريا وليبيا إلي صراع داخلي مسلح اجتذبت فيه المحاور الإقليمية والدولية.
 
ولعل متابعة لبعض القضايا المطروحة علي الساحة العربية، خلال السنوات الأربع الماضية، تكشف عن توظيف متصاعد للأطراف والقوي السياسية المختلفة للخطاب التآمري، بحسب ما يتفق مع مصالحها وهواها السياسي والأيديولوجي. فعندما برزت معضلة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش سابقا) في العراق وسوريا، كان التفسير الأسهل للخطاب التآمري أنه نتاج مؤامرة إسرائيلية - أمريكية لتشويه الإسلام، وتفكيك المنطقة، وتحويلها إلي بؤرة جاذبة للجهاديين لإبعادهم عن الدول الغربية. المتبنون لهذا الخطاب غضوا الطرف عن طبيعة العوامل البنيوية التي تحفز علي نشأة جماعات العنف في بلد مثل العراق عاني تمترسات مذهبية، وتهميشا للسنة، وفقدان الدولة قدرتها علي ممارسة وظائفها بحياد بين الأطراف السياسية، بعد الغزو الأمريكي في عام 2003(6).
 
اللافت للنظر هو حالة التناقض في توظيف الخطاب التآمري. فصعود التيار الإسلامي، بعد الثورات، نظر إليه من بعض القوي المعارضة علي أنه مؤامرة تحيكها كل من الولايات المتحدة وتركيا. وسقوطه في مرحلة تالية، خاصة في مصر، تم النظر له من قبل بعض القوي الإسلامية علي أنه مؤامرة من الولايات المتحدة أيضا، ولكن اتسع التفسير التآمري ليشمل استهداف الإسلام نفسه.
 
وفي تلك الأجواء التي تتعزز فيها القابلية لخطاب المؤامرة، بات الناس في منطقتنا أكثر استعدادا لإلقاء أحكام اختزالية. فكل من عمل في حكومات مبارك، أو القذافي هو فاسد، أو من الأزلام، وكل من تبني طروحات إسلامية هو محرض علي العنف، مع أن المنطق العلمي والإنساني يفرض التمييز بين البشر داخل المجموعات المختلفة، ويستند للأدلة القطعية لا الظنية. وخلفت تلك الأحكام التي روجت لها خطابات تآمرية ليس فقط "استقطابا أفقيا" بين القوي السياسية، وإنما عمقت الكراهية رأسيا في جسد المجتمعات العربية، وجعلتها أكثر ميلا لتقسيم العالم والبشر والأحداث ما بين خير مطلق، وشر مستطير.
 
القابلية للمؤامرة والعقل العربي:
 
ولا يعد ما حدث بعد الثورات من تصاعد للتفسيرات التآمرية، وعملية توظيفها "حالة استثنائية" في المنطقة العربية. فالعقل العربي تسكنه هواجس ومعتقدات حول أنه مستهدف، ومخترق، ومحاصر من الآخر، وأن هناك قوي خفية في العالم تتآمر عليها، وترغب في تغيير هويته، وتدميرها(7). وعادة ما يعلق عوامل كبوته وشروط نهضته علي الآخر، أكثر من الاعتراف بعيوب الذات، دون الأخذ بمسببات القوة والضعف التي تتحكم في التفاعلات بين الدول والمجتمعات.
 
وبالتالي، مثَّل التفسير التآمري للأحداث الكبري في المنطقة إغراء تاريخيا سهلا. فالفاعلون المتآمرون علي المنطقة هم من بذروا الفتنة بين صحابة رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وأسقطوا الدولة العثمانية، وأسسوا إسرائيل، وهزموا مصر في 5 يونيو 1967، ودبروا هجمات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة لإلصاق التهمة بالعرب والمسلمين. ورغم أنه لا يمكن إنكار أن الأدوار الخارجية، سواء سماها البعض مؤامرة، أو مصالح، أو صراع إرادات، لعبت دورا في إضعاف المجتمعات العربية، فإن الغزو الخارجي لا ينجح إلا بمقدار تفكك الداخل، مثلما يذهب العلامة ابن خلدون.
 
وإذا كانت فترات التعايش مع الأنظمة الاستبدادية، وتراكم خبرات التبعية للغرب، والاستسلام للقدري والغيبي للهزائم، وتفسيرها بأنها عقاب إلهي، قد هيأت البيئة للتفكير التآمري، فإن مراحل ما بعد الثورات أضافت لها من العوامل الجديدة ما يجعل خطاب المؤامرة أكثر تجذرا، وأوسع توظيفا.
 
لقد وقعت الأطراف السياسية والمجتمعية في المراحل الانتقالية فيما يمكن تسميته "خطأ المدركات المتبادلة". فكل طرف -نتيجة الانغلاق التاريخي والتمترس خلف مقولاته وسياساته - بات لا يملك القدر الكافي من تفهم مصالح وتوجهات الآخرين، حيث يتصور أنه "يملك الحق"، وما عداه باطل، مع أن الظاهرة السياسية والمجتمعية نسبية وغير حدية، وتقبل منطق أن "يصبح الكل فائزا"، وبالتالي تعذرت فكرة التعايش بين التيارات المختلفة التي تمثل خاصية أساسية لأي نظام ديمقراطي.
 
ولم تشفع "الحداثة المنقوصة" للمجتمعات، والانخراط في العولمة، بكل ما تحمله من قيم انفتاحية، وتبادل معلوماتي، في الحد من خطابات المؤامرة. فبعد تحليلات شابها قدر من التهويل حول أدوار وسائل الاتصال الاجتماعي في قيام الثورات، عبر وسائل التعبئة، والحشد، والانتقال السلس للأفكار بين مجموعات مجتمعية متنوعة، تحولت تلك الأقنية الافتراضية في مرحلة لاحقة، إثر التعثر الانتقالي، إلي أحد مغذيات الاستعداد لخطاب التآمر في المجتمع. وحتي لا ينصرف الذهن إلي أن النقاش حول القابلية للخطاب التآمري هو نوع من جلد الذات للمنطقة العربية، وموروثاتها الثقافية، وتفاعلات السياسية، فإن العالم الغربي، بكل ما أوتي من حداثة، يعاني هو الآخر الآفة التآمرية، وإن كانت بدرجات متفاوتة. تجد ذلك جليا في تفسير العديد من الأحداث الكبري، مثل: مقتل الأميرة ديانا، واغتيال جون كيندي، وهجمات 11 سبتمبر، وغيرها.
 
الملحق.. لماذا الآن؟
 
ولأن التفكير التآمري بات من الظواهر المؤثرة في التفاعلات السياسية والمجتمعية الراهنة في مراحل ما بعد الثورات، فقد سعي هذا العدد الجديد من ملحق "اتجاهات نظرية" لمحاولة فهم أبعاد وتأثيرات الخطابات التآمرية، أي مجموعة الأفكار، والمبادئ، والتصورات، والسياسات التي توظف خطاب المؤامرة في تفاعلات المراحل الانتقالية.
 
علي أنه من المهم إيضاح أنه ليس من أهداف الملحق مناقشة صحة أو عدم صحة المؤامرة، لا سيما أنها بحكم التعريف (تواطؤ هدفه حبك مكيدة في الخفاء للقيام بعمل معاد ضد فرد أو جماعة) لا يمكن حسبانها نظرية علمية للتفسير، خاصة أنها تقوم علي الإقرار بالنتائج أولا، دون تجريب فروضها. وفي هذا الإطار، استهدف الملحق، عبر تحليلات قدمها جيل من الباحثين الشبان، إجلاء الأبعاد المتعددة لظاهرة التفكير التآمري في مراحل ما بعد التغيير، من خلال مناقشة عدة محاور أساسية، هي علي النحو الآتي:
 
أولا: تحديد إطار نظري لضبط مفهوم الخطاب التآمري، وسماته، وعوامل انتشاره، كمكون أساسي للخطاب العام من قبل مختلف الأطراف والفاعلين في مراحل ما بعد الثورات، واستخلاص أبرز التأثيرات التي يحدثها هذا الخطاب في المجال العام.
 
ثانيا: استكشاف أنماط التوظيف السياسي للتفكير التآمري في المنطقة العربية، عبر استدعاء نماذج تطبيقية من مصر، والبحرين، والعراق، وتحديد شروط فاعلية الخطاب، مع إيلاء أهمية لنمطي التشكيك والهذيان بعد الثورات.
 
ثالثا: فهم العلاقة بين خطاب التآمر والتيار الإسلامي بعد الثورات، عبر تقديم قراءة مغايرة في الحالة التونسية التي تجاوزت حالة التعثر الانتقالي، عبر خطاب توافقي لا تآمري.
 
رابعا: سياقات وآليات الظهور المكثف لإسرائيل في خطاب المؤامرة في المنطقة العربية، سواء لدي النخب، أو الشارع، خاصة في مرحلة ما بعد الثورات.
 
خامسا: مناقشة قضية تقسيم الدول التي راجت في خطاب المؤامرة، عقب الثورات العربية، عبر التطبيق علي الحالة السودانية التي تم استدعاؤها بكثافة في هذا الخطاب، إثر بروز النزعات الهوياتية، والجهوية، والمناطقية.
 
هوامش:
 
(1) انظر حديثه في فصلي المعامل الاستعماري ومعامل القابلية للاستعمار في: مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة: عمر كامل مسقاوي، عبد الصبور شاهين، (دمشق: دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر، 1986)، ص ص 154-.15
 
(2) استخدمت تحليلات عديدة مفهوم "القابلية" في تحليل ظاهرة الاستبداد السياسي، خاصة في محاولة تفسير ذهنية الخضوع لدي المجتمعات. انظر نموذجا لهذه التحليلات: توفيق سيف، الاستبداد وآليات إعادة إنتاجه والسبل الممكنة لمواجهته، موقع الجزيرة. نت، 3 أكتوبر .2014
 
(3) انظر قراءة معمقة حول مصادر التفكير التآمري: إبراهيم عرفات، "نظرية المؤامرة: مراجعة لدور الشك في التحليل السياسي"، مجلة النهضة، مجلة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة،  (3) 6، يوليو .2005
 
(4) انظر نموذجا لهذا الاتجاه، د. محمد كمال، حتي لا تتكرر المؤامرة، صحيفة "المصري اليوم"، 17 أغسطس .2014
 
(5) انظر معالجة د. أمل حمادة بهذا الملحق حول كيف استطاعت حركة النهضة التونسية تجاوز خطاب التآمر إلي التوافق.
 
(6) باتر محمد علي وردم، داعش والولايات المتحدة: نظرية المؤامرة .. إلي متي؟، الدستور الأردنية، 11 أغسطس .2014
 
(7) انظر: تحليلين حول أنماط التفكير التآمري في العقل العربي للمشرف علي مشروع تطبيقات الخطاب التآمري في المنطقة العربية في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية: د. محمد عبد السلام، نظرية المؤامرة: قواعد التفكير غير العلمي في المنطقة العربية، صحيفة الأهرام، 25 يناير 2006، ود. محمد عبد السلام، نظرية المؤامرة، أنماط التفكير التآمري في المنطقة العربية، 31 يناير .2006.
 
 

رابط دائم: