صناعـــة العـــدو
29-9-2014

سامح راشد
* باحث بمؤسسة الأهرام، مدير تحرير مجلة السياسة الدولية
تشير التطورات التي شهدها العالم في الأشهر القليلة الماضية إلي تصاعد ظاهرة جديدة قديمة، تعلو وتخبو كل بضعة عقود،‮ ‬وهي ظاهرة‮ "‬صناعة العدو‮"‬،‮ ‬أي الإسهام المباشر في إيجاد أعداء وخصوم بفضل السياسات والتوجهات التي تتبناها دولة أو أكثر‮. ‬وبدلا من إنجاز تلك التحركات أهدافها،‮ ‬وتحقيق مصالح أصحابها، تكون النتيجة عكسية بظهور أعداء جدد،‮ ‬أو تعميق الفجوة مع خصوم حاليين‮. ‬ثم تكتمل الصورة بالتعاطي الخاطئ مع ذلك الوضع الجديد بالاستمرار في السياسات،‮ ‬واتباع الأساليب ذاتها، فيزداد الموقف تعقيدا واستعصاء علي الحل،‮ ‬ويئول الوضع إلي دائرة مغلقة تبدأ بأخطاء تعالج بمثيلاتها فتفضي إلي أخطاء جديدة مشابهة،‮ ‬وهكذا‮.‬
 
والأمثلة كثيرة علي ذلك النمط من السياسات الخاطئة المتكررة، منها السياسات الأمريكية تجاه التوجهات القومية والاستقلالية في أمريكا الوسطي والجنوبية‮. ‬فقد دعمت واشنطن سلسلة من الانقلابات ضد نظم الحكم الاشتراكية والقومية، بالتوازي مع دعم مباشر لأنظمة وحكام موالين لها‮. ‬وفي كل مرة،‮ ‬كانت النتيجة انكشاف هذا الدور الأمريكي المناوئ لمصالح وتوجهات الشعوب المتطلعة إلي استقلال قرارها، وبالتالي تتعمق الفجوة،‮ ‬وتزداد الكراهية تجاه واشنطن، والإصرار علي الخروج من فلكها‮. ‬والخطأ هنا أن‮ ‬غاية تطويع السياسات لا يمكن تحقيقها بالجبر والقوة، خاصة باستخدام التغيير الفوقي، عبر نظم حكم منفصلة عن شعوبها،‮ ‬ولا تجسد توجهات مواطنيها‮. ‬وكان لتكرار هذا الخطأ دور محوري في طرح وتجدد التساؤل الشهير‮ "‬لماذا يكرهوننا؟‮".‬
 
غير أن ثمة سببا جوهريا آخر وراء تلك الوضعية‮ (‬الرفض إلي حد الكراهية‮)‬، هو المغالطة والتدليس في التعامل مع المشكلات والقضايا الدولية، خصوصا تلك التي تتعلق بحقوق وواجبات شعوب،‮ ‬أو دول،‮ ‬أو حتي أفراد‮. ‬وهذا النمط من السياسات‮ ‬غير العادلة ليس نمطا أمريكيا، وإنما تشترك فيه دول‮ ‬غربية وغير‮ ‬غربية،‮ ‬حتي صار سمة ملازمة لطريقة تعامل ما يسمي‮ "‬المجتمع الدولي‮" ‬مع القضايا والمشكلات الإقليمية، خصوصا تلك المتعلقة بدول صغيرة أو محدودة التأثير في النظام العالمي‮.‬
 
والمثال الأوضح علي ذلك مسلسل المعالجات الدولية المنحازة للصراع العربي‮ - ‬الإسرائيلي طوال مراحله التي تقترب من قرن كامل، منذ وعد بلفور، الذي صدر ممن لا يملك لمن لا يستحق‮. ‬فقد كانت سلسلة المواقف والتحركات الدولية تجاه اغتصاب إسرائيل الحقوق العربية مدعاة لتشكيل جبهة عداء عربي وإسلامي،‮ ‬ليس لإسرائيل وحدها،‮ ‬لكن للسياسات والأطراف الداعمة لها‮. ‬صحيح أن تلك الجبهة تعرضت لتغيرات وتحولات كثيرة وعميقة، وتفككت معظم أوصالها،‮ ‬حتي يصعب حاليا عدّها‮ "‬جبهة‮"‬،‮ ‬إلا أن الأثر السلبي الناجم عن الانحياز لإسرائيل لا يزال قائما،‮ ‬لم يمحه تفسخ العلاقة بين الدول العربية والإسلامية،‮ ‬بل واختلافها هي ذاتها حول كيفية التعاطي مع الاحتلال الإسرائيلي ومقتضياته‮. ‬بل إن سلوك القوي الكبري تجاه التطورات المهمة،‮ ‬خصوصا الأزمات التي تنشب فجأة في سياق مجريات الصراع، يتكفل بإحياء تلك الروح العدائية،‮ ‬وتجدد الشعور لدي العرب والمسلمين بأن‮ "‬العدو‮" ‬الذي يكرس الاحتلال،‮ ‬ويفاقم انتهاكاته التي تصل إلي حد جرائم ضد الإنسانية، ليس دولة إسرائيل وحدها‮.‬
 
هذا بالطبع خلاف ما ترتكبه إسرائيل ذاتها من مذابح ومجازر،‮ ‬وممارسات لا آدمية بحق الفلسطينيين،‮ ‬وأحدثها عدوان‮ "‬الجرف الصامد‮" ‬الذي شنته تل أبيب علي قطاع‮ ‬غزة علي مدي خمسين يوما متواصلة،‮ ‬تم خلالها استهداف المدنيين بشكل متعمد، ليس فقط في المناطق السكنية،‮ ‬وإنما أيضا في المشافي،‮ ‬والمدارس،‮ ‬والمساجد، بل وداخل المنشآت التابعة للمنظمات الإغاثية والإنسانية،‮ ‬بما فيها تلك التابعة للأمم المتحدة، مثل قصف المدرسة التابعة للأونروا بمن فيها من مدنيين نازحين احتموا بها‮. ‬هذه الممارسات تقدم نموذجا لعملية صناعة الأعداء، فعمليات القتل العمياء لآلاف المدنيين كفيلة بخلق جيش من‮ "‬الأعداء‮"‬،‮ ‬قوامه آلاف من أصحاب الثأر لأهالي القتلي، وعشرات الآلاف من الجرحي والمتضررين، فضلا عن عشرات الآلاف من الأطفال الذين ستنبني عقيدتهم،‮ ‬وتتشكل عقلياتهم علي كره مطلق لإسرائيل، ومن أيدها‮.‬
 
علي الشاكلة نفسها، تأتي عملية صناعة‮ "‬العدو‮" ‬الإسلامي في الشرق الأوسط،‮ ‬بصفة خاصة، من جانب حكومات المنطقة والقوي الكبري علي السواء‮. ‬فلو لم يكن القمع السوري ضد ثورة شعبية سلمية، وتقاعس الغرب والعالم كله عن دعم ومساعدة الشعب السوري،‮ ‬أو الضغط علي النظام بشكل فعال، لما تحولت سوريا إلي نقطة جذب واستقطاب للإسلاميين الجهاديين من كل أنحاء العالم‮. ‬والغريب أن بعض تلك الجماعات تلقت دعما بالمال والسلاح من أطراف عربية وإقليمية تعدّها الآن‮ "‬إرهابية‮". ‬وتم ذلك‮  ‬تحت سمع وبصر دول أجنبية تغاضت بدورها عن توافد متشددين من مواطنيها للجهاد في سوريا‮. ‬إنه ذاته التسلسل الذي جري مع أسامة بن لادن،‮ ‬وتنظيم القاعدة، يتكرر مرة أخري،‮ ‬وإن بأشكال مختلفة،‮ ‬عملية تخليق للوحش لتوظيفه في‮ ‬غرض معين‮.‬ وبعد انتهاء مهمته‮ (‬كما مع بن لادن‮)‬،‮ ‬أو إخفاقه فيها‮ (‬كما مع النصرة وداعش‮)‬،‮ ‬يصبح هو ذاته هدفا مطلوبا القضاء عليه،‮ ‬وإنقاذ العالم من شره‮. ‬وهو ذاته النمط التسلسلي لتعامل معظم نظم الحكم العربية مع معارضيهم،‮ ‬سواء كانوا إسلاميين أو‮ ‬غير ذلك‮.‬ فالتعذيب والممارسات اللاإنسانية داخل المعتقلات كثيرا ما أفرزت رد فعل عكسيا بتشكل تنظيمات معارضة سرية تميل إلي التطرف ورفض أي حوار مع السلطة،‮ ‬تحت أي ذريعة، واتجه بعضها إلي حمل السلاح،‮ ‬بحسبان ذلك الطريق الوحيد المتاح لمواجهة سلطة‮ ‬غاشمة مستبدة في نظر اليساريين والليبراليين،‮ ‬أو‮ "‬كافرة‮" ‬في عقيدة بعض الإسلاميين‮.‬
 
ومن الأمور الجديرة بالنظر،‮ ‬في هذا السياق، أن كثيرا من الدول تميز في تصنيف‮ "‬الأعداء‮" ‬بين درجات متفاوتة،‮ ‬وفقا لمدي الخطر المرتبط بذلك العدو أو ذاك‮. ‬مثال ذلك عدّ‮ ‬بعض الجماعات والقوي الإسلامية‮ "‬معتدلة‮"‬،‮ ‬وأخري متطرفة أو متشددة،‮ ‬دون معيار واضح ودقيق للتمييز بين هذا التطرف أو ذلك الاعتدال،‮ ‬حتي يبدو الأمر،‮ ‬في كثير من الأحيان، أن المعيار هو مدي الملاءمة والتوافق مع مصالح وسياسات هذه الدولة أو تلك‮. ‬والمثال الأبرز علي ذلك الموقف الغربي‮ -‬تحديدا الأمريكي‮- ‬من إيران‮. ‬فطهران التي كانت،‮ ‬قبل سنوات قليلة،‮ ‬أحد أركان‮ "‬محور الشر‮" ‬هي ذاتها التي يتفاوض معها الغرب حاليا حول قدراتها النووية، ويجري بينها وبين واشنطن تنسيق ضمني لمواجهة داعش في العراق،‮ ‬رغم أن سياسات إيران لم تتغير،‮ ‬بل ازدادت حدة وانكشافا، بل ودخلت في صراع علني ومفتوح حول إبقاء أو إنهاء حكم نظام بشار الأسد‮.‬
 
ومن اللافت في هذه الظاهرة المتجددة أن اختلاق العدو،‮ ‬أو بالأحري استعداء الحليف السابق، تبدؤه دائما القوي العالمية لأهداف خاصة بها،‮ ‬وتنضم إليها قوي إقليمية تعاونها وتنسق معها، وتحاول في الوقت ذاته الاستفادة من تلك العملية،‮ ‬وتجييرها لمصلحتها داخليا بتعميم وتضخيم الخطر المحتمل المرتبط بذلك العدو، وتصويره كمصدر تهديد مباشر ومصيري علي أمن واستقرار دول المنطقة،‮ ‬وبالتالي تعبئة واستنفار الجهود الداخلية،‮ ‬وإسكات أي أصوات معارضة،‮ ‬أو مطالب إصلاحية، تذرعا بذلك الخطر الخارجي،‮ ‬ورفعا لشعار‮ "‬لا صوت يعلو فوق صوت المعركة‮". ‬بل ذهبت بعض النظم العربية والإقليمية إلي مدي بعيد في ذلك، فراحت تحذر الدول الأجنبية والعالم من أن خطر‮ "‬الإرهاب‮" ‬سيرتد عليها،‮ ‬ما لم يتم تداركه واستئصاله مبكرا،‮ ‬كأن ذلك‮ "‬العدو‮" ‬قد نشأ،‮ ‬وتطور،‮ ‬واستقوي بمفرده دون رعاية،‮ ‬أو‮ - ‬علي الأقل‮ - ‬تغاضٍ‮ ‬عالمي‮. ‬في حين أن البحث عن مصادر تمويل وتسليح وتدريب تلك الجماعات سيكشف أن وجود ذلك الخطر ليس شيطانيا،‮ ‬ولا محض تطور ذاتي تلقائي،‮ ‬وأن كثيرا من الدول التي تخشي ذلك الخطر،‮ ‬وتحشد الجهود ضده حاليا، كانت‮ - ‬وربما لا تزال‮ - ‬تغض الطرف عنه،‮ ‬إن لم تكن تدعمه بصورة أو بأخري‮.‬
 
إيجاد الأعداء، عن عمد أو بغير عمد، عملية معقدة لا يظهر منها سوي قمة جبل الجليد، بينما الخفي منها أعمق كثيرا من أن يري‮. ‬غير أن تتبع حركة التاريخ،‮ ‬وقراءة الواقع، ربما يسهم،‮ ‬ولو في المستقبل، في تفسير وفهم‮ "‬صناعة‮" ‬العدو، وتفكيك أساطيرها‮.

رابط دائم: