‬تحدي الأحادية‮:‬ القوى الإقليمية الصاعدة واتجاهات تطور هيكل القيادة الدولي
14-10-2014

مالك عوني
* مدير تحرير مجلة السياسة الدولية، كاتب وباحث مصري في العلاقات الدولية، مؤسسة الأهرام
يشهد النظام الدولي في اللحظة الراهنة حالة سيولة واضحة في تفاعلاته،‮ ‬سواء التعاونية أو الصراعية‮. ‬يتجلي ذلك من جهة في العجز عن تفعيل قواعده القائمة فعليا في مواجهة العديد من الصراعات المتفاقمة حول العالم،‮ ‬والتي باتت تهدد الوحدة والسلامة الإقليمية للعديد من الدول، بل ويتضمن في بعض الحالات اعتداء علي السيادة‮.‬
 
كما يتجلي، من جهة أخري، في العجز عن بناء قواعد تعاونية توافقية في العديد من التحديات التي باتت تواجه الدول، بل والإنسانية، بشكل جماعي، مثل عدم التمكن من التوافق علي اتفاقية طويلة المدي لمواجهة الآثار السلبية للتغير المناخي،‮ ‬أو خفض الحواجز أمام التجارة الدولية،‮ ‬في إطار جولة الدوحة التي انطلقت عام‮ ‬2001،‮ ‬وأعلن عن فشلها في عام‮ ‬‭.‬2008‮ ‬وتعكس هذه السيولة أزمة أكثر عمقا في نمط القيادة أحادية القطبية التي سعت الولايات المتحدة لترسيخها،‮ ‬بعد انتهاء الحرب الباردة،‮ ‬وانهيار الاتحاد السوفيتي في عام‮ ‬‭.‬1991‮ ‬وبالنظر إلي أن فاعلية وكفاءة أي قيادة دولية يمكن قياسها بقدرة الطرف القائد‮ - ‬دولة كان أو تحالفا دوليا‮ - ‬علي أداء وظيفتي صنع القواعد العامة للنظام الدولي، وضبط مختلف التفاعلات الدولية،‮ ‬والسيطرة عليها،‮ ‬وفقا لهذه القواعد، وذلك بأعلي درجة من الفاعلية،‮ ‬وأقل قدر ممكن من التكلفة، فإن خبرة العقدين الماضيين تكشف عن فشل واضح في فاعلية القيادة الأمريكية،‮ ‬أو كفاءاتها في أداء أي من الوظيفتين‮.‬
 
وقد فشل كل من النهج متعدد الأطراف الذي حاول الرئيس الأمريكي الأسبق،‮ ‬بيل كلينتون،‮ ‬انتهاجه خلال التسعينيات، والنهج التدخلي أحادي الجانب الذي تبناه خلفه،‮ ‬جورج بوش الابن، في تحقيق المصالح الأمريكية،‮ ‬أو ضمان استقرار العلاقات الدولية في إطار قواعد نظمية عامة لا تواجه تحديات جوهرية من قبل الأطراف الدولية الأخري‮. ‬وأنتج فشل كلا الاقترابين نهجا انسحابيا نسبيا، وليس انعزاليا، بدأ يبرز في سياسة الولايات المتحدة الخارجية منذ أواخر عهد جورج بوش الابن،‮ ‬وسعي الرئيس الحالي،‮ ‬باراك أوباما،‮ ‬لتكريسه‮. ‬ويقوم هذا النهج علي تقليل الانخراط الأمريكي، العسكري خاصة، في العديد من مناطق العالم أو قضاياه لمصلحة تركيز توظيف الموارد الأمريكية في محاور إقليمية بعينها تحقق أكبر قدر من المصالح الأمريكية،‮ ‬خاصة في سياسة‮ "‬الاستدارة شرقا‮" ‬التي تبنتها هذه الإدارة باتجاه شرق وجنوب شرق آسيا‮. ‬وفي المقابل،‮ ‬تسعي الإدارة الأمريكية إلي احتواء التحديات الناجمة عن تفاقم الصراعات في مناطق أخري،‮ ‬كما هو الحال في الشرق الأوسط أو شرق أوروبا،‮ ‬أو بروز قوي إقليمية مراجعة تعارض نمط العلاقات والمصالح المرتبط بحضور القيادة الأمريكية في إقليم معين، كما في حالات روسيا،‮ ‬والصين،‮ ‬وإيران،‮ ‬بل وحتي في حالة الاحتجاجات الشعبية في أكثر من منطقة حول العالم،‮ ‬خاصة في العالم العربي حاليا التي تعد في جزء منها رفضا لقواعد النظام الاقتصادي العالمي وتبعاته‮.‬
 
وفي الواقع،‮ ‬فإن حالة السيولة الراهنة الواضحة في إدارة العلاقات الدولية ليست نتاجا لنهج الانسحاب الأمريكي الذي تبناه أوباما، بحسب ما يروج منافسوه الجمهوريون حاليا، بقدر ما هي نتاج فشل الولايات المتحدة في تأسيس نظام عالمي مستقر أحادي القطبية‮. ‬بل إنه يمكن القول إن تأسيس نمط قيادة دولية أحادي القطبية،‮ ‬بمعناه الإمبراطوري التقليدي،‮ ‬بات مستحيلا في عالم اليوم الذي باتت قضاياه أكثر تعقيدا وتنوعا وانتشارا من قدرة أي قوة دولية علي ضبطها منفردة‮. ‬ومن دون الدخول في الجدل التاريخي،‮ ‬الذي تصاعد منذ مطلع التسعينيات من القرن العشرين،‮ ‬حول ضرورة تأسيس النظام العالمي الراهن علي أسس قيمية إنسانية،‮ ‬أم علي أساس منظومات المصالح وعلاقات القوة المجردة، فقد ثبت أن النهج الإمبراطوري الأمريكي قد أثبت فشله في توفير تفاعلات نظمية مستقرة في عالم اليوم‮.‬
 
نظام تعددي أم قادة إقليميون؟‮
 
كان صعود قوي إقليمية مراجعة أحد التحديات الكبري التي واجهت القيادة الأحادية الأمريكية،‮ ‬خلال العقدين الماضيين‮.‬ إلا أن دور هذه القوي تعزز كثيرا في ظل نهج الانسحاب الذي تتبناه الإدارة الحالية، حيث وجدت تلك القوي، من جهة، مساحة كبري للحركة والتأثير في محيطها الإقليمي، فضلا عن أن الصراعات الناجمة عن حالة السيولة الدولية في بعض المناطق فرضت بروز أدوار إقليمية لمحاولة احتواء هذه الصراعات وتسويتها‮. ‬بعبارة أخري، بات هناك مجال أوسع لبروز قيادات دولية علي مستوي إقليمي، بقدر ما بات بروز هذا النمط من القيادة حاجة ملحة في مناطق عدة حول العالم‮. ‬ومع الإقرار بأن أيا من هذه القوي لا يتطلع لمنافسة القيادة الأمريكية للنظام الدولي، فضلا عن امتلاكه الموارد اللازمة لمثل هذه المنافسة أو القيادة في الأمدين القصير أو المتوسط، فإن سؤالا رئيسيا يثور حول تأثير صعود هذه القوي في هيكل القيادة الدولي‮.‬
 
ويلزم هنا الإشارة إلي أن طرح النماذج التاريخية لمحاولة استشراف نمط القيادة الدولي،‮ ‬خلال المرحلة المقبلة،‮ ‬يبدو‮ ‬غير ذي جدوي بالنظر إلي تغير طبيعة النظام الدولي ذاته‮. ‬فبحسب ما تم بيانه بشأن استحالة تكرار نموذج القيادة الأحادية الإمبراطوري، يبدو أن نموذج التعددية القطبية،‮ ‬بشكله التاريخي،‮ ‬بات‮ ‬غير ممكن هو الآخر بدوره‮. ‬ذلك أن نظام التعددية القطبية تأسس علي إمكان تقسيم العالم إلي عدة أنظمة دولية منفصلة واقعيا في قيمها، وأنماط التفاعل في إطارها‮. ‬بعبارة أخري، كان نظام التعددية القطبية أقرب ما يكون إلي تعددية النظم الدولية ذاتها، وهو الأمر الذي لم يعد متاحا في ظل نظام عالمي تجاوز في تكامله حدود الدول والجماعات ليصبح نظاما عابرا لأي أنماط من الحدود التي يمكن تخيلها،‮ ‬أو محاولة اصطناعها‮. ‬في ظل حقائق هذا النظام،‮ ‬بات التوافق علي حد أدني من القواعد العالمية العامة ضرورة لاستقرار النظام العالمي،‮ ‬وأي أنظمة فرعية مندرجة في إطاره، وإلا فإن البديل سيكون استمرار حالة السيولة الدولية الراهنة‮.‬
 
مع عدم إمكانية الانعزال منطلقا عن النظام العالمي، فإن القوي الإقليمية الصاعدة الجديدة تواجه تحديات متزايدة في إطار نظمها الإقليمية الفرعية‮. ‬ذلك أن الانتشار النسبي الأوسع للقوة الدولية بات أحد ملامح النظام الاقتصادي العالمي الراهن، ونتائج توسعه‮. ‬ومن السهولة تبين صعود العديد من القوي الدولية التي لا تزال تبحث عن أدوار توازي صعودها الاقتصادي في صنع القرارات العالمية‮. ‬وربما يكون عدم إتاحة فرصة عادلة للمشاركة أمام هذه القوي هو أحد أبرز عوامل الاضطراب في النظام العالمي الراهن‮. ‬إلا أن هذه القوي ذاتها تواجه تحديات مماثلة علي مستوي أنظمتها الإقليمية الفرعية، من قبل منافسين إقليميين آخرين، مما يكشف عن عاملين مهمين سيحكمان مدي إمكانية تطور الدور القيادي لهذه القوي الإقليمية الصاعدة، أولهما‮: ‬مدي إمكانية طرح نموذج عادل وفعال للتكامل الإقليمي يقلص حدة التنافس الإقليمي‮.‬ أما ثانيهما والأخير، فهو مدي قدرة هذه القوي الصاعدة علي تحمل مُعامل الإنهاك الناتج عن أي منافسة إقليمية قائمة أو محتملة‮. ‬ويبدو أن سياسة الاحتواء الأمريكية الراهنة تقوم علي محاولة إثارة منافسات إقليمية متصاعدة أمام القوي الإقليمية الأكثر راديكالية، كما يبدو الحال في مواجهة روسيا والصين، أو حتي من خلال استغلال حالات الانقسام في الشرق الأوسط لمنع ظهور قوة مهيمنة في إطاره‮. ‬بعباره أخري، يبدو أن النهج الأمريكي يقوم علي رفع عبء مُعامل الإنهاك أمام القوي الإقليمية الجديدة، خاصة المراجعة منها‮.‬
 
استنادا إلي الطرح السابق، يبدو أن العالم بات يواجه ثلاثة سيناريوهات رئيسية‮:‬
 
أولا‮: ‬بروز نهج أمريكي تشاركي يستهدف تأسيس حكومة عالمية تضمن حدا أدني من العدالة والتوافق في إدارة شئون نظام عالمي بات خارجا عن السيطرة بدرجة كبيرة‮. ‬إلا أنه لا يلوح في الأفق أي مؤشر واقعي علي تبني هذا الخيار الذي يبدو أنه بدوره سيكون مرتفع التكلفة بالنسبة لمراكز القوة والسلطة المتحكمة في مؤسسات صنع القرار الأمريكية والغربية‮.‬
 
ثانيا‮: ‬بروز تحالفات جديدة بين عدد من القوي المراجعة، لا تستهدف مجرد تحدي السياسات الأمريكية في منطقة من المناطق، ولكن محاولة صنع قواعد جديدة للنظام العالمي تتحدي القواعد الأمريكية، خاصة الاقتصادية منها،‮ ‬وما يتعلق بقواعد التدخل الدولي‮. ‬وقد بدأ بعض إرهاصات علي هذا التوجه،‮ ‬خاصة فيما يتعلق بالتقارب الروسي-الصيني، أو نزعات استقلال في إدارة شئون أمريكا الجنوبية عن هيمنة الجار الأمريكي القوي‮. ‬مثل هذا السيناريو لا يتوقع تحققه في المدي القريب أو المتوسط، ولكن لا يمكن استبعاد تحققه،‮ ‬إذا ما استمر مثل هذا التوجه لدي عدد من القوي الفاعلة في النظام العالمي حاليا‮. ‬وربما يكون الاستغناء عن الدولار في المعاملات التجارية بين بعض الدول،‮ ‬أو في إطار تكتلات إقليمية صاعدة،‮ ‬خطوة مهمة في هذا الصدد،‮ ‬حال تحققت‮.‬
 
ثالثا وأخيرا‮: ‬استمرار حالة السيولة الدولية الراهنة لفترة ممتدة، في ظل عجز القيادة الأمريكي الواضح، وغياب الأسس التي تتيح تحقق أي من السيناريوهين السابقين في أمد قريب‮. ‬ويلزم هنا الإشارة إلي أنه حتي تحول الولايات المتحدة عن نهجها الانسحابي،‮ ‬بحسب ما يطالب به الجمهوريون، بل وقطاعات واسعة بين الديمقراطيين، لن يضمن بأي حال استعادة قدرة الضبط والسيطرة علي التفاعلات الدولية، بقدر ما سيمثل مزيدا من الإنهاك للقوة الأمريكية وتآكلها‮.‬
 
في مواجهة هذه التحديات، يحاول هذا الملحق قراءة مدي ما يتاح لدي بعض القوي الدولية الصاعدة أو التقليدية من قدرة علي ممارسة دور قيادي في محيطها الإقليمي، ومدي ما يتاح لبعض الأنظمة الإقليمية، الشرق الأوسط تحديدا، من إمكانية لبروز نمط قيادة إقليمي لمواجهة الفوضي المتصاعدة في المنطقة‮. ‬وتعني الأوراق الواردة في الملحق بتبين أي العاملين،‮ ‬التكامل أو المنافسة،‮ ‬سيكون الحاكم في كل حالة من حالات الدراسة، وتأثير العلاقة مع القطب الأمريكي في مستقبل بروز نموذج فاعل للقائد الإقليمي‮.
 
 

رابط دائم: