هل تحتاج مصر إلى تدخل عسكري في ليبيا؟
12-11-2014

د. خالد حنفي علي
* باحث في الشئون الإفريقية

تشكل الحالة الليبية المضطربة، منذ سقوط نظام القذافي، قلقا أمنيا متصاعدا لمصر، لاسيما في ضوء بزوغ مجموعة من التهديدات ذات الطابع الممتد والمتداخل على جانبي الحدود، مثل وجود بؤر "جهادية" مسلحة في شرق ليبيا، فضلا عن تصاعد معدلات الجريمة المنظمة (تهريب سلاح، هجرة غير شرعية، غيرها)، ونشوء نزعات انفصالية في الشرق الليبي.

ويمكن القول إن ثمة ارتباكا عاما في إدارة مصر للتهديدات القادمة من الجوار الليبي، وإن كان ذلك لا يخص الملف الليبي وحده، بل ملفات السياسة الخارجية المصرية إجمالا في مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير. فلم تكن القاهرة "مرتاحة" للتدخل الأجنبي في ليبيا لدعم المعارضة المسلحة في ثورتها ضد القذافي، لإدراكها الاستراتيجي لعواقبه الوخيمة علي مجمل الإقليم، مما أخر اعتراف المجلس العسكري المصري آنذاك بالثورة الليبية. جاء صعود الإخوان المسلمين في مرحلة لاحقة لحكم مصر، إثر الانتخابات الرئاسية في عام 2012، ثم سقوطهم لاحقا في 30 يونيو، ليحدث جفوة جديدة في العلاقات، وتباينا في المسارات الانتقالية في البلدين، لاسيما أن سيناريو إٍسقاط الإسلاميين بات ساحة للتجاذبات في المشهد الداخلي الليبي.

سياقات حاكمة

ما يجعل التعاطي المصري مع التهديدات الليبية، سواء القائمة أو المحتملة، أكثر تعقيدا وحساسية، هو وجود سياقات حاكمة لا يمكن لصانع القرار المصري تجاهلها. فبرغم فترات المد والجذر في العلاقات المصرية- الليبية، بسبب الخلافات بين الأنظمة السياسية، فإن البلدين يشكلان عمقا استراتيجيا متبادلا على أكثر من مستوى. فجغرافياً، يتماسان في حدود صحراوية طويلة تصل إلى 1049كم.

واجتماعياً، هنالك صلات قبلية عابرة للحدود بين الشرق الليبي خصوصا، وقبائل ممتدة في صعيد مصر، وبعض محافظات الدلتا. واقتصادياً، فإن العمالة المصرية هي الأكبر حجما في ليبيا، حيث تشكل ما يقرب من 70٪ من العمالة الوافدة في ليبيا. ويتفاوت حجم العمالة المصرية في ليبيا ما بين مليون ومليون ونصف مليون عامل، بسبب غياب تقديرات رسمية دقيقة، لاسيما في ظل تسرب عمالة بدون عقود رسمية. كما أن الاستثمارات الليبية شكلت في مرحلة ما قبل الثورة الليبية إحدى دعائم الاقتصاد المصري.

من جانب آخر، فإن طبيعة المعضلة الأمنية الليبية تغيرت بعد إسقاط القذافي، إذ إننا إزاء بلد لا يعرف سيطرة لأي قوة أمنية مركزية، منذ ثورة السابع عشر من فبراير، خاصة في ظل تعثر بناء مؤسسات الأمن، وانتشار الميليشيات المسلحة على أسس قبلية، ودينية، ومناطقية. وبالتالي، فما تطرحه تلك الحالة من تهديدات يندرج تحت نمط التهديدات غير التقليدية (مثل الإرهاب، والجريمة المنظمة، وهشاشة الدولة)، والتي تشكل الفواعل من غير الدولة مصدرها الأساسي، مما جعل التهديدات الليبية تكتسب طابعا انتشاريا في الإقليم.

يضاف إلى ما سبق طبيعة السياقات الإقليمية والدولية الراهنة في المنطقة. فرغم أن القوى الإقليمية، خاصة السعودية، باتت أكثر تأثيرا من القوى الدولية في بعض قضايا المنطقة بعد الثورات، كما ظهر في حالات مثل، مصر، واليمن، والبحرين، فإن تأثير العامل الدولي لا يزال يكتسب خصوصية في الحالة الليبية، خاصة أنه لا يمكن إغفال مصالح القوى الغربية الجيوسياسية والنفطية في هذا البلد، والتي مثلت دافعا رئيسيا للتدخل العسكري لقوات الناتو لدعم المعارضة ضد القذافي، حتى وإن بدت هنالك "لا مبالاة دولية" تجاه الوضع الليبي، بسبب ضعف إسهام القوى الغربية في استقرار ليبيا بعد الثورة.

حسابات مصرية

في إطار هذه السياقات الحاكمة، فإن الحسابات المصرية تجاه الجوار الليبي تتركز على أمرين، أولهما: تقليل تأثيرات التفاعلات الداخلية الليبية، خاصة في الشرق الذي يمثل ظهيرا استراتيجيا لمصر، عبر إبطال تأثير المهددات في الشرق الليبي في الداخل المصري الذي يواجه منذ سقوط حكم جماعة الإخوان تناميا لظاهرة الإرهاب، ونمطا من الصراعات الصفرية بين الدولة وهذه الجماعة.

الأمر الآخر يتعلق بالحفاظ على منظومة المصالح المصرية مع ليبيا، وبالتالي فمن مصلحة مصر استقرار الوضع الليبي بما يضمن الحفاظ علي العمالة المصرية التي تنتمي لشرائح فقيرة بالأساس، وإعادة تنشيط الاستثمارات الليبية في مصر لدعم عملية خروج الاقتصاد المصري من مأزقه.

وعلى ذلك، فمن المهم التفرقة بين أنماط متعددة للتهديدات الليبية على الأمن القومي المصري، فثمة تهديدات ذات طبيعة عالية الاشتباك الأمني، مثل مسألة تحول شرق ليبيا إلى حاضنة لوجيستية إقليمية للجماعات "الجهادية"، مما يشكل خطرا على الأمن المصري الذي يدخل في الوقت نفسه في مواجهة مع جماعات نظيرة لها في الداخل.
بينما هنالك تهديدات ذات طبيعة متوسطة، وتنصرف إلى استهداف المصالح المصرية داخل ليبيا، وهو أمر على أهميته يظل داخل الحدود الليبية، وتأثيراته ذات طبيعة غير مباشرة، لاسيما فيما يتعلق بضغوطات عودة العمالة، وتراجع معدلات التبادل التجاري والاستثماري على الاقتصاد المصري.

يضاف إلى ذلك أن هناك تهديدات طور الاحتمال، وتتعلق ببزوغ نيات انفصالية في شرق ليبيا، وهو أمر تكتنفه صعوبات جمة، خاصة في ظل وجود خلافات في الشرق علي مسألة الانفصال، أو اللامركزية الفيدرالية، علاوة على أن الخيار الأخير لا يزال هو الغالب. كما أن استقلال برقة، علي وجه التحديد، سيحتاج إلى توازنات دولية وإقليمية، تضمن تدفق النفط، خاصة أنها تحوز غالبيته، وتمنع تحوله إلى كيان جهادي مسلح.

وإزاء طبيعة هذه التهديدات، فإن ما يطرح حول احتمال تدخل الجيش المصري في شرق ليبيا ينطوي علي تعقيدات تتعلق بالتنسيق الإقليمي والدولي، فضلا عن مستوى حدة التهديد، بمعني هل هنالك من المعلومات المؤكدة ما يشير إلى تخطيط هذه الجماعات لاقتحام الحدود المصرية، مما يستدعي التدخل العسكري الذي سيكون مكلفا، حال ما إذا كان ذا طابع انفرادي؟. فالجيش المصري، ساعتها، سيواجه حربا غير متماثلة مع جماعات مسلحة، قد تكون أعقد وأكثر تكلفة من مواجهات سيناء نفسها، كما قد يمثل ذلك توريطا للنظام الحالي في مصر، ويزيد من تعقد المشكلات الأمنية والاقتصادية التي يواجهها، وهو الأمر الذي دفع وزير الخارجية المصري، سامح شكري، في أغسطس 2014 لنفي أي نية مصرية للتدخل عسكريا في ليبيا .

ولا يمكن هنا الاستسلام لما يطرحه البعض من مقارنة بين هذا الخيار وسابقة التدخل العسكري المحدود لنظام السادات في شرق ليبيا، ردا علي محاولة القذافي اقتحام الحدود في سبعينيات القرن الماضي، فالبيئتان الإقليمية والدولية تختلفان بشدة. بيد أن ذلك لا يمنع من القول إن اقتحام الحدود هو بمنزلة "خط أحمر" يجعل مصر لا تتردد في اللجوء في المواجهة العسكري.

خياران أساسيان

ثمة خياران أساسيان لمصر في التعامل مع التهديدات الليبية، ويمكن تفصيلها على النحو الآتى:

1- خيار "العزل والتأمين"، وهو يشير إلى سد منافذ تسرب التهديدات القادمة في ليبيا، وتأمين المناطق الطرفية، عبر زيادة القوات العسكرية، خاصة من جهة الحدود الغربية، لاسيما في ضوء التراجع الميداني لقوات اللواء خليفة حفتر في شهر يوليو 2014 أمام الميليشيات الجهادية في الشرق، المدعومة بميليشيا درع ليبيا. وفي هذا السياق، هنالك طروحات، مثل فرض مناطق أمنية عازلة على الحدود، خاصة أنها تلعب دورا في إبطال مفعول التأثيرات العابرة للحدود القادمة من شرق ليبيا.

غير أن ذلك الخيار قد يكون صالحا لحدود ما بين دول تنخفض بينها التعاملات التجارية والاجتماعية، وهو أمر غير متحقق في حالة الحدود المصرية - الليبية.  فلم يمنع عدم استقرار ليبيا من استمرار حركة العمالة والتجارة بين البلدين، حتى وإن بمستوى منخفض، كما أن ثمة تواصلات قبلية، واجتماعية، بل وثقافية عميقة، بين شرق ليبيا وغرب مصر. وهنا، يمكن الإشارة إلى أن ثمة تعديلا لتلك الطروحات يتعلق بمناطق أمنية عازلة محددة بسقف زمني، ريثما تهدأ الأمور في كل من الداخل المصري والليبي.

ويترافق مع ذلك ما يسمى "التأمين المتعدد للنطاق الحدودي" في غرب مصر، عبر إجراءات مزدوجة، أي تشديد الأمن على الحدود، ودعم التواصل السياسي والتنموي مع قبائل مناطق الحدود الغربية المصرية. ولعل زيادة اهتمام المؤسسة العسكرية في مصر بمرسى مطروح، والتواصل مع القبائل لتسليم سلاحها يصبان في محاولات فك الارتباط بين سكان الحدود، وشبكات المصالح القائمة على التهريب، وجماعات العنف في شرق ليبيا. وينظر لهذا الطرح على أنه الأكثر رجوحا، نظرا للطبيعة غير المستقرة في الداخل المصري. كما أن التهديدات لم تصل إلى مرحلة اقتحام الحدود، وهو يضمن تخفيضا للتوتر مع ليبيا، وحفاظا بقدر ما على المصالح في الجوار الليبي.

2- خيار التعاون الإقليمي، وهو أحد الخيارات البارزة أخيرا، خاصة بعد اجتماع دول الجوار الليبي في تونس في يوليو 2014 لبحث مسألة أمن الحدود، وانتهائها بتشكيل لجنتين، أمنية تقودها الجزائر، وسياسية تقودها مصر. ومن الممكن أن يكفل هذا الخيار استعادة مصر لتأثيراتها السياسية في التوازنات الداخلية في ليبيا لمصلحة استقرارها، عبر مساندة الدولة، وصياغة علاقات وتحالفات سياسية في اتجاه دعم بناء أجهزة أمنية وطنية ليبية في مواجهة جماعات العنف.

غير أن هذا الدور ينبغي أن يرتبط بحل مأزق رموز النظام الليبي السابق في القاهرة، وصياغة رؤية واضحة للخارجية المصرية تجاه ليبيا، تنطلق من دعم مسألة بناء الدولة ومؤسساتها، وتخفيض حجم التوترات لرفع مستوى التعاون لمنع تسرب التهديدات. وتحتاج مصر أيضا لتفعيل هذا الخيار إلى تجاوز خلافاتها السياسية، خاصة مع تونس بعد 30 يونيو، لاسيما أن الأحداث الأخيرة لتدفق العمالة المصرية على الحدود التونسية أثبتت أهمية تقليص حدود التوتر بين البلدين.

يظل أن التعاطي المصري مع التهديدات الليبية ينبغي أن ينطلق من الموازنة بين عدة أمور، أولها المصالح داخل هذا البلد، ثانيها طبيعة التهديدات، ونطاق انتشارها، وآخرها إعادة رسم السياسة المصرية بشكل عام تجاه دول الجوار، بما يضمن تأثيرا مصريا في التفاعلات الداخلية لهذه الدول، قبل التفكير في اللجوء إلى التدخل العسكري.


رابط دائم: