هل يدفع نتنياهو ثمن الحسابات الخاطئة في غزة ؟
7-8-2014

د. نادية سعد الدين
* صحفية وباحثة من الأردن
يواجه الاحتلال الإسرائيلي، من الآن فصاعداً، سوء تقدير فرض حرب جديدة ضد قطاع غزة، من دون امتلاك استراتيجية محددة للخروج من "مأزق" فشل تحقيق أهداف مرسومة سلفاً، وضعف تقدير وزن المقاومة الفلسطينية، وتنامي حالة إرباك في أوساط مؤسستيه السياسية والعسكرية من نواتج تصعيد أحدث جدلاً حاداً سيجد تفاعلاته في الأيام المقبلة. وزاد من عمق "المأزق" عملية أسرّ جندي الاحتلال شاؤول آرون، التي تبنتها "كتائب القسّام"، الجناح العسكري لحركة "حماس"، فضلاً عن منسوب الخسائر البشرية والمادية التي تكبدها الاحتلال الإسرائيلي.
 
وإذا كانت تلك المعطيات قد أذكتّ نقاشاً إسرائيلياً حول جدوى حرب لم تحقق تقدماً، ومصير اجتياح بري تردد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في مقاربته قبل الذهاب إليه بدفع من اليمين المتطرف، فإنها لن تغيب عن مسار العدوان ضدّ غزة، إما لجهة إقدام رئيس الحكومة بتصدير أزمته الداخلية نحو مزيد من التصعيد لتحقيق إنجاز "ما" يقدمه للداخل الإسرائيلي مواراة لفشله، وإما بزعم إتمام المهمة لخلق واقع ردعي، والتفاوض حول وقف إطلاق النار. وفي كلا الحالتين؛ سيدفع نتنياهو ثمن التورط في ساحة غزة تحت عنوان المزايدات الإسرائيلية التي قد تنال من مستقبله السياسي أيضاً.
 
حسابات إسرائيلية
 
بعد ثلاثة أسابيع تقريباً على حادثة "اختفاء" المستوطنين الثلاثة، في 12 يونيو الماضي، ومن ثم العثور على جثثهم في الضفة الغربية المحتلة، شنّ الاحتلال غارة ضدّ قطاع غزة قبيل اتخاذ قرار ضربه، في يوليو الجاري، عقب جلسات متوالية للمجلس الوزاري الأمني الإسرائيلي المصغر "الكابينت"، شهدت تبايناً حٌسم لصالح الأخذ بناصيته تحت وطأة مزايدات داخلية بين أحزاب وقوى تتنافس، بمختلف توجهاتها اليمينية واليسارية والدينية، حول منسوب العداء للفلسطينيين العرب.
 وجاء القفز الإسرائيلي على حادثة "المخطوفين" بقرار سياسي، إُتخذ على وقع اشتداد العزلة الدولية نتيجة المواقف المتعنتة من المفاوضات والأنشطة الاستيطانية، وذلك لتنفيذ أهداف معلنة تتمثل في وقف إطلاق الصواريخ من غزة، وتدمير الأنفاق، وضرب البنية التحتية لـ"حماس"، واغتيال قادتها. إلا أن مرامي الاحتلال تتجاوز ظواهر مجترة من مشاهد عمليات عسكرية سابقة صوب مخطط كسّر القضاء على المقاومة، وتخريب المصالحة، وتعطيل عمل حكومة الوفاق الوطني الفلسطيني، التي تشكلت بعد مخاض عسير في 2 يونيو الماضي.
 
وتخشى إسرائيل من تحقيق وحدة فلسطينية تؤدي إلى عرقلة مشروعها في الضفة الغربية والتي يريدها الاحتلال مقسّمة الأوصال بين "دولة" زهاء 631 ألف مستوطن اليوم، يسعى إلى زيادتهم للمليون خلال الأعوام القليلة القادمة، ضمن نحو  62% من مساحة الضفة في المناطق المسّماة "ج" والغنيّة بالإمكانيات الاستثمارية والاقتصادية والزراعية، إلى جانب حكم ذاتي فلسطيني، باسم "سلطة" أو حتى "دولة"، ضمن الأجزاء المقطعة الخارجة عن يدّ الاحتلال، تُعني بالشؤون المدنية والحياتية للسكان خلا السيادة والأمن الموكولتين للاحتلال، مقابل غزة معزولة بدولة ونظام مستقلين، وذلك غداة قضمّ المساحة المخصصة لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود العام 1967، وإخراج القدس من مطلب التقسيم.
 وقد أدخل الاحتلال في حساب توقيت حربه ضدّ غزة  تفاعلات البيئة العربية الإقليمية والدولية، إزاء انشغال دول المنطقة بقضاياها الداخلية، مقابل الموقف الأمريكي المناصر لما يزعمه "دفاع الاحتلال الإسرائيلي عن نفسه أمام صواريخ المقاومة"، والمواقف الأوروبية المتباينة.
 
مسارات معاكسة
 
بيد أن مسار عدوان غزة، حتى اللحظة، كشف عن معاكسة مجريات الأحداث لأهداف الاحتلال وتقاريره الأمنية والاستخبارية. فقد فاجأ رد المقاومة توقعات المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية بصواريخ مصنعة محلياً وأخرى عمدت إلى تخزينها خلال عامي 2011 و2013، استهدفت قلب الكيان المحتل وجعلت مدنه تحت مرمى مداها. هذا المعطى غير المحسوب سلفاً، أوجدّ خطاباً في الكيان الإسرائيلي مغايراً لما تقاطر، ابتداءً، داخله، حول حسم المعركة بلغة الانتصار من الضربة الأولى.
 
 فقد ارتفعت نبرة الشك الداخلي في مصداقية النخبة السياسية والعسكرية الإسرائيلية إزاء تناقض إفادتها عن سير المعركة مع حيثياتها، في ظل مواصلة إطلاق الصواريخ بعيدة المدى على مواقع مركزية في الكيان المحتل، وإيقاع إصابات بين صفوف الجنود الإسرائيليين، وعدم قدرة منظومة القبة الحديدية، ذات الصناعة الأمريكية والكلفة المادية الباهظة، على إيقافها، والإخفاق في تصفية قياديين من حماس.
 
 تزامن ذلك مع تململ شريحة عريضة من الإسرائيليين من العملية نفسها، وارتفاع نبرة مطالبتهم بوقفها، غداة اصطفافهم إلى جانبها، وذلك بعدما أصابت صواريخ المقاومة عقر مستوطناتهم. مخاطرة غير محسوبة
 
ذهبت حالة عدم اليقين من مآل حرب مفتوحة الاحتمالات إلى ارتفاع أصوات سياسية وعسكرية إسرائيلية تطالب صانع القرار برفض الانتقال إلى خيار الحرب البرية إزاء حساب احتمالات رد فعل المقاومة، والسجل الإسرائيلي المليء بإخفاقات عملياته البرية، في ظل تقديرات أمنية بامتلاك قوى المقاومة الفلسطينية قدرات دفاعية قد تلحق خسائر كبيرة بقوات الاحتلال البرية، فضلاً عن تأليب الرأي العام العالمي ضد الاحتلال من ارتفاع عدد الضحايا المدنيين في غزة.
 
 وقاد فشل تحقيق الأهداف "المعلنة" من العملية العسكرية ضدّ قطاع غزة، بعد توسيع نطاقها، إلى قرار "الكابينت" بشنّ هجوم بريّ، في 17 يوليو الحالي، بعد عشرة أيام من قصف بري وجوي وبحري استهدف القطاع الفلسطيني المحاصر. ورغم اتفاق أحزاب اليمين المتطرف حول خيار العملية البريّة للقضاء على المقاومة وإحياء مشروع الكيان الغزيّ المنفصل عن الضفة الغربية، مقابل دعوة "إسرائيل بيتنا"، ورئيسه وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، إلى "إعادة احتلال غزة" .
 
بيد أن تمرير القرار لم يكن سهلاً، لاسيما في ظل تكبّد الاحتلال خسائر في صفوف جنوده عند التوغل عميقاً في القطاع، وفق تحذير رئيس الأركان الإسرائيلي بيني غانتر، وغياب استراتيجية واضحة للانسحاب قد تجرّ معضلة المراوحة بين التقدم عميقاً داخل غزة والمخاطرة بسقوط عدد كبير من القتلى، وبين الانسحاب إلى الخلف ومنح "حماس" نصراً معتبراً.
 
غير أن نتنياهو، الذي يواجه انتقادات داخلية حادة إزاء سياسته في إدارة المعركة، تجاوز محاذير القرار صوبّ نفاذه، بهدف القطع على نعوت فشله وتغليب كفة وضعه الانتخابي في انتخابات مبكرة تطالب المعارضة بإجرائها، بما يمنحه الفرصة الكافية لتعميق الخلل القائم في الأراضي المحتلة لمصلحة استكمال المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية وتقويض "حل الدولتين" وفرض الوقائع المستحدثة من الحرب على طاولة مفاوضات قد يتم استئنافها بعد حين، وضربّ الوحدة الوطنية التي لاح أفقها بقرار تشكيل حكومة الوفاق الوطني، ما يعني تكريس تجزئة غزة عن الضفة، وتسهيل الإجهاز على الأخيرة.
 
مأزق الخروج 
 
بيدّ أن العملية البرية لم تكن يسيرة بالدرجة التي اعتقدها نتنياهو ومناصريه، فيما تسببت عملية أسر الجندي آرون في إمكانية تكرار سيناريو أزمة أسر جندي الاحتلال جلعاد شاليط، في عام 2006، الذي لم يطلق سراحه إلا في عام 2011 بعد صفقة تبادل مع أسرى فلسطينيين في سجون الاحتلال، والتي تمت عبر الوسيط المصري.
 
أشعل ذلك فتيل جدل حادّ بين أوساط النخبة السياسية والعسكرية الإسرائيلية حول دواعي الزجّ بعملية برية لا يعرف كيفية الخروج منها، وجدوى الأهداف المتوخاة من وراءها نظير ارتفاع تكلفتها البشرية والمادية، فيما دعت أطراف داخلية إلى تشكيل لجنة تحقيق في أسباب فشل الحرب عسكرياً وإستخبارياً، وفي مصداقية المؤسستين العسكرية والسياسية بشأن الكشف عن عدد القتلى في صفوف قوات الاحتلال.
 
ولا شك أن ذلك كله سيجدّ حضوره في المستقبل السياسي لنتنياهو الذي تعرض لانتقاد من الليكود نفسه، ولغط من معقل غلاة التطرف عند إقالته نائب وزير الجيش داني دانون، الذي يعدّ من أقطاب اليمين في الحكومة، بسبب انتقاد الأخير لسياساته وطريقة تعاطيه مع سير الحرب ضدّ غزة، بينما قد يضع مصير الحكومة الإسرائيلية على المحك إزاء مطالب أخذت تتعالى مؤخراً لإجراء انتخابات مبكرّة.
 
وفي المحصلة؛ لن تغيب حيثيات مسار العدوان الإسرائيلي ضدّ قطاع غزة عن نواتجه، فمعركة غزة ستكون خاسرة للاحتلال، وفق طريقة فرضها وقائمة الأهداف التي وضعها لنفسه، بينما ستضع مصير الحكومة الإسرائيلية في مرحلة لاحقة على محكّ انتخابات مبكرّة.

رابط دائم: