‬تكيف أم فوضى؟‮:| اختبار‮ "‬عدم الاستقرار‮" ‬في مراحل ما بعد الثورات
17-7-2014

د. خالد حنفي علي
* باحث في الشئون الإفريقية

تشكل ظاهرة‮ "‬عدم الاستقرار‮"‬ أحد أبرز تجليات مرحلة ما بعد الثورات العربية، إذ بدا أن الأبنية النظمية، سواء الداخلية أو الإقليمية في المنطقة،‮ ‬تتعرض لـ‮ "‬اختبار تاريخي حاد‮"‬، حول مدى قدرتها علي مواجهة تلك الظاهرة التي تصاعدت مؤشراتها ومظاهرها، ما بين اضطرابات سياسية، وعنف متزايد، وأزمات أمنية واقتصادية، وانتشار للجماعات الدينية المسلحة، وغيرها‮.‬

ولم تستطع المسارات الانتقالية بعد الثورات طرح مقاربات ناجعة وتوافقية لمواجهة عدم الاستقرار، لاسيما مع تعمق الاستقطابات السياسية والأيديولوجية، وبروز محاور متباينة المصالح،‮ ‬سواء كان داخليا أو إقليميا، وهو ما خلق إجمالا حالة يمكن تسميتها بـ‮ "‬الإنهاك المتبادل‮" ‬للدولة والمجتمع في المنطقة، بما أصبحت معه قضية‮ "‬استعادة الاستقرار‮" ‬أملا قد يعلو لدي البعض علي تكريس مجال عام للحريات التي أطلقتها الثورات‮.‬

لقد دفع المشهد المضطرب للمنطقة البعض إلى إعادة النظر في التصورات الأولي بأن الثورات علي الأنظمة الاستبدادية ستنقل المجتمعات العربية إلى حالة من‮ "‬الاستقرار المستدام‮"‬، بما تتضمنه من أنظمة ديمقراطية،‮ ‬وازدهار اقتصادي، دون النظر إلى أن هناك‮ "‬عوامل وسيطة‮"‬ ترتبط بالخصوصيات المجتمعية، والانتماءات الأولية الدينية،‮ ‬والقبلية،‮ ‬والهوياتية وغيرها، قد تدفع المسار الانتقالي إلى الفوضى واللااستقرار، بل وإنتاج مصادر تهديد عالية الخطورة، تتعلق بمدي بقاء هذه الدول من عدمه، كما يظهر نموذجا ليبيا وسوريا‮.‬

ولا تنفصل حالة المنطقة العربية عن البيئة الدولية التي هي الأخرى تشهد تغيرات في اتجاه عدم الاستقرار، حيث تسعي قوي دولية لتعديل معادلة القوة في النظام العالمي، كما برز في الصراع الروسي‮ - ‬الغربي علي أوكرانيا وسوريا‮. ‬ومن هنا، تكمن أهمية‮ "‬النقاش التنظيري‮" ‬لهذا العدد من ملحق‮ "‬اتجاهات نظرية‮" ‬حول‮ "‬عدم الاستقرار في مراحل ما بعد التغيير‮"‬، إذ يسعي لتلمس المفسرات النظرية لحالة اللااستقرار في مستوياته الداخلية والخارجية، ومدي ما أحدثته التغيرات المتسارعة في العالم من تداعيات علي المقاربات النظرية‮.‬

وبشكل عام، يمكن الإشارة إلى أن خبرة الثورات العربية أفرزت مجموعة من القضايا الأساسية المرتبطة بظاهرة عدم الاستقرار، بعضها تبلور، والأخرى لا تزال قيد التشكل‮.‬ ومن أبرزها‮:‬

أولا‮- ‬التشابك بين عدم الاستقرار الداخلي والخارج‮.‬ فمفهوم عدم الاستقرار، في أكثر التعريفات الشائعة، داخل النظم السياسية، هو التغيير المتتابع في عناصر السلطة من شكل معين إلى نقيضه، ويتسع ليشمل تصاعد العنف السياسي،‮ ‬والاضطرابات، وحروبا أهلية، وحركات انفصالية، وأزمات اقتصادية حادة، وغيرها‮. ‬وباتت تلك المظاهر متشابكة بالبيئتين الإقليمية والدولية، لاسيما أن مفاعيل العولمة، وتآكل قدرات الدول، وبروز فواعل عابرة للحدود، خلفت‮ "‬بيئات متلاقحة‮" ‬تملك القدرة علي نقل تأثيرات وتداعيات عدم الاستقرار، سواء بشكل مقصود أو‮ ‬غير مقصود بين الأبنية النظمية في العالم‮.‬

فمأزق عدم الاستقرار الداخلي في المنطقة العربية انعكس في صياغة بيئة إقليمية مضطربة تتنازعها المحاور المتصارعة‮. ‬فالصراع الداخلي بين الدولة المصرية والإخوان،‮ ‬بعد ثورة‮ ‬30‮ ‬يونيو،‮ ‬صاغ‮ ‬محورا إقليميا صراعيا بين مصر والسعودية، في مواجهة المحور التركي‮ - ‬القطري الداعم للصعود الإسلامي في دول الثورات‮. ‬وبدورها، فإن الأزمة السورية شكلت هي الأخري نمطا متداخلا لعدم الاستقرار، إذ تأثرت مجريات الصراع المسلح بين نظام الأسد والمعارضة بتوازنات القوة في النظامين الإقليمي والدولي‮.‬

ولعل امتداد عدم الاستقرار الداخلي إلى المحيطين الإقليمي والدولي يعيد الأهمية لطروحات‮ "‬باري بوزان‮"‬، أحد مجددي النظرية الواقعية، الذي أصل لما يسمي بـ‮ "‬الفوضي الناشئة‮"‬، عندما رأي أن تمزق الدول عبر الصراعات الداخلية يدفع إلى معضلة وأمن استقرار ممتدة، خاصة أن الأطراف المتصارعة تسعي لاجتذاب مؤيدين لها من خارج الدول، وهو ما يؤدي إلى حالة عدم استقرار إقليمي وعالمي‮)‬1‮(.‬

ثانيا‮- ‬حدود التكيف مع عدم الاستقرار، ‮ ‬إذ إن ثمة اتجاهات نظرية تري ضرورة تغيير المقاربات التقليدية لعدم الاستقرار، عبر‮ "‬منظور التكيف‮" ‬مع الظاهرة نفسها، أي احتوائها والتقليل من آثارها،‮ ‬إلى الحد الذي يسير حركة الدولة والمجتمع، لاسيما أن مقاربة الحل الجذري لعدم الاستقرار أصبحت بمنزلة الأسطورة، كما يشير د‮. ‬محمد عبدالسلام‮ ( 2) ، لأن العالم يتغير بأسرع مما ننظر إليه، كما أن أزماته لا تتوقف، فضلا عن زيادة السخط الاجتماعي في العالم،‮ ‬وتصاعد العنف، في وقت لم تعد فيه الأنظمة الديمقراطية في حد ذاتها علاجا لهذه الأمور‮.‬

وما يعزز من أهمية هذا المنظور،‮ ‬في مراحل ما بعد التغيير، أنه رغم حالة عدم الاستقرار في دول الثورات، فإنها ليست كلها بمستوي الحدة والاتساع الذي تصوره أحيانا‮ "‬معركة الصورة‮ " ‬علي الفضائيات العربية والأجنبية‮. ‬علي أن هذا التصور‮ -‬الذي يدعو لنظرة مركبة وتكيفية مع اللااستقرار‮- ‬يحتاج من جانب آخر إلى النظر لمدي قدرة الأبنية الداخلية والخارجية علي ممارسة سياسات التكيف نفسها‮.‬

فالتكيف،‮ ‬بمعناه العام، يشير إلى قدرة الإنسان أو النظام الذي يوجد في بيئته علي البقاء في ظل أقسي الظروف الأمنية،‮ ‬والسياسية،‮ ‬والاجتماعية‮.‬ وقد يكون هذا التكيف سلبيا، أي رضوخا لحالة عدم الاستقرار، وقد يكون إيجابيا، بمعني محاولة تقليص آثاره،‮ ‬وبناء مساحات أكثر استقرارا تجتذب‮ ‬غيرها من القطاعات‮ ‬غير المستقرة‮. ‬وترتبط تلك القدرة علي التكيف بأمرين،‮ ‬أولاهما‮:‬ مدي استيعاب معطيات عدم الاستقرار في البيئة الجديدة‮.‬ أما الأمر الآخر، فيتعلق بقدرة المجتمع علي تفسير استيعابه لهذه البيئة،‮ ‬عبر شكل سلوك وسياسات مقبولة في نطاق المجتمع الجديد(3).‬

إذن، فحدود التكيف مع عدم الاستقرار، وتخفيض حدته،‮ ‬ترتبط بعوامل عدة تتعلق ببنية الدولة،‮ ‬والطبيعة القيمية داخل المجتمع والنظام الإقليمي بشكل عام‮.‬ وعلي ذلك، فقد تبدو حدود التكيف ممكنة مثلا في الحالة المصرية أكثر من نظيراتها الليبية واليمنية والسورية‮.‬ إذ إن الميراث المؤسسي للدولة،‮ ‬وطبيعة القيم التكيفية للمجتمع المصري‮ ‬يكادان‮ ‬يشكلان‮ "‬بيئة مساعدة‮" ‬لعملية استعادة الاستقرار بشكله النسبي،‮ ‬وليس المطلق، بينما أسهم ميراث اللادولة الذي خلفه القذافي، وتشظي السلطة بين فواعل أمنية،‮ ‬وميليشياوية،‮ ‬ومناطقية بعد الثورة في خلق‮ "‬بيئة معرقلة‮" ‬للتكيف نفسه‮. ‬بيد أنه من المهم الانتباه إلى التكيف مع اللااستقرار بشكل رضوخي سلبي،‮ ‬وليس إيجابيا،‮ ‬قد يشكل مدخلا لتغييرات أكثر حدة قد تسهم في تصاعد مستويات عدم الاستقرار‮.‬

ثالثا‮- ‬الفوضى واللانظام في الإقليم والعالم،‮ ‬ إذ إن المفهوم التقليدي للنظام،‮ ‬بكل ما يحمله من عناصر قيمية وقواعد منظمة للتفاعلات والتوزانات بين القوي،‮ ‬سواء في الإقليم أو العالم،‮ ‬بات‮ ‬يحتاج إلى مراجعة نظرية، لاسيما أن ثمة مظاهر تشير لتقدم حالتي اللانظام والفوضى علي النظام نفسه في العلاقات الإقليمية والدولية منذ انتهاء الحرب الباردة، وبالتالي ارتفاع وتيرة عدم الاستقرار‮.‬

ولعل بعض التوجهات النظرية روجت،‮ ‬في مرحلة التسعينيات، لما يسمي بـ‮ "‬الفوضي الخلاقة‮" ‬التي يعقبها استقرار مستدام،‮ ‬وبناء نظام جديد، ونالت منها المنطقة العربية نصيبا كبيرا،‮ ‬خاصة في حالة العراق‮. ‬غير أن تلك النظرية عمقت من أزمات عدم الاستقرار، ونقلت الصراعات المجتمعية من الكمون إلى العلن، وفتحت الباب أمام مصادر تهديد تقليدية وغير تقليدية في المنطقة العربية‮. ‬أما حالة اللانظام، فبدت مع صعود قوى دولية لديها الرغبة في أن تحوز قدرا من القوة في مواجهة الهيمنة الأمريكية علي النظام الدولي،‮ ‬بعد انتهاء الحرب الباردة‮.‬

ولعل أزمة شبه جزيرة القرم التي استطاعت روسيا ضمها،‮ ‬بعد استفتاء مثير للجدل،‮ ‬قد شكلت مؤشرا على ذلك‮. ‬وهنا،‮ ‬تبدو أهمية لما طرحه أورجانسكي عن‮ "‬تحول القوة‮"‬، وهو أمر أخضعه الملحق لنقاش تحليلي ومفاهيمي معمق، إذ بدا أن توزيعات القوي في النظام الدولي باتت لا ترضي بعض القوي العائدة كروسيا، أو الصاعدة،‮ ‬كالصين والقوي الآسيوية، بما يشكل مدخلا لعدم الاستقرار في النظام الدولي‮.‬

إن هذه القضايا وغيرها يناقشها ملحق‮ "‬اتجاهات نظرية‮"‬، عبر مجموعة من المقاربات النظرية لجيل من شباب الباحثين المصريين والعرب‮.‬ ففيما يناقش محمد عبدالله يونس الاتجاهات الجديدة لظاهرة عدم الاستقرار داخليا وخارجيا، عبر تحديد المفهوم، وأبرز النظريات المفسرة، ومؤشرات عدم الاستقرار، فإن على جلال معوض يحلل في ورقته العلاقة بين عدم الاستقرار الانتقالي،‮ ‬ومراحل ما بعد التغيير، وما طرأ من مقاربات نظرية لفهم تلك العلاقة‮.‬

من جانبها، تحلل د‮. ‬نادية سعد الدين طبيعة العلاقات والتفاعلات المؤدية لعدم استقرار النظم الإقليمية، مطبقة تلك المقاربات على التغيرات التي تعرض لها النظام الإقليمي العربي‮. ‬أما د‮. ‬خالد شيات،‮ ‬فقد أعطي قراءة مفصلة لمعضلة استقرار النظام الدولي الحالي، عبر الغوص في تفاصيل المدرسة الواقعية، التي تعد أبرز نظرية مؤثرة في فهم معضلة الاستقرار، إذ سعي لتحليل مدي تكيف المدرسة الواقعية مع تغيرات النظام الدولي في نظرتها للاستقرار‮.‬

‬ويختتم محمد عباس ناجي بنظرة تطبيقية لاتجاهات مواجهة عدم الاستقرار على صعيد التجارب الداخلية،‮ ‬والإقليمية،‮ ‬والدولية، متخذا من منظور تحول القوة مقاربة لفهم طبيعة الأزمات التي تواجه النظامين الإقليمي والدولي، خاصة في حالتي سوريا وأوكرانيا‮. ‬ويترافق مع الموضوعات ثلة من المفاهيم النظرية التي أعدها الزميل محمد بسيوني عبدالحليم، تنوعت ما بين مفاهيم المخاطرة السياسية،‮ ‬واللانظام الدولي،‮ ‬وعولمة عدم الاستقرار، والفوضي الإقليمية وميزان القوي،‮ ‬وغيرها‮.‬

هوامش‮:‬

1- Barry Buzan, People, States & Fear: An Agenda for International Security Studies in the Post-cold War Era, second edition, L. Rienner Publishers, 1991.

2- للمزيد أنظر : ‬محمد عبدالسلام،‮ "‬التعايش مع فترات الانتقال الطويلة في الشرق الأوسط‮"‬، السياسة الدولية،‮ (‬العدد‮ ‬187،‮ ‬يناير‮ ‬2012‮).‬

‮3- للمزيد حول فكرة التكيف بشكل عام انظر ، ‬حاتم الجوهري، المصريون بين التكيف والثورة، وزارة الثقافة، الهيئة العامة لقصور الثقافة،‮ ‬2013‭.‬


رابط دائم: