دولة الخلافة وحضارة العصر
6-7-2014

محمد خليفة
*
جاءت رسالة الأنبياء والرسل لتؤسس قيماً ومثلاً للوجود كله، تلك الرسالة العظيمة المتعلقة بالله والإنسان والحياة الخالدة في الآخرة، والمنهج الذي يحقق إنسانية الإنسان في الإيمان إلى أن يصل إلى الحقيقة التي فُطر الإنسان عليها وهي التوحيد الخالص، في هذه الصورة عقيدة للضمير وتفسير للوجود؛ لأن الخلافة في الأرض والقيادة للبشر طرف من المنهج الإلهي لتحقيق الحقيقة العلوية؛ حقيقة هذه العقيدة التي جسدتها رسالة الحق والعدل .
ولعل أخطر ما قد يحجب رسالة الحق والإيمان عن بصيرة هذه الأمة هو أن تتمحور حول ممارسة العنف والطائفية المذهبية . فلا يمكن لعاقل أن يصدق ما وصلت إليه أحوال العرب بعد تصاعد موجات التطرف العنيف والدعوة إلى الجهاد، ولم تلق كلمة من كلمات اللغة العربية ما لقيته كلمة "الجهاد" من تحريف لمعناها واستشهاد بها في غير موضعها، حتى أصبحت كالمشجب الذي تستعين به جماعات العنف والإرهاب في قتل الأبرياء، ويتصورون أنهم قادرون على تحويل هذه الكلمة إلى برامج حرب إسلامية مقدسة .
 
هذا التطرف يستنزف الشباب البريء من خلال التغرير به ودفعه نحو المهالك تحت مسمى "نصرة الإسلام" . وقد كانت البداية من أفغانستان حيث تم اختراع فكرة "الجهاد" ضد الغزو السوفييتي لهذا البلد في الثمانينات من القرن الماضي، وتم تشجيع هذا الأمر من قبل بعض الدول الكبرى التي كان لها مصلحة في هزيمة الشيوعية هناك، ولم تكن تلك القوى الداعمة تنظر للمستقبل بل كانت تفكر في الحدث الآني فقط، لكن سرعان ما تجلت الحقائق بعدما قام المتطرفون باستهداف الولايات المتحدة عام 2001 بعمليات انتحارية لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية، وعند ذلك تبين حجم الخطر وأدرك العالم أجمع ضرورة محاربة هذا التطرف والقضاء عليه .
 
ورغم ذلك فقد اكتسب التطرف المزيد من المنتسبين بعد الغزو الأمريكي للعراق، حيث توافد "المتطرفون" من أماكن مختلفة إلى هناك، إلا أن هؤلاء بدأوا بحرب ضد مختلف مكونات الشعب العراقي بدعوى العودة بالمسلمين إلى سيرة "السلف الصالح"، كما يزعمون، وهكذا كان كل من يخالف رأيهم يقومون بقتله، واستفحل أمر هؤلاء بعد اندلاع القتال في سوريا، فمدوا بصرهم إلى الجانب السوري من الحدود، وأعلنوا عن قيام ما أسموها "الدولة الإسلامية في العراق وسوريا" (داعش)، وأصبح لهم وجود واسع في محافظتي الحسكة ودير الزور وباتوا يسيطرون على مدينة الرقة، وتمددوا حتى ضواحي دمشق وحلب وإدلب عن طريق أخذ البيعة لأميرهم "أبي بكر البغدادي" . وفجأة، اجتاحت عناصر داعش محافظات الموصل وتكريت في شمال العراق وباتوا يسيطرون على مساحات واسعة من أرض العراق .
 
وعندما تمكنت داعش من احتلال نينوى سارعت إلى إعلان قيام "دولة الخلافة" وصرح من يسمي نفسه أبا محمد العدناني، المتحدث باسم "داعش" وذلك في تسجيل صوتي حمل اسم "هذا وعد الله"، عن تأسيس دولة الخلافة الإسلامية، وتسميتها ب"الدولة الإسلامية" دون إضافة العراق والشام وذلك لتصبح دولة لكل المسلمين في كل العالم، لافتاً إلى تولية أبي بكر البغدادي، منصب الخليفة . وجاء في التسجيل الصوتي "هذه راية الدولة الإسلامية، راية التوحيد خفاقة تضرب بظلالها من حلب إلى ديالا" . وطبعاً ما هذه الدولة سوى أضغاث أحلام عند هؤلاء، فعن قريب سيجدون أنفسهم إما قتلى أو معتقلين، إلا أنهم سينجحون في استقطاب المزيد من المتحمسين وصغار العقول من هذه الأمة لتطحنهم آلة القتل والدمار .
 
فعالم اليوم لا يشابه ذلك العالم الذي كان موجوداً عندما انطلقت الفتوحات الإسلامية وأقيمت دولة الخلافة، فاليوم هناك أمم متحدة وهناك قوى عالمية عظمى تملك من أدوات القتل والدمار ما يزيد على حاجة تدمير الأرض بمن عليها، كما أن العالم كله متجه نحو الديمقراطية وانفتاح المجتمعات والتحرر والتعامل بالحوار الحضاري مع الآخر المختلف، وليس هناك من مجال لوجود من يحمل الفكر التكفيري الإلغائي ولا لوجود من يعتقد أنه قادر بالقتال على بناء دولة الخلافة، فهذه الدولة لن تعود إلى الوجود، فمنذ أن سقطت الدولة العباسية على أيدي المغول عام 656 للهجرة ، 1258 للميلاد، انتهت قوة المسلمين، وما جاء بعدها من دول سميت ب"دولة الخلافة" مثل الدولة العثمانية، فإنها كانت عبارة عن ارتدادات سرعان ما اختفت وزالت من الوجود .
ومن يحمل اليوم فكر دولة الخلافة، لا يسأل نفسه، لماذا سقطت هذه الدولة، ولماذا لم تستمر في الوجود، بل يعتقد أن تلك الدولة ظهرت بفضل جهاد المسلمين، وأن عليه أن يجاهد ليعيد إقامة هذه الدولة . وقطعاً أن دولة الخلافة لم تكن سوى خدعة، فبعد انتهاء العصر الراشدي، تحول الحكم إلى ملك عضوض أيام الأمويين والعباسيين، لكن ما لبثت العناصر غير العربية أن غلبت على الدولة العباسية حتى امتلكت القرار فيها، فجاء المغول في القرن السابع الهجري كنتيجة لتلك الفوضى والضعف الذي وصلت إليه دولة بني العباس . وعندما ارتفع شأن بني عثمان واتسع ملكهم في آسيا الصغرى، وزعموا أنهم أعادوا إحياء دولة الخلافة، لكنهم كانوا أشد الناس ظلماً للمسلمين وخصوصاً العرب الذين منعوا عنهم وسائل العلم وساهموا في تخلفهم بشكل كبير، ومن ثم سقطت دولة العثمانيين .
 
واليوم يأتي من يقول، إنه سيعيد بناء دولة الخلافة، ويلقي بكل ما لحق بهذه الأمة من تخلف وضعف، على تفريط المسلمين بهذا الأمر . فأية خلافة تلك التي ستنجح في قلب موازين القوى الراهنة في العالم، وأية خلافة تلك التي ستعيد أمجاد المسلمين الضائعة . إن الخلافة ليست سوى أوهام وأحلام، والحالمون بها ليسوا سوى شرذمة من المضللين بفكر ظلامي لا يقوى على البقاء والاستمرار في ظل أنوار هذه الحضارة المعاصرة .
 
----------------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الأحد، 6/7/2014.

رابط دائم: