مكانة مصر الإقليمية فى عهد جديد
3-7-2014

د. أبو بكر الدسوقي
* مستشار تحرير مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام

منذ أن تولي الرئيس المصري المنتخب، عبدالفتاح السيسي، مهام منصبه في الثامن من يونيو 2014، دخلت مصر عهدا جديدا في تاريخها المعاصر، ومنذ تلك اللحظة والتطلعات تتزايد في أن يشهد هذا العهد عودة مصر إلي مكانتها الإقليمية المتميزة التي حظيت بها منذ تاريخها القديم، بما حباها الله من معطيات جيو-استراتيجية، وتاريخية، وحضارية متميزة، ألهمت الكتاب والعلماء والمؤرخين في وصفها. فالراحل الكبير جمال حمدان وصفها في كتابه "شخصية مصر" بأنها تقع علي خط التقسيم التاريخي بين الشرق والغرب...

فهي تقع في الأول لكنها تواجه الثاني، وهي قلب العالم العربي، وواسطة العالم الإسلامي، وهي تجمع أطراف متعددة، مما يجعلها "سيدة الحلول الوسطي"، وهي -عنده- الدولة العربية الوحيدة القادرة علي مناظرة دول الجوار، وهي الأقدر بين الدول العربية علي الانطلاق إلي المجال العالمي وهي بوتقة العالم العربي، والأقرب للجميع.  كما أن الدكتور حسين مؤنس وصف مصر بأنها "قاعدة عظمي ومركز توازن من الطراز الاول"، كما أنها شهدت ولادة فجر الضمير الإنساني، كما أطلق عليها  المؤرخ الأمريكي جيمس هنري بريستد.

وتاريخيا، فإن مصر قِّدر لها أن تتصدي لكل الهجمات العدوانية والاستعمارية التي واجهت العروبة والإسلام، وكانت مصر منارة الأحرار وقبلة الثائرين في جميع أنحاء العالم، خاصة الدول النامية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، مما جعل مصر تتبوأ مكانة كبيرة عبر تاريخها القديم والحديث.

كما أن المكانة الإقليمية تتحدد أيضا بمعيار القوة الشاملة التي تحوزها الدولة من إمكانات بشرية، وعلمية وسياسية، واقتصادية، وعسكرية، ومصر وإن كانت تمر بأزمة اقتصادية نتيجة تراجع النشاط الاقتصادي، وتراجع معدلات النمو، نتيجة للفوضي وعدم والاستقرار التي أعقبت الثورات، إلا أن مصر لم تعدم أبدا إمكانات القوة الشاملة، فهي صاحبة أكبر قوي بشرية في العالم العربي، وجيشها من أقوي جيوش الشرق الأوسط، وتمتلك موارد علمية واقتصادية لا بأس بها، وإن كانت فقط تحتاج إلي تفعيل هذه الإمكانات، والتصدي للمعوقات التي تحول دون تفعيلها.

 

وتستند المكانة الإقليمية دائما إلي إرادة سياسية، ورؤية شاملة وثاقبة، تنتج دائما دورا متجددا ورائدا قادر دائما علي طرح المبادرات، وإيجاد الحلول للأزمات الكبري في الإقليم. وكما يقول الدكتور أحمد يوسف أحمد، أستاذ العلوم السياسية، "أنه في مطلع الخمسينيات كان هناك دور حائر  يحوم في المنطقة يبحث عن قيادة فلم يجد سوي مصر"، فكانت القيادة المصرية التي استلهمت هذا الدور بإرادة وطنية ورؤية شاملة، وانطلقت بفاعلية كبيرة في العوالم العربية والإفريقية والنامية. وإن كانت هذه التجربة قد نجحت في مجالات، ولم يقدر لها الاكتمال في مجالات أخري، إلا أنها تركت تراثا ضخما يستلهم منه العبرة والدرس؛ أي الهزيمة حتي نتجنبها، والانتصار حتي نحافظ عليه، لكن للأسف الشديد هذا الدور تعرض لانتكاسات؛ بعضها ذاتي صنعته أيادي مرتعشة اتسمت بقصر النظر، وغياب الشمول، وحصرها للدور المصري في تيار انعزالي لم يدرك أن مصلحة مصر الوطنية هي في امتداد دورها خارج حدودها، وأغفل الحقيقة التاريخية التي تقول إن أمن مصر يبدأ من العراق، والشام، والخليج، والمغرب العربي، ووادي النيل. أما البعض الآخر فيتمثل في أطراف خارجية دولية، أو إقليمية، في فترات محددة أسهمت في إدخال مصر نفق الانعزال، وفي تقييد دورها الخارجي، وجعلها معظم الوقت منكبة علي همها الداخلي.

 

الآن، وبعد أن انتقلت مصر من مرحلة الثورة إلي مرحلة الدولة بإنجاز إعداد الدستور وانتخاب رئيس جديد للبلاد استكمالا لخريطة الطريق التي سوف تكتمل بالانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها قريبا، بدأت الآمال تتجدد باستعادة مصر لمكانتها الإقليمية. إن الكثيرين في الداخل والمنطقة العربية يتطلعون لدور مصري فاعل وقادر علي التعاطي الإيجابي مع كل المشكلات العربية التي تتداخل فيها أطراف إقليمية ودولية. الكثيرون أيضا يراهنون علي الرئيس الجديد وقدرته في إيجاد حلول لكافة القضايا المزمنة في الإقليم،  وللإسهام في تفعيل التضامن العربي وإصلاح العلاقات بين الدول العربية.

 

ولا شك في أن هذه الموجة من التطلعات العربية حول الدور المصري المرتقب،  إنما نجد تفسيرها فيما استشعرته الدول العربية من خطر الغياب المصري الذي تمثل في ظهور قوي إقليمية تسعي بكل قوة لممارسة دور من النفوذ والهيمنة علي الإقليم، وقوي أخري خارجية تسعي لفرض مخططاتها المتناقضة مع مصالح الإقليم العربي والشرق أوسطي، وثالثة تستثمر حالة التشتت العربي في تحقيق مصالحها، في ظل انهماك الدول العربية  في مواجهة الصراعات الداخلية المستمرة. وكل الأحداث تنبئ بأن الإقليم بأكمله معرض للانفجار، وقد استشعرت هذه الدول العربية خطر الانقسام والتشتت، وأيقنت من رؤية قومية واضحة أن الأمة العربية في خطر، وأن الدولة الوطنية العربية معرضة للانقسام، وأن الأمن القومي العربي أصبح علي شفا الانكشاف، وأن مصر عمود الخيمة العربية -حسب وصفهم- معرضة لخطر الحرب الأهلية والانهيار قُبيل ثورة 30 يونيو، والعزلة والحصار فيما بعدها، وهنا كانت الانتفاضة العربية الداعمة لمصر بكل قوة، لأنه إذا انهار العمود إنهارت الخيمة كلها، وكان الدعم الخليجي اللامحدود، والذي بدأته المملكة السعودية، وأعقبته الإمارات، والبحرين، والكويت، وبعض الدول العربية الأخري، حيث وفرت هذه الدول غطاء سياسيا وماليا داعما لمصر أزاح عنها العديد من الأخطار في مرحلة عصيبة بكل المقاييس، ولا يزال الدعم الخليجي لمصر مستمرا، حيث شارك بعض قادة هذه الدول في حفل تنصيب الرئيس المصري، بل دعا العاهل السعودي إلي عقد مؤتمر لأصدقاء مصر لدعمها حتي تتجاوز أزمتها الاقتصادية، وتوج  الملك عبدالله بن عبدالعزيز ذلك الدعم بزيارته القاهرة مقدما التهنئة للرئيس المنتخب، في لقاء "قمة الطائرة"، هذا فضلا عن الدعم السياسي الذي قدمته بعض الدول الصديقة لمصر، مثل روسيا التي أوقفت صدور أي بيان ينتقد مصر في  مجلس الأمن بعد أحداث ثورة 30 يونيو، فضلا عن استقبالها لوزيري الدفاع، والخارجية المصريين في موسكو، ثم الدعم الإفريقي السياسي الكبير بعودة مصر لممارسة أنشطتها داخل الإتحاد الإفريقي، بعد تجميد عضويتها لمدة تزيد علي العام بعد أحداث ثورة 30 يونيو، وتوجت هذه العودة بمشاركة الرئيس المصري في اجتماعات القمة الإفريقية الـ 23 في  "مالابو" بغينيا الاستوائية في 26 يونيو .2014

 

والمتابع لأحاديث الرئيس المصري يجد أن الرئيس كان حريصا علي توضيح رؤيته للسياسة المصرية الجديدة. ففي خطاب تنصيبه رئيسا لمصر في 8 يونيو 2014، أكد أنه  يتطلع الي تعزيز علاقات مصر مع الدول الشقيقة والصديقة من أجل نشر قيم الحق والسلام، واعداً باستعادة دور مصر الرائد عربيا، وإسلاميا، وإقليميا، والفاعل دوليا دون إغفال الجذور الإفريقية لمصر، واصفا العلاقات مع إفريقيا بأنها علاقة الروح بالجسد، مؤكدا أن الأمن العربي جزء لا يتجزأ من الأمن المصري،  وأنه سيعمل علي بناء علاقات عربية إفريقية قوية، وتأسيس دولة قوية محقة عاملة سالمة آمنة مزدهرة تنعم بالرخاء. وفي اجتماعه بمجلس الوزراء الجديد حدد أسس السياسة الخارجية المصرية، بحيث تكون متوازنة ومنفتحة علي جميع دول العالم بهدف تحقيق مصالح الشعب المصري في المقام الأول، وأن تقوم علي الاحترام، والندية، والمصلحة المشتركة، وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، وفي خطابه أمام القمة الإفريقية أكد انتماء مصر الإفريقي، وأن مصر لا يمكن أن تنفصل عن وجودها وواقعها الإفريقي، معلنا إنشاء آلية مصرية للتعاون مع القارة، وهي الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية في إفريقيا التي تبدأ عملها مطلع يوليو 2014، مؤكدا مواصلة مصر لدورها وعطائها الإفريقي، وعزز رؤيته بزيارته للجزائر قبل القمة، وللسودان بعدها.

 

ولا شك في أن السياسة المصرية الرامية الي تعزيز مكانة مصر وتفعيل دورها إقليميا ودوليا لن تعمل في فراغ، لكن من خلال بيئة داخلية وخارجية توفر فرصا للنجاح، وفي الوقت نفسه، قيودا معرقلة لذلك، بكل تأكيد يأتي في مقدمة الفرص، الدعم الخليجي غير المحدود لمصر اقتصاديا وسياسيا. فقد قدمت  السعودية والإمارت والكويت دعما ماليا خلال الفترة الانتقالية ما يقرب من 14 مليار دولار، كما أن هناك مشروعات يتم الإتفاق عليها بين الحكومة المصرية وحكومات دول الخليج الثلاث بنحو 50 مليار دولار موزعة علي خمسة أعوام، سيتم الإعلان عنها خلال مؤتمر المانحين الذي دعا إليه العاهل السعودي، وهناك مشرعات عدة يتم التنسيق حولها، وهناك تطلعات عربية بأن يكون هذا الدعم والتنسيق مقدمة لتشكيل تحالف رسمي بين هذه الدول ومصر،  ويكون أيضا نواة لجبهة عربية موحدة ذات قيادة مشتركة لمواجهة التحديات  الإقليمية الجسيمة، وتحقيق المصالح العربية والحفاظ علي الأمن القومي العربي.

 

كما أن ظهور متغير الإرادة الشعبية المصرية الداعم بعد ثورتين عظيمتين (25 يناير،  و30 يونيو) سيشكل عنصر الدفع الذاتي لتقدم النظام المصري نحو تحقيق تطلعات المصريين في الحياة الكريمة، والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، واستكمال متطلبات التحول الديمقراطي، وإعادة الأمن والاستقرار الداخلي، مع إعطاء أولوية للملفات العاجلة، لأن هناك ملفات لا تحتمل ترف التأجيل أو التأخير، كما أن النجاح في أي مجال سيستدعي مزيدا من النجاح في مجالات أخري طبقا "لنظرية الدومينو"، والعكس صحيح. كما أن مصر بحاجة لكي تتضافر كل مقدراتها العلمية والاقتصادية، والاستفادة من تجارب الآخرين، ومن خبرات الدول المتقدمة، وصهر كل ذلك في مشروع وطني ضخم لبناء مصر الجديدة.

 

ولا يخفي علي أحد أن هناك قيودا تفرضها البيئة الخارجية. يتمثل ذلك في وجود إقليم مضطرب، تتضارب فيه المصالح وتتناقض، تتبدل فيه التحالفات، وقد تتغير فيه الخرائط، بل أصبح المكون العربي في بعض الدول العربية عرضة للتهميش والإندثار، بل إن النزاعات الطائفية والمذهبية والعرقية  قد تفجر الإقليم رأسا علي عقب، بل  قد تصبح الدول العربية عرضة للتقسيم  والانشطار متأثرة بهذه التطورات، كما أن هناك بعض الأطراف الإقليمية لها سياسات معادية للنظام المصري الحالي، وتسبب تعاطفها مع نظام حكم الإخوان في توتر العلاقة مع مصر. غير أن مصر حريصة علي احتواء هذه الدول؛ أي أن هناك بيئة إقليمية غير مرحبة بأي دور مصري نشط وفعال، كما أن هناك بيئة دولية تترقب وتتصيد الأخطاء.

 

في هذا الإطار، يناقش ملف مجلة السياسة في هذا العدد، التحديات والتهديدات والمخاطر الخارجية أمام الجمهورية الثالثة في مصر.

وفي كل الأحوال، فإن تعظيم الفرص وتقليل المخاطر، يفتح الباب واسعا أمام دور قوي وفعال ومحقق للآمال، كما أن مصر بحكم التزاماتها الوطنية والقومية سوف تكون مدفوعة للتدخل -بمشاركة عربية- لفض الاشتباك  الحاصل في الإقليم، من خلال بذل الجهود الممكنة لاحتواء المخاطر والتهديدات، والتفاعل الإيجابي المرن من خلال الدبلوماسية المباشرة،  فمصر، حتي تكون آمنة، لا تملك ترف الانعزال.

 


رابط دائم: