تحديات إقليمية:| "ندوة" الأمن المائي المصري والتوجه نحو إفريقيا
30-4-2014

أميرة البربري
* باحثة ماجستير بكلية الإعلام، جامعة القاهرة.
لا يزال ملف الأمن المائي حاضراً بقوة في المشهد السياسي المصري، حتى بات مهدداً رئيسياً من مهددات الأمن القومي المصري لما ينطوي عليه من تهديد لوجود الدولة المصرية، بحسبانه المورد الذي تعتمد عليه مصر اعتماداً كلياً في تلبية احتياجاتها من المياه بنسبة 97%. ومما يزيد الأمر خطورة غياب موقف مصري موحد، وبديل واقعي لحل الأزمة مقابل استمرار الإنجاز في بناء السد من الجانب الإثيوبي، مستغلاً في ذلك المشهد السياسي المرتبك داخلياً، واستحواذه على أولوية السياسة المصرية. 
 
في ضوء ما سبق، عقدت لجنة العلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة ندوة بعنوان "الأمن المائي لمصر والتوجه نحو إفريقيا" بحضور الأستاذ الدكتور محمود أبو العينين، أستاذ العلوم السياسية بمعهد البحوث والدراسات الإفريقية، والأستاذ الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، لتشخيص الوضع الحالي للأزمة، وتهديده للأمن القومي المصري، وطرح البدائل الممكنة لحل الأزمة.
 
• تحديات الأمن القومي المصري:
 
افتتح الأستاذ الدكتور محمود أبو العينين، الأستاذ بمعهد البحوث والدراسات الإفريقية – أعمال الندوة بالحديث عن تحديات الأمن القومي المصري، مشيراً إلى أن هذه التحديات تمتد لأكثر من عقدين من الزمان، وتتلخص أبرزها في:
 
- الأمن المائي المتمثل في حقوق مصر ومصالحها في مياه النيل، وهي أهم المصالح على وجه الإطلاق، وأهميتها تكمن ليس فقط في كمية المياه التي تحصل عليها مصر من مياه النيل، وإنما في اعتماد مصر عليها اعتماداً كلياً بنسبة 97% لتلبية احتياجاتها.
 
- تقسيم السودان الذي يعد امتداداً طبيعياً للمنطقة النيلية، وعمقاً استراتيجياً لمصر، الأمر الذي جعل عدم الاستقرار السياسي الذي تشهده دولتاه يمثل تهديداً حقيقياً للأمن القومي والمائي المصري.
 
- عدم استقرار الملاحة في البحر الأحمر وقناة السويس، ومنبع هذا الاضطراب ما يشهده الصومال من صراعات، الأمر الذي أدى إلى تزايد نفوذ الأساطيل الأجنبية في البحر الأحمر وخليج عدن بحجة مواجهة القرصنة، بما يخدم مصالح هذه الدول في منع أي محاولات لغلق قناة السويس.
 
- الاضطراب الداخلي الذي تشهده مصر في الآونة الأخيرة، والذي انعكست آثارة بالسلب على السياسة الخارجية المصرية تجاه إفريقيا، أبرز هذه الآثار تعطيل عضوية مصر في الاتحاد الإفريقي، وضعف القدرة على مواجهة التحديات الخارجية، مما وضع البلاد في مأزق تاريخي فيما يتعلق بمنطقة المصالح المصيرية للدولة المصرية.
 
وعول دكتور أبو العينين على خبرة مصر التاريخية في مواجهة الأزمات الإقليمية، بحسبانها كانت الفاعل الإقليمي الرئيسي في المنطقة الإفريقية بعد ثورة يوليو 1952 وحتى سبعينيات القرن الماضي، نظراً للدور الذي لعبته مصر عبد الناصر في مساندة حركات التحرر الإفريقية ضد الاستعمار، واحتلت الدائرة الإفريقية المرتبة الثانية في السياسة الخارجية المصرية بعد الدائرة العربية، وأحياناً كانت تسبقها. واستطاعت مصر اجتياز عدد من الأزمات على المستوى الإفريقي. فعلى سبيل المثال، أزمة استقلال السودان عام 1956 ، وبناء السد العالي وغيرهما.
 
• سد النهضة الإثيوبي و تهديد الأمن المائي المصري:
 
وفي محاولة لتشخيص الوضع الحالي، ألقى دكتور أبو العينين الضوء على بدء الإعلان عن مشروع سد النهضة الإثيوبي، والذي جاء عقب الثورة المصرية في أبريل 2011 من الجانب الإثيوبي بتكلفة 4,8 مليار دولار ضمن مجموعة من السدود تيلغ نحو 33 سدا، وسعته التخزينية المقدرة آنذاك من 11 إلى 24 مليار متر مكعب تقريباً، لكن تم التلاعب في التصميم بعد ذلك لتصبح السعة التخزيبية للسد نحو 74 مليار متر مكعب. وأشار إلى أن الحكومة الإثيوبية تتعمد إعطاء معلومات متضاربة بشأن السد، حتى لا يمكن مراقبة أعمال التصميم والبناء، حتى إنها رفضت طلباً مصرياً بالفحص والتفتيش على أعمال البناء للمشروع.
 
وأكد دكتور أبو العينين أن الأزمة تطورت بشكل سريع ومتلاحق حتى وصلت لمرحلة حرجة تتجلى مظاهرها في التالي:
 
- استمرار الجانب الإثيوبي في أعمال بناء السد، وإعلان عدم التوقف مهما تكن ردود الأفعال، مع أن الهدف الحقيقي لإثيوبيا من بناء السد ليس لإحداث تنمية، وإنما لاحتكار الهيمنة على مياه النيل.
 
- وضع إثيوبيا لاحتياطات دفاعية استعداداً لأي محاولات لضرب السد.
 
- لم تعد الجبهة المصرية- السودانية كما كانت من قبل، وفي المقابل ثمة تفاهم سوداني –إثيوبي حول المناطق الحدودية المتنازع عليها بين البلدين، والاتفاق على تسيير دوريات مشتركة على الحدود.
 
- لا تزال حركات مصر مقيدة في الدائرة الإفريقية، وخصوصاً بعد تعليق عضويتها في الاتحاد الإفريقي.
 
- لم تستكمل مصر خريطة الطريق والنظام السياسي الجديد، في ضوء حالة من عدم الاستقرار الداخلي، والذي يؤثر بدوره فى قدرة مصر في التحرك دولياً وإقليمياً.
 
وفي السياق نفسه، أكد الأستاذ الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة،   أن الأمن المصري مهدد بصورة أو بأخرى، وهناك عدد من الشواهد التي تؤيد ذلك، وتحتاج إلى التوصيف، أهمها:
 
- إن الدولة المصرية والجهات المعنية لم تتخذ قراراً مباشراً حتى الآن للتعامل مع ما وصلت إليه الأوضاع في الجانب الآخر. فمشروع بناء السد وصل إلى 30% . ولو تركت الدولة المصرية الوضع كما هو عليه، فستتجاوز عملية البناء 45% خلال عامين، وبالتالي فالمسألة أصبحت قضية وقت.
 
- الدخول في المفاوضات أمر عبثي في ضوء الوضع الحالي، والكارثة أننا لا نمتلك البديل، ولا نعرف كيفية التعامل مع الإثيوبيين الذين يشهدون حالة احتقان مع الجانب المصري، ولن تزول.
 
- إن مفهوم القوة في العلاقات الدولية بات عقيماً، لأن الثوابت في المنطقة لا تسمح بذلك، وبالتالي يصبح الحديث عن عسكرة السياسة الخارجية المصرية أمرا كارثيا، بما يؤدي إلى أزمات عديدة ومتتالية، وسيجعل الموقف المرتبك الحالي أكثر ارتباكاً. ولكن ربما تكون هناك أعمال أمنية واستخباراتية لا تصل إلينا، هدفها تعطيل الإنجاز، وهي أساليب معتادة في سائر دول العالم.
 
- هناك كارثة أكبر من السد الجاري تشييده، وهي أن هناك حزمة أخرى من السدود المخطط بناؤها بعد سد النهضة، ونحن لا نزال نملك الخطوة التالية لبناء السد. كما أن الخطورة لا تكمن في إثيوبيا وحدها، ولكن أغلب دول الحوض تستهدف بناء مجموعة من السدود.
 
- هناك مشكلة في مصر حالياً تتعلق بالأخبار العبثية التي تتناقلها وسائل الإعلام عن بدائل غير صحيحة مثل مشروع نهر الكونغو، وهذه المشاريع ليس لها علاقة بالعلم، وأغلب الأبحاث المتعلقة بهذا المشاريع تم عملها خارج مصر.
 
- لابد من إدراك الدور الفاعل للقوى الإقليمية في الملف، وبخاصة إسرائيل، الحاضرة بقوة في الملف، باستراتيجية واضحة المعالم للتعامل مع السدود، منها تسعير المياه، ومقايضتها مقابل النفط، ويتم الترويج لهذه الأفكار في المنظمات الدولية. والأخطر من ذلك عرض إسرائيل بصورة مباشرة للدخول كوسيط بين مصر وإثيوبيا لحل الأزمة، وتقريب وجهات النظر، مع طرحها لمشروع اكتتاب شعبي من خلال السفارة الإثيوبية في تل أبيب لتمويل السد. وتطرح  إسرائيل حالياً فكرة خبيثة عن إنشاء بنك للمياه في الشرق الأوسط، ليكون المستهدف الأول بهذا البنك نهر النيل، قبلت مصر أو لم تقبل.
 
- ينبغي إدراك أن الاستراتيجية الأمريكية تتضمن جزءا يشير إلى بناء فيلق استراتيجي في المنطقة، وبالتالي فهي استراتيجية مقيمة في إفريقيا، هدفها تركيع مصر، وتطويعها، وتصويرها للإثيوبيين على أنها قوة امبريالية تريد أن تخطف مستقبلهم.
 
وأثار فهمي تساؤلاً حول هل تعود مصر لأفريقيا أم لا؟. وأجاب بأنه لا توجد حالياً دائرة إفريقية في سياسة مصر الخارجية، وكل ما نسمعه من أحاديث هو مجرد كلام وحنين إلى العهد السابق، فنحن لا نمتلك حتى خبراء متخصصين في إدارة الملف، وتناثر الملف بين الأجهزة الأمنية والسياسية يجعل اتخاذ القرار أمراً بالغ الصعوبة.
 
• بدائل الخروج من الأزمة:
 
وفي محاولة لطرح بدائل للخروج من الأزمة الراهنة، أشار دكتور محمود أبو العينين إلى عدد من هذه الحلول، وهي:
 
- التفاوض: وهو أفضل البدائل بالنسبة لتحقيق الأهداف المرجوة، ويركز عليه كافة الأطراف، إذا كان يؤدي إلى حل مقبول للجميع، ولكن هذا البديل لن يحقق المطلب المصري الرئيسي في الحفاظ على أمنها المائي، إلا إذا وافقت إثيوبيا رسمياً على إيقاف العمل بالسد لحين الاتفاق على أعمال إدارة وإشراف مشترك، والمراقبة المشتركة لعملية الإيقاف وفقاً لجدول زمني. وإن لم توافق إثيوبيا، فعلى مصر والسودان طرح الإعلان من جانب واحد كمطلب ملح وضروري.
 
- تتم عمليات بناء السدعلى قدم وساق في ضوء عدم امتلاك مصر موقفاً تفاوضياً ملائماً، لذا لابد من استئناف العمل في الاتحاد الإفريقي، ومحاولة بناء جبهة سودانية -  مصرية، خاصة أن الموقف السوداني الحالي يلعب دور المستفيد من الأزمة.
 
- لابد من تدعيم النفوذ العربي - الإفريقي في البحر الأحمر الذي أصبح وكرا لأطراف كثيرة، مع استمرار التواصل مع القوى والأطراف الدولية.
 
- بلورة حزمة من المنشطات التفاوضية مثل المغريات والحوافز، وجس النبض الإثيوبي، مع استمرار الوساطة من أطراف أخرى مقبولة لكافة الأطراف، أو نزيهة، مثل الصين وروسيا وإيطاليا، ليصبحوا شهودا على ما يحدث.
 
- تعزيز الوجود المصري في المناطق القريبة من إثيوبيا مثل الصومال وإريتريا، بالإضافة إلى تعزيز القوة المصرية الشاملة.
 
- تحديث أجهزة صنع السياسة المصرية تجاه إفريقيا، حيث فشلت البيروقراطية القائمة فشلا َ ذريعاً في حل المشكلات المختلفة.
 
- التحكيم: وهو أحد البدائل المتاحة لإيقاف السد، والسند القانوني هو الاتفاقات الدولية بين دول حوض نهر النيل، والتي يمتد بعضها لأكثر من مائة عام، ومنها اتفاقيات لا تسقط بالتقادم. وإن لم توافق إثيوبيا على التحكيم، فيجب الاستعداد لإجبارها على ذلك.
 
- المواجهة والصراع الإقليمي: ففي حالة فشل كل البدئل السابقة في إيقاف بناء السد،  والتوصل لاتفاق مقبول، سيتحول التعاون والتكامل المنشود إلى صراع إقليمي يزداد حدة وضراوة ، وتمتد آثاره، خاصة أن هناك عوامل تعزز مجال الصراع، منها تدخل الأطراف الخارجية (إسرائيل – تركيا – قطر) لدفع الأزمة إلى الصراع.
 
ويغذي هذا البديل عدم إبداء الجانب الإثيوبي أي مرونة في عملية التفاوض، وتصوير الأزمة للشعب الإثيوبي على أنها وطنية تاريخية ضد الدولة المصرية المهيمنة على الإقليم. وفي ضوء التطورات المتسارعة، والوجود الأجنبي الكثيف، فإن هناك ضرورة التجهيز لهذا الخيار كملاذ دفاعي - وليس هجوميا - أخير عن الأمن القومي والمائي المصري، خاصة أن توازن القوى بين الدولتين يصب في مصلحة مصر بلا شك. وليس معنى ذلك تبني الخيار العسكري، ولكن لا بد من بناء قوة مصر الشاملة، والاستعداد لتكون هذه القوة رادعة.
 
وفي ختام كلمته، أوصى دكتور أبو العينين بأن حل الأزمة متوقف على الرئيس القادم، ورؤيته للأزمة، وتعزيز مؤسسات صنع القرار تجاه إفريقيا، ووضع سياسة مصرية خارجية نشطة وفعالة في إفريقيا تسهم في الوصول للبدائل الصحيحة، مع بث قنوات موجهة باللغة الإثيوبية لتوضيح موقف مصر بناء جسر للتواصل مع الشعب الإثيوبي لتصحيح الصورة المغلوطة التي يتم الترويج لها عن مصر بأنها قوة امبريالية، مع تصدير الأزمة المصرية للعالم بأكمله من خلال التركيز، ليس على أن ما يرد لمصر من مياه ليس كافياً، وإنما على أننا في حاجة لزيادة حصتنا من المياه في ضوء النمو السكاني المتزايد بنسبة 2% سنوياً.
 
وفي السياق نفسه، طرح الأستاذ الدتور طارق فهمي عددا من الأمور التي تشكل أولويات من الواجب اتباعها على وجه السرعة في سبيل حل الأزمة، منها:
 
- الدولة المصرية في حاجة لرئيس يستطيع اتخاذ قرارات استراتيجية في ملفات تهدد الأمن القومي والمائي المصري، وحياة شعب مصر، وبالتالي فمصر مطالبة بمشروع عربي إفريقي يعتمد على استراتيجية الحركة المباشرة، والحلول الواقعية القابلة للتطبيق، وتقديمه للآخرين، مع عدم الدخول في مناكفات مع الدول، وأشباه الدول – في إشار إلى قطر - لأنه أمر لا يليق بدولة بحجم مصر.
 
- كثرة الحديث عن الوساطة واللجوء لمجلس الأمن، أو أن نكون شركاء في بناء السد، ومراقبة تصميماته، يعد أمراً عبثياً، وفي إطار الحلول المعقدة، بحسبانها مطروحة من جانب واحد، والطرف الآخر – الإثيوبي – لا يقبله، وبالتالي فنحن ندور في حلقة مفرغة، في حين أن الجانب الآخر يمضي قدماً في بناء السد، ويتعامل معنا من أعلى، في ضوء تحالفاته المتشابكة.
 
- لابد من الكف عن النظر للوراء، وإلا فكيف نبني بلداً حنينه إلى الماضي، ولا يمتلك نخبة للمستقبل. فينبغي النظر إلى المستقبل، واستدعاء الناصرية بناصر جديد، وليس استدعاء السياسات الناصرية، وعلى مصر أن تختار طريقها، وتعيد بناء مؤسساتها التي شاخت في مواقعها، ولا تمتلك رؤية لمستقبل الوطن والمسار السياسي، مع توحيد الجهود في الملف المائي لتسهيل اتخاذ القرار.
 
وفي نهاية كلمته، أشار فهمي إلى أن المصلحة القومية للدولة المصرية لا تزال نائمة، ولا بد من إيقاظها لاستكمال التحول الديمقراطي، وإزالة مرارة الدولة المتسولة.

رابط دائم: