الخيار الذاتي:|الردع الخليجي في مواجهة القدرات النووية الإيرانية
30-3-2014

أشرف عبد العزيز عبد القادر
* باحث سياسي بمجلس الشعب المصري

19 مارس 2014

في إطار التطورات المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني، دائما ما يُثار تساؤل بشأن آلية الردع الخليجي وتطبيقاتها المحتملة في مواجهة القدرة النووية الإيرانية المحتملة. وفي واقع الأمر، لم يعد هذا التساؤل مرتبطا بمستقبل المفاوضات بين إيران والغرب خلال الفترة القادمة. فخبرة المفاوضات الغربية مع إيران منذ أن بدأت، مروراً بالاتفاق المرحلي الذي تم التوصل إليه في 24 نوفمبر الماضي 2013، وصولاً إلى مفاوضات الحل النهائي الجارية حالياً، تؤكد أن إيران ليس لديها استعداد لقبول الشرط الخاص بوقف أنشطة تخصيب اليورانيوم على أراضيها.

وعلى الرغم من إنكارها المستمر وجود اهتمام لديها بامتلاك أسلحة نووية، أو القدرة على إنتاجها، فإنها على الأقل تولي أهمية قصوى لامتلاك "قدرات" التسلح النووي، مما سيدفعها إلى الإصرار على الاحتفاظ بحد أدنى من نسبة تخصيب اليورانيوم، بحيث تتمكن من رفع هذه النسبة متى قررت امتلاك السلاح النووي. والمفاوضات الجارية الآن – إن نجحت- ستكون في الأغلب حول النسبة التي سيقبل بها الغرب ويسمح بها لإيران فيما يتعلق بتخصيب اليورانيوم.

في ظل وضع كهذا، فإن التساؤل الرئيسي هنا: ماذا بوسع دول مجلس التعاون الخليجي أن تفعل؟ ورغم أن الإجابة عادة ما تنصرف إلى ضرورة امتلاك دول الخليج آلية لردع وتحييد تأثير القدرات النووية الإيرانية المحتملة، فإنه لا توجد إجابات شافية بشأن ماهية هذا الردع وخياراته.

أولاً- ماهية الردع الخليجي المقصود:

بداية، من المهم تأكيد أن المقصود بالردع هنا ليس المفهوم التقليدي للردع النووي الذي يقوم على عدد من العناصر الرئيسية، أولها: التوافر على قدرة نووية ضاربة جاهزة وموثوق بها، ويكون تفعيلها ممكناً في زمن مناسب لتطور الأزمة التي يتعين مواجهتها. ثانيها: وجود إرادة سياسية معلنة في اللجوء إلى استعمال السلاح النووي في حال تعرض البلاد لاعتداء. ثالثها: علم الخصم المفترض وإدراكه بوجود العنصرين السابقين معا (المقدرة والإرادة) لدى الطرف الآخر. رابعها: القدرة على استيعاب الضربة الأولى من الخصم المفترض، وتوجيه ضربة ثانية قاصمة ضده. هذا المفهوم كان السائد والحاكم للعلاقات بين المعسكرين الغربي والشرقي، خلال فترة الحرب الباردة، وجنَّب العالم حدوث كارثة نووية أخرى على غرار التي شهدتها اليابان خلال الحرب العالمية الثانية.

الحالة في العلاقات الخليجية- الإيرانية مختلفة إلى حد كبير، والمقصود من الردع الخليجي هنا هو خلق وضعية توازن يتم في إطارها تحييد أثر القدرات النووية المحتملة لإيران، ومنع الأخيرة من اللجوء إلى توظيف واستخدام تلك القدرات في ابتزاز أو تهديد دول الخليج العربية. بعبارة أخرى، الهدف من الردع الخليجي القضاء، أو، على أقل تقدير، التخفيف من حدة الهاجس الأمني الذي ستشعر به دول الخليج، نتيجة امتلاك إيران حدا أدنى من القدرات النووية، سواء تم ذلك من خلال توصل طهران إلى اتفاق نهائي مع الغرب، أو من خلال نجاحها في استثمار عامل الوقت، والمضي قدماً في برنامجها النووي.

ثانياً- خيارات الردع الخليج:

يمكن في هذا السياق مناقشة عدة أفكار مطروحة لتحقيق عامل الردع الخليجي في مواجهة القدرات النووية الإيرانية المحتملة، والرد على بعضها من واقع بعض التجارب التاريخية ذات الصلة، وذلك على النحو التالي:

- خيار المظلة النووية الأمريكية:

عندما تواجه الدول منافساً نووياً، فإن أحد الخيارات المتاحة أمامها هو أن تتحالف مع شريك نووي، مستفيدة من أن يضمن لها الحماية عبر ما يمكن تسميته بـ "المظلة النووية" لهذا الشريك. ويعد هذا النوع من الحماية صورة من صور الردع طويل الأمد، ويُشار إليه بالضمانات الأمنية الإيجابية، والتي تحول دون تطوير الدول– المشمولة بتلك المظلة- لترساناتها النووية الخاصة.

وهناك تجارب تاريخية تُشير إلى فاعلية هذا الخيار، مثل حالة ألمانيا الغربية، التي فكَّرت بعد مرور عشر سنوات فقط على هزيمتها في الحرب العالمية الثانية في تطوير ترساناتها النووية الخاصة. ورغم أنها كانت في موقع تقني واقتصادي يسمح لها بتطوير سلاح نووي في غضون خمس سنوات من اتخاذ القرار، فإنها فضَّلت خيار المظلة النووية الغربية، وتحديداً الفرنسية والأمريكية، وهذا ما عبَّر عنه المستشار الألماني هيلمت كول عام 1992 حين قال "لماذا يجب أن نحصل على هذه الأسلحة؟ إنني سعيد جداً لحصول أصدقائي الفرنسيين عليها، أعيش على بعد 40 كيلومترا من الحدود مع فرنسا، ولا يقلقني أن أعرف أن الرئيس الأمريكي، على بعد سبع ساعات بالطائرة عنا، يملك سلطة اتخاذ القرار المتعلق بالأسلحة النووية لحمايتنا نحن الألمان، وأن الرئيس الفرنسي، على بعد 40 دقيقة من بيتي، يملك السلطات نفسها، يجب أن نقول الحقيقة، لسنا بحاجة إليها على الإطلاق؟.

في حالة دول الخليج، أشارت الولايات المتحدة الأمريكية غير مرة إلى إمكانية امتداد المظلة النووية إلى حلفائها في الخليج لمواجهة الطموحات النووية الإيرانية، وقد بدأ ذلك للمرة الأولى وبشكل صريح على لسان وزيرة الخارجية السابقة، هيلارى كلينتون، في أغسطس 2009، وغالبا ما يتم التلويح بهذا الأمر من أجل تبديد المخاوف الخليجية، خاصة في الفترات التي تتعثر فيها المفاوضات النووية مع إيران.

ولكن التحدي الرئيسي هنا بالنسبة لدول الخليج أن مثل هذه الضمانات الأمنية ستظل دائماً موضعا للتساؤل والشك، على نحو يصعب معه الاعتماد عليها في تبديد الهاجس الأمني الخليجي المرتبط بالقدرات النووية الإيرانية. وإذا كانت مثل هذه "الشكوك" موضع "إنكار" في السابق، فإنها تكتسب في الوقت الحالي درجة كبيرة من المصداقية، بالنظر إلى أن التغيرات الأخيرة في السياسة الأمريكية تجاه منطقة الخليج ولدَّت شكوكاً حقيقية لدى أبرز حلفائها التقليديين بشأن مدى قدرتهم على الاعتماد -لأجل غير مسمى- على الدور الأمريكي الموازن لإيران.

وإذا كانت حالة ألمانيا الغربية تعد مثالا على فاعلية خيار المظلة النووية، فإن حالة كوريا الجنوبية، على سبيل المثال، تؤكد الشكوك بشأن مصداقية هذا الخيار، وتعد مثالاً معبراً لما قد يحدث عندما يكون هذا النوع من الضمانات الأمنية الخارجية موضع التساؤل والشك. فكوريا الجنوبية منذ الحرب الكورية شعرت بأنها مهددة بأفعال وأقوال جارتها الشمالية، واستطاعت التصدي لهذا الخطر بأسلحتها التقليدية المتفوقة من ناحية، وبالضمانات الأمريكية التي تقضي بأن تساعد واشنطن الجنوب في مواجهة أي عدوان شمالي من ناحية أخرى، خاصة أن الولايات المتحدة نشرت–بوصف ذلك جزءًا من موقفها الدفاعي- مئات الأسلحة النووية قرب وداخل كويا الجنوبية.

ولكن هذه الضمانات الأمنية النووية تعرضت لأكثر من اختبار حقيقي في حالة كوريا الجنوبية، جاء الاختبار الأول نتيجة تغير دور الولايات المتحدة في شرق آسيا، بعد مبدأ نيكسون (1969)، الذي جاء كجزء من مساعي واشنطن لإنهاء الحرب في فيتنام، حيث قضت سياسة واشنطن الجديدة آنذاك بأن يصبح حلفاؤها الآسيويون أكثر اعتماداً على أنفسهم. وتبع هذا المبدأ حدثان بارزان،الأول:عام 1971، حيث سحبت إدارة نيكسون فرقة عسكرية كاملة من كوريا الجنوبية، والآخر: عام 1972، حيث زيارة نيكسون التاريخية إلى الصين ليؤكد التقارب الأمريكي معها، ويسرع وتيرته. وكان لتلك الزيارة دلالات سلبية لدى القادة في كوريا الجنوبية، فشرعوا في أوائل عام 1974 في تطوير برنامجهم النووي السلمي نحو مرحلة تصنيع السلاح النووي، ومارست واشنطن آنذاك أنواعا مختلفة من الضغط لتجبر سول على التخلي عن طموحاتها فيما يتعلق بالأسلحة النووية، لدرجة أنها هددت بوقف جميع أشكال التعاون معها، ورضخت كوريا الجنوبية في النهاية لتلك الضغوط، لتكسب ضمانات الأمن التي أعادت الولايات المتحدة تأكيدها.

ومرة أخرى، خطَّط الرئيس جيمي كارتر عام 1977 لسحب الأسلحة النووية والقوات الأمريكية كلها تقريبا من كوريا الجنوبية. ومرة ثانية، تحدثت الأخيرة عن برنامج للأسلحة النووية، إلى أن فاز رونالد ريجان في الانتخابات عام 1980 ليؤكد أن الولايات المتحدة لن تسحب أي قوات.

ولا يزال من غير الواضح أن الضمانات الأمريكية ساعدت على وقف تطوير البرنامج السلمي لكوريا الجنوبية، أم أن التهديد بتطوير هذا البرنامج نحو تصنيع السلاح النووي ساعد على إبقاء الضمانات الأمريكية. إلا أنه في كلتا الحالتين، فإن امتلاك كوريا الجنوبية الحد الأدنى من القدرات النووية التي تُمكنها – متى قررت- من الاتجاه نحو مرحلة تصنيع السلاح النووي، كان مهماً وحقق لها دورا أمنيا كبيرا.

هذا المثال الخاص بحالة كوريا الجنوبية، تحديداً، مهم في فهم الحالة الخليجية. فمع اختلاف سياق الزمان والمكان، فإن ما حدث بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة من جانب، وبين الأخيرة والصين في ذلك الوقت من جانب آخر، يحمل دلالات مهمة لما يمكن أن يحدث بين دول الخليج والولايات المتحدة من جانب، وبين الأخيرة وإيران - خاصة في حال التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن البرنامج النووي الإيراني- من جانب آخر. ولكن الفرق الرئيسي هنا أن دول الخليج لا تمتلك – مثل كوريا الجنوبية آنذاك- الحد الأدنى من القدرات النووية كورقة ضغط تفرض على واشنطن إبقاء التزاماتها الأمنية في المنطقة كضمان لعدم تطوير تلك القدرات، أو تطويرها بالفعل، في حال تغيرت الظروف، وتخلَّت الولايات المتحدة عن التزاماتها الأمنية في المنطقة، ودخلت الأخيرة في نوع من سباق التسلح النووي، وهذا ما ينقلنا بالتالي إلى الخيار الثاني.

-  خيار القدرات النووية الخليجية:

التحولات المرتقبة في عملية توازن القوى في منطقة الخليج، والتي ستُحدد ملامحها الرئيسية بشكل واضح مفاوضات الحل النهائي الجارية بشأن البرنامج النووي الإيراني، تُحتِم على دول الخليج امتلاك حد أدنى من القدرات النووية. وسواء نجحت تلك المفاوضات في التوصل إلى حل نهائي، أو أخفقت في ذلك، فإن هذا الخيار لم يعد من قبيل الترف بالنسبة لدول الخليج، بل أصبح ضرورة أمنية، لأن إيران لن تقبل بأي حال من الأحوال التنازل عن امتلاك حد أدنى من حقها في تخصيب اليورانيوم.

والحديث هنا يرتبط بالأساس بامتلاك دولة أو دولتين على الأكثر من دول مجلس التعاون الخليجي لقدرات نووية حقيقية، لأن الخيار النووي الخليجي على المستوى الجماعي بين دول مجلس التعاون الخليجي الست – والذي تم تدشينه منذ ديسمبر 2006-  أصبح الآن شيئاَ من الماضي، لأمرين رئيسيين، أولهما: عدم قدرة المجلس على إنجاز الحد الأدنى من المشروعات المشتركة التي تم التخطيط والإعداد لها منذ سنوات عديدة مضت، ولا تزال قيد المشاورات والبحث، ناهيك عن حالة التصدع غير المسبوقة في العلاقات الخليجية البينية، والتي قد تكون لها انعكاسات مستقبلية على بقاء المجلس في صيغته الراهنة.

الأمر الآخر هو أن تقديرات الدول الست للخيار النووي مختلفة إلى حد كبير. فالكويت تراجعت عن هذا التوجه عقب الحادث النووي الياباني الأخير في مارس 2011، ولم تتخذ قطر أي خطوات في هذا الاتجاه سوى الإعلان في فبراير 2010 عن "العزم" نحو  إنشاء محطة نووية للأغراض السلمية، دون خطوات فعلية في هذا الطريق. وبالمثل، لم تتخذ مملكة البحرين أي خطوات متقدمة في هذا الاتجاه، سوى إنشاء اللجنة الوطنية للاستخدامات السلمية للطاقة النووية في عام 2009، والإعلان في ديسمبر 2010 عن التخطيط لاستخدام الطاقة النووية في توليد الكهرباء بحلول عام 2017، دون وجود ما يعكس هذا التوجه على أرض الواقع. أما سلطنة عمان، فكل ما اتخذته من خطوات لم يتعد الإعلان - في مايو 2008- عن الاتجاه نحو الطاقة النووية، وتشكيل لجنة بهذا الخصوص، وتوقيع مذكرة تفاهم مع روسيا حول التعاون في مجال استخدام الطاقة الذرية للأغراض السلمية في يونيو 2009.

ماعدا هذه الدول الأربع، تعد المملكة العربية السعودية، والإمارات الدولتين المرشحتين بقوة لامتلاك قدرات نووية حقيقية. فالسعودية- وفق الكثير من التقديرات خلال الفترة الماضية- ظلت الدولة الخليجية الأولى المرشحة للدخول في سباق "تسلح نووي" مع إيران، إذا فشل الغرب في وقف البرنامج النووي الإيراني، حيث جاء على لسان أكثر من مسئول سعودي أنه في مثل هذه الحالة، فإن "كل الخيارات مطروحة".

وحتى إذا أثمرت المفاوضات النووية الجارية مع إيران عن السماح لها بامتلاك حد أدني من القدرات النووية السلمية، وهذا هو الاحتمال المرجح في حال نجاح المفاوضات، فإن المملكة  ستكون مطالبة بالإسراع في اتخاذ خطوات متقدمة في برنامجها النووي، وقد لا تنتظر حتى عام 2032، حيث الموعد المقرر لبناء محطات نووية بقدرة 17 جيجاوات.

أما الإمارات، فتعد الدولة الخليجية الأولى التي قطعت أشواطاً مهمة ومتقدمة في برنامجها النووي، بدءًا من صدور "وثيقة السياسة العامة لدولة الإمارات في تقويم إمكانية تطوير برنامج للطاقة النووية السلمية في الدولة"، وذلك في أبريل 2008، ثم تحويل ما جاء في هذه الوثيقة إلى تدابير وتشريعات ومؤسسات، من خلال المرسوم بقانون اتحادي رقم (6) لسنة 2009 في شأن الاستعمالات السلمية للطاقة النووية، وإنشاء مؤسسة الإمارات للطاقة النووية (ENEC)، إضافة إلى توقيع اتفاقيات مع عدد من الدول في هذا المجال مثل الولايات المتحدة، وفرنسا، وبريطانيا، واليابان، وكوريا الجنوبية. ووفقاً للوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن أول محطة كهرباء تعمل بالطاقة النووية في الإمارات ستكون جاهزة بحلول 2015.

غاية القول مما سبق هو أن الخيار النووي الخليجي لم يعد يستند فقط إلى مبررات اقتصادية خليجية مهمة تتعلق في مجملها بالاستعداد لمرحلة ما بعد النفط، وإنما أصبح خياراً وقائياً مهماً في مواجهة القدرات النووية الإيرانية، كما سيُمثل دائماً عامل ضغط على القوى الدولية – خاصة الولايات المتحدة- لوضع خطوط حمر للبرنامج النووي الإيراني، لا يجوز لطهران أن تتخطاها، لأن التهديدات الخليجية، في مثل هذه الحالة، والتي تشير كما سبق إلى أن "كل الخيارات ستكون مطروحة"، سوف تستند إلى أساس وبنية تحتية قائمة، يمكن تحويل وجهتها متى استدعت الظروف والمتغيرات ذلك.


رابط دائم: