منع الامتدادات:|التداعيات الإقليمية للصراع الداخلي في جنوب السودان
21-1-2014

بلال عبد الله
* باحث في العلوم السياسية

 21 يناير 2014

على الرغم من الجهود الإقليمية والدولية المحمومة التي سعت إلى التوسط بين طرفي الصراع في جنوب السودان منذ بداية اندلاع المواجهات المسلحة منتصف ديسمبر 2013، فإن هذه الجهود لمتثمر نتائج ملموسة، ومن ثم لم تستطع وقف دوران عجلة الصراع حتى الآن.

وكأي صراع عسكري يدور في بيئة منقسمة إثنياً، فإن هناك علاقة طردية بين استمرار الصراع وزيادة تعقيده، ومن ثم صعوبة السيطرة عليه فيما بعد، الأمر الذي غالباً ما ينتج عنه مخاطروتداعيات أخرى تتجاوزطرفي الصراع الرئيسيين، إلى أن ينتهي الأمر إلى وضع شديد التشابك يتداخل فيه الصراع وأطرافه الرئيسيون مع قضايا إقليمية تمس مصالح بقية دول الإقليم.

في هذا الإطار، فإنه لا يمكن فهم التداعيات الإقليمية القائمة والمحتملة للصراع في جنوب السودان بمعزل عن النظر إلى طبيعة التعاطي الإقليمي مع مجرياته حتى الآن، ليس فقط من خلال تسليط الضوء على التباين في سلوك الدول التي سعت للتفاعل مع هذا الصراع، لكن أيضاً عبر الأخذ في الحسبان الثمن السياسي الذي يمكن أن تدفعه الدول التي أحجمت عن الوجود ضمن المشهد الإقليمي الخاص بالتعامل مع الصراع، هذا فضلاً عن التداعيات الميدانية التي تتكبدها دول الجوار جرّاء استمرارالمواجهات العسكرية.

ويمكن تقسيم التداعيات الإقليمية للصراع في جنوب السودان إلى ثلاثة مستويات، يتناول الأول التداعيات النظامية على مجمل التفاعلات بين دول حوض النيل، والثاني خاص بالتداعيات الاقتصادية والاجتماعية على دول الجوار، والثالث خاص بالتداعيات الأمنية والعسكرية على بعض البؤر الصراعية في المحيط الإقليمي لجنوب السودان.

 التداعيات على أزمة المياه في حوض النيل:

يعد ملف المياه هو الخيط الناظم لمجمل العلاقات بين دول حوض نهر النيل. وبالنظر إلىمواقف دول الحوض إزاءترتيبات التعاون المائي خلال السنوات الأخيرة بشأن الاتفاقية الإطارية في عنتيبي، نجد أنها تشهد انقساماً بين دولتيّ المصب، مصر والسودان، في جانب، مقابل بقية دول الحوض في الجانب الآخر. وعقب انفصال جنوب السودان عن الدولة الأم، حاولت الدولة الجديدة تطمين دولتيّ المصب بشأن موقفها من الحقوق التاريخية للدولتين، وبالأخص مصر،وعدم سعيها لاتخاذ مواقف عدائية. غير أن الواقع العملي كان يشير إلى أن جنوب السودان كانت أقرب سياسياً في مواقفها إلى بقية دول الحوض.

عقب اندلاع الصراع في جنوب السودان، ثارت تساؤلات بشأن غياب الدور المصري عن الجهود الإقليمية الساعية لاحتواء الصراع، في الوقت الذي تستضيف فيه إثيوبيا في العاصمة أديس أبابا المفاوضات بين الطرفين المتناحرين، فضلاً عن الدور القوي الذي يمارسه الرئيس الأوغندي، يوري موسيفيني، في تقديم الدعم العسكري لحكومة جوبا على الأرض.

هذا الوجود الكثيف لكل من إثيوبيا وأوغندا على خط الأزمة يجعل أي تسوية تتم في هذا الملف لا تكون بمعزل عن مصالح الدولتين، دون النظر بالضرورة إلى طبيعة المصالح المصرية. وبالتالي، فإن أي تسوية يتم التوصل إليها بضمانة هذه الأطراف سوف تنعكس على موقف جوبا إزاء الملفات المشتركة، ومنها ملف مياه النيل، والذي تتخذ فيه كل من أديس أبابا وكمبالا مواقف مناوئة للمصالح المصرية.

بعبارة أخرى، فإن مسألة الوساطة والدورالإقليمي في الصراع الدائر حالياً سوف تنعكس تبعاته على تشكيل موقف جوبا منمختلف الملفات الإقليمية الأخرى بشكل يلتقي مع مصالح الدول صاحبة النفوذ الإقليمي الأكبر، والتي سيكون لها دور في إدارة أو حسم أزمة الصراع على السلطة في جنوب السودان حالياً.

هذا القول ينطبق على مختلف مآلات الصراع، وبصرف النظر عما إذا كان ستجري تسويته، أم سيستمر القتال في صورة حرب أهلية بين القبيلتين الكبيرتين اللتين ينتمي إليهما الزعيمان سيلفا كير ( الدينكا)، ورياك مشار ( النوير). ففي حال استمرار الصراع في صورة حرب أهلية، فمن المرجح وقتها أن تقوم الأمم المتحدة بإرسال قوات حفظسلام، يكون قوامها قوات من إثيوبيا وأوغندا بالأساس، وهو ما يعني وجوداً مباشراً لتلك الدولتين على حدود إحدى دول المصب وهي السودان. أما فى حال التوصل إلى تسوية سياسية، فكما تمت الإشارة فإن هذا الأمر سوف ينعكس على ملف مياه النيل في صورة تنسيق أكبر في المواقف بين جوبا، وأديس أبابا، وكمبالا،  بشكل يؤدي إلى وجود نفوذ أكبر من السابق لهاتين الدولتين في ذلك الملف.

التداعيات الاقتصادية والاجتماعية:

يتمثل المستوى الثاني من التداعيات في الآثارالاقتصادية، وما يرتبط بها من أعباء الإغاثة الإنسانية التي تتكبدها دول الجوار. ففيما يتعلق بالأعباء الاقتصادية المباشرة، يمكن الإشارة إلى الآثارالناجمة عن اتخاذ المدن النفطية مسرحاً للقتال، وإحكام المتمردين سيطرتهم على تلك المدن.ومن هذا المنطلق، يمكن النظر إلى التداعيات الاقتصادية على دول الجوارمن زاويتين، الأولى خاصة بتداعيات توقف أو تراجع تصدير النفط على دولة السودان، والأخرى خاصة بتأثير تراجع حصيلة صادرات النفط على الأوضاع الاقتصادية لجنوب السودان بشكل يؤدي إلى زيادة موجة النزوح إلى دول الجوار.

فيما يتعلق بالتداعيات على دولة السودان، فجديربالذكر أن السودان قد خسر الكثير من جراء انفصال الجنوب فيما يتعلق بالثروة النفطية، حيث كانت أغلب الثروة النفطية السودانية تقع في أراضي الجنوب. وبعد الانفصال، ونظراً لكون جنوب السودان دولة حبيسة لا تطل على أية سواحل، فإن هذا قد جعل السودان هو المنفذ الوحيد لتصدير نفط الجنوب، وأصبحت رسوم مرور النفط من الجنوب عبر أراضي السودان تمثل مورداً مهما للخزانة السودانية.

بعد اندلاع الصراع في الجنوب الآن، توقفت بعض محطات إنتاج النفط عن العمل،حيث أحكم المتمردون سيطرتهم على بعض المدن النفطية المهمة. ومن ثم، فإن استمرار الصراع في الجنوب من شأنه أن ينعكس على استمرار تدفق النفط من الجنوب عبر أراضي الشمال إلى أجل غير مسمى، وهو ما سيؤثر فى موارد الدولة السودانية. ويكتسب هذا الأمر خطورته الاستراتيجية في ضوء تأثير الأوضاع الاقتصادية فى استقرار النظام الحاكم في السودان، كما ظهر في شهري سبتمبر وأكتوبر من عام 2013، حين اندلعت تظاهرات شعبية واسعة النطاق في شوارع السودان، على خلفية رفع الدعم عن الوقود وبعض السلع الأساسية.

من ناحية أخرى، فإن اتخاذ المدن النفطية مسرحاً للمواجهات العسكرية، في مسعى من المتمردين للضغط على حكومة الجنوب، من شأنه أن يؤثر فى الأوضاع الاقتصادية للبلاد، بالنظر لكون النفط يمثل مصدر الدخل القومي الرئيسي لجنوب السودان. ويترافق ذلك مع اتجاه المواطنين إلى النزوح إلى دول الجوار بدلاً من النزوح الداخلي، لاسيما مع اتساع نطاق المواجهات العسكرية ليشمل عدة ولايات.

تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أنه خلال نحو شهر واحد، بلغ عدد النازحين إلى دول الجوار نحو 86 ألف شخص، منهم نحو 47 ألفا في أوغندا، حيث يعاني اللاجئون حالة اكتظاظ شديد في مركز دزيابي للعبور في شمال أوغندا، بالإضافة إلى مشاكل تتعلق بالنظافة، والغذاء، ونقص المياه، وفق ما تشير إليه مفوضية شئون اللاجئين بالأمم المتحدة. كما بلغ عدد اللاجئين في إثيوبيا أكثر من 20 ألفاً، ونحو 9 آلاف في كينيا . ويشار إلى أن اللاجئين في تلك الدولتين يواجهون أيضا مشكلات مماثلة تتعلق بتوفر المياه النظيفة، والصرف الصحي، والصحة، والإيواء، والتعليم. وأخيراً، وصل ما يزيد على 10 آلاف إلى ولايتي جنوب وغرب كردفان، فضلاً عن نزوح عدد آخر إلى إقليم دارفور، وهي كلها مناطق غير مستقرة في السودان على أي حال.

التداعيات الأمنية والعسكرية:

يتمثل المستوى الثالث للتداعيات الإقليمية الناجمة عن الصراع في جنوب السودان في تأثيره فى بؤر التوترالأخرى في بعض دول الجوار، وذلك على خلفية عاملين أساسيين، يتمثل العامل الأول في خطر انتشار عدوى عدم الاستقرار في البيئات المجتمعية الشبيهة، وفق منطق الدومينو، بينما يتعلق العامل الآخر بتأثير الدور الإقليمي لبعض دول الجوار فى امتداد الصراع إلى خارج السودان، وتداخله مع صراعات إقليمية أخرى.

تشير سلوكيات الأطراف الخارجية إلى الوعي بخطورة العامل الأول، ويتشكل موقف الدول الراعية للوساطة على خلفية الخشية من حدوث أمرين.الأمرالأول هو نجاح المتمردين في الإطاحة بسلفا كير من السلطة، وهو ما يمثّل– في حالة تحققه– خطراً كبيراً على استقرار العملية السياسية في دول الجوار التي يعاني بعضها صراعاً على السلطة، حيث سيعطي القبول بالأوضاع الجديدة وقتها شرعية لاستخدام السلاح في الصراع على السلطة، وهو ما يصطدم على أية حال مع ميثاق الاتحاد الإفريقي الذي لا يعترف بأي حكومة تتولى السلطة عن طريق العنف.

أما الأمر الآخر، فهو تأثير استمرار الصراع في جنوب السودان بشكل يؤدي إلى انتشار عدوى الحروب الأهلية إلى دول الجوار. وتشير خبرة هذه الدول، وبالأخص في منطقة البحيرات العظمى، إلىسهولة انتشار الحروب الأهلية من دولة إلى أخرى، سواء بحكم التداخل والتشابك الإثني بين مجتمعات هذه الدول، أو بسبب طموحات بعض القادة فى توظيف هذه الصراعات في سبيل تحقيق مكاسب سياسية.

في هذا الإطار، يمكن أن نضع الجهود الإقليمية الدءوبة الساعية إلى احتواء الصراع ولملمته منذ بداية اندلاع المواجهات العسكرية بين الطرفين المتناحرين.  بعبارة أخرى، فإن دول الجوار التي تتولي جهود الوساطة، وكذلك الأطراف الدولية الأخرى، تسعى إلى تحقيق هدفين من أجل منع أو محاصرة أية تداعيات أمنية محتملة للصراع على دول الجوار. يتمثل  الهدف الأول في عدم السماح للمتمردين بتحقيق أهدافهم من خلال استخدام القوة العسكرية، كي لا يؤسس ذلك لنمط جديد من الممارسة قد ينعكس على هذه الدول أنفسها، بينما يتمثل الهدف الآخر في استيعاب مطالب المتمردين بشكل سلمي يحول دون استمرار الصراع في صورة حرب أهلية قد تخرج عن نطاق السيطرة، وتتجاوز تأثيراتها النطاق الإقليمي لجنوب السودان.

في مقابل هذه الجهود السلمية التي تقوم بها دول الجوار، والتي من شأن نجاحها التمكّن من منع انتشارالصراع خارج حدود الدولة، تبرز هنا مواقف الرئيس الأوغندي، يوري موسيفيني، بحسبانها مصدر الخطر الأكبر الذي قد يؤدي إلى وقوع ما تخشى منه دول الجوار. ففي بداية الصراع، أرسل يوسيفيني تهديداته إلى مشار من قلب عاصمة جنوب السودان، طالباً منه الاستسلام، ثم بعدها قرر إرسال قواته للقتال بجانب جيش حكومة الجنوب. وبذلك، فقد سلك موسيفيني سلوكاً مغايراً لبقية دول الجوار الساعية إلى التوسط بين الطرفين للتوصل إلى حل سلمي للصراع، وهو السلوك الذي من شأنه تعقيد الأوضاع بشكل يحول دون نجاح جهود الوساطة.

تشير الخبرة التاريخية لممارسات موسيفيني إلى دور كبير مارسه في صراعات منطقة البحيرات العظمى،سواء في الصراع بين الهوتو والتوتسي في رواندا وبوروندي، أو في صراعات شرق الكونغو، فضلاً عن الصراع في شمال أوغندا ضد جماعة جيش الرب، ومن ثم فإنه كان له دورمهم في انتشار الصراعات بين دول الإقليم خلال العقود الثلاثة الماضية.

ويمكن القول إن مخاطر انتشار الصراع من جنوب السودان إلى أوغندا تأتي على خلفية ثلاثة أمور،الأول هو السلوك العدائي لموسيفيني تجاه قوات مشار،والثاني هوعدم وجود حلفاء إقليميين داعمين لمشار حتى الآن، مما قد يدفعه إلى التحالف مع جماعة جيش الرب في شمال أوغندا، في سبيل بحثه عن ظهير إقليمي يمكّنه من الصمود ضد خصمه الداخلي، سلفا كير، والخارجي، يوري موسيفيني،والثالث هو وجود علاقات تحالف بين جماعة جيش الرب وعناصر منتمية لبعض قبائل تنتمي إلى جنوب السودان مثل الأشولي والمورلي، وهو ما ينذر، في حالة تعمق الطابع الإثني، واتساع رقعة المناوئين لقبيلة الدينكا الحاكمة، بانتقال المواجهات إلى الأراضي الأوغندية.
 


رابط دائم: