الدبلوماسي المفكر‮ :| ‬أسامة الباز‮ .. ‬دور فاعل في السياسة المصرية
12-11-2013

د. وليد محمود عبدالناصر
* كاتب ومفكر مصري

في ساعة مبكرة من صباح يوم السبت الموافق‮ ‬14 سبتمبر‮ ‬2013 ، صعدت روح السفير الدكتور‮/ ‬أسامة الباز إلى بارئها،‮ ‬بعد صراع مع المرض،‮ ‬عن عمر يناهز اثنين وثمانين عاما‮. ‬وبذلك،‮ ‬انتهت حياة طويلة حافلة بالعطاء من أجل الوطن والأمة،‮ ‬وبقيت الذكرى معنا،‮ ‬كما بقي معنا العديد من الذكريات والخبرات للأجيال الحالية،‮ ‬ولأجيال قادمة من أبناء مصر،‮ ‬والأمة العربية‮.‬

لم يكن السفير الدكتور‮/ ‬أسامة الباز سفيرا عاديا،‮ ‬أو دبلوماسيا نمطيا،‮ ‬بل كان،‮ ‬وستبقى ذكراه،‮ ‬إنسانا شديد الخصوصية،‮ ‬من حيث تعدد مجالات تفرده،‮ ‬وتميزه،‮ ‬وتنوع إسهاماته الثرية على أكثر من صعيد،‮ ‬جمع بينها جميعا الموقف الملتزم،‮ ‬بدون انقطاع،‮ ‬بما يراه الصواب إزاء قضايا الوطن المصري،‮ ‬وهموم الأمة العربية،‮ ‬والأحلام المشروعة للشعوب في الحرية والاستقلال‮.‬

فقد جمع الراحل الكريم بين دور الدبلوماسي النابغة،‮ ‬ودور الشاب الناشط،‮ ‬وطنيا ومجتمعيا،‮ ‬ودور القيادي الطلابي العربي،‮ ‬ودور الدارس والباحث الأكاديمي الجاد،‮ ‬ودور‮ "‬الأستاذ‮" ‬في معهد الدراسات الدبلوماسية المصري،‮ ‬التابع لوزارة الخارجية المصرية،‮ ‬ودور السياسي الذي يشعر بمشاعر رجل الشارع من المواطنين العاديين،‮ ‬ويسعي لربط ذلك ليؤخذ في الحسبان لدى أعلى دوائر صنع القرار في الدولة‮. ‬ومع كل ما تقدم،‮ ‬جمع السفير الدكتور أسامة الباز‮ - ‬رحمه الله‮ - ‬أيضا بين دور المثقف والمشجع للثقافة،‮ ‬ودور المتذوق للفنون،‮ ‬على تنوعها،‮ ‬والراعي لأنشطتها‮.‬

"‬ذاكرة‮" ‬وزارة الخارجية المصرية‮:‬

تميز السفير الدكتور‮/ ‬أسامة الباز بأنه يكاد يكون الدبلوماسي الوحيد في تاريخ وزارة الخارجية المصرية،‮ ‬منذ نشأتها،‮ ‬الذي لم يعمل في أي بعثة دبلوماسية أو قنصلية لمصر في الخارج،‮ ‬وقضى حياته بعد التخرج ما بين العمل كمعاون نيابة،‮ ‬ثم كدبلوماسي،‮ ‬وجمع بين ذلك والدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية،‮ ‬ولعب دورا قياديا هناك في سياق تأسيس،‮ ‬ثم إدارة رابطة الطلبة العرب في الولايات المتحدة،‮ ‬ثم في قارة أمريكا الشمالية بأسرها‮. ‬وبالتالي،‮ ‬فقد بقي السفير الدكتور‮/ ‬أسامة الباز في العمل في الديوان العام لوزارة الخارجية بالقاهرة لسنوات طويلة،‮ ‬ولكن دائما في مواقع مؤثرة به،‮ ‬حيث يكفي أن نذكر أنه عمل في مرحلة مبكرة في إدارة المعلومات والبحوث والتقديرات التي كانت موجودة حينذاك،‮ ‬والتي كانت تعد واحدة من أهم الإدارات في وزارة الخارجية في ذلك الوقت‮. ‬ومن هذا الموقع،‮ ‬على سبيل المثال،‮ ‬أصبح علي اتصال مباشر مع سكرتارية المعلومات برئاسة الجمهورية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر،‮ ‬والتي كان يتولي مسئوليتها في ذلك الوقت السيد‮/ ‬سامي شرف‮.‬

وفي ضوء طول فترة عمل وبقاء السفير الدكتور‮/ ‬أسامة الباز في ديوان عام وزارة الخارجية بالقاهرة،‮ ‬وحسن توظيفه لهذه الاستمرارية،‮ ‬أصبح السفير الدكتور‮/ ‬أسامة الباز يمثل،‮ ‬وعن حق،‮ ‬ذاكرة مؤسسية حية لوزارة الخارجية،‮ ‬بل وللدولة المصرية بأسرها،‮ ‬في المسائل التي تتعلق بعلاقات مصر الخارجية،‮ ‬ودورها في العلاقات الدولية،‮ ‬وهي ذاكرة اتصفت لعقود بالاستمرارية والتواصل،‮ ‬ولم تعان الانقطاع المعتاد الذي يتعرض له الدبلوماسيون،‮ ‬نتيجة تنقلهم المستمر بين ديوان عام الوزارة بالقاهرة،‮ ‬والبعثات الدبلوماسية أو القنصلية التي يعملون فيها بالخارج‮. ‬فقد كان دائما،‮ ‬وعلى مر العصور واختلاف الأزمنة،‮ ‬وتعاقب من تولوا مسئولية حقيبة وزارة الخارجية المصرية،‮ ‬يتم اللجوء إليه لمعرفة خلفيات قرار ما للأمم المتحدة،‮ ‬خاص بالقضية الفلسطينية مثلا،‮ ‬أو لاستحضار ما جرى،‮ ‬على سبيل المثال،‮ ‬في جلسة محادثات معينة بين الرئيس الراحل محمد أنور السادات،‮ ‬أو الرئيس الأسبق حسني مبارك،‮ ‬ورئيس دولة،‮ ‬أو ملك،‮ ‬أو أمير،‮ ‬أو مسئول أجنبي مهم،‮ ‬أو للحصول علي صورة وثيقة مهمة قديمة أو حديثة،‮ ‬على حد سواء تكون في لحظة ما مفقودة‮.‬

أما الميزة الثانية التي تمتع بها السفير الدكتور‮/ ‬أسامة الباز،‮ ‬نتيجة الجمع بين الكفاءة المهنية والقدرات الذاتية الفريدة والبارزة،‮ ‬وطول فترة البقاء في مصر،‮ ‬فهي التمكن من التفوق والإبداع والتميز،‮ ‬والتحول من مجرد منفذ لقرارات أو سياسات يتخذها‮ ‬غيره إلي مشارك فاعل،‮ ‬وفي أحيان كثيرة،‮ ‬بدرجة كبيرة،‮ ‬في صنع القرارات،‮ ‬وصياغة السياسات،‮ ‬واقتراح استراتيجيات وبدائل التحرك الخارجي،‮ ‬بناء على قراءته للأحداث بشكل متعمق يستطيع اكتشاف وفهم دلالات ما بين السطور،‮ ‬ويستوعب الخلفيات والتطورات،‮ ‬ويحلل التحولات،‮ ‬ويملك القدرة علي التفرقة بين الثوابت والمتغيرات،‮ ‬وتفرده بالقدرة الفائقة على تحويل الأفكار وترجمتها بشكل سريع إلي برنامج عمل محدد وقابل للتنفيذ علي أرض الواقع بشكل ملموس،‮ ‬وذلك كله من واقع الخبرات المتراكمة لديه،‮ ‬ومن واقع ذكائه المتقد،‮ ‬وقدراته التحليلية الرفيعة التي صقلها أيضا وعززها بواسطة الدراسة الأكاديمية،‮ ‬والنشاط البحثي،‮ ‬والكتابة في الصحافة والدوريات العامة والمتخصصة علي حد سواء،‮ ‬وكذلك أخذا في الحسبان قيامه علي مدي السنوات والعقود ببناء شبكات واسعة وناجحة من العلاقات الوطيدة القائمة على الثقة المتبادلة مع صناع القرار والمؤثرين فيه من إعلاميين،‮ ‬وسياسيين،‮ ‬وحزبيين،‮ ‬وبرلمانيين،‮ ‬ومثقفين،‮ ‬ومبدعين في الكثير من أهم دول العالم والمنطقة‮.‬

محور اتصال مؤسسي فارق‮:‬

ولكن كان للسفير الدكتور‮/ ‬أسامة الباز خصوصية أخري لم يضاهه فيها أي دبلوماسي آخر،‮ ‬وهي الجمع،‮ ‬ومنذ عام‮ ‬1977 بين العمل في مؤسسة رئاسة الجمهورية من جهة،‮ ‬والعمل في مؤسسة وزارة الخارجية من جهة أخري،‮ ‬وتحديدا بين منصب المستشار السياسي لنائب رئيس الجمهورية،‮ ‬ثم لرئيس الجمهورية منذ أكتوبر‮ ‬1981 ومنصب وكيل أول وزارة الخارجية،‮ ‬وهو ما أفاده كثيرا في التعرف علي المدخلات ووجهات النظر والرؤى من مؤسستين من مؤسسات الدولة الأساسية في صنع القرار السياسي،‮ ‬خاصة ما يتعلق بقرار السياسة الخارجية‮. ‬كما أن ذلك الوجود المستمر في المؤسستين سهل دائما من مهمة التفاعل الإيجابي والبناء بين المؤسستين،‮ ‬حيث مثل السفير الدكتور‮/ ‬أسامة الباز على مدى سنوات،‮ ‬بل وعقود،‮ ‬العنصر المشترك الجامع بينهما،‮ ‬وذلك في ظل وحدة الهدف النهائي بين المؤسستين،‮ ‬وهو خدمة المصالح الوطنية العليا لمصر،‮ ‬وتلبية متطلبات أمنها القومي على أفضل وجه‮.‬

وجاءت استمرارية السفير الدكتور‮/ ‬أسامة الباز بداية بعمله بإدارة المعلومات،‮ ‬كما ذكرنا من قبل في هذا المقال،‮ ‬مرورا بتولي منصب مدير مكتب وزير الخارجية الراحل‮/ ‬إسماعيل فهمي،‮ ‬خلال فترة مهمة للغاية في تاريخ مصر المعاصر ما بعد حرب السادس من أكتوبر‮ ‬1973 العاشر من رمضان‮ ‬1393هـ المجيدة مباشرة،‮ ‬وحتي استقالة الوزير الراحل‮/ ‬إسماعيل فهمي،‮ ‬عقب زيارة الرئيس المصري الراحل السادات للقدس في نوفمبر‮ ‬1977، حيث انتقل بعدها السفير الدكتور‮/ ‬أسامة الباز للعمل في موقع آخر،‮ ‬حيث أصبح مديرا لمكتب السيد‮/ ‬محمد حسني مبارك،‮ ‬نائب رئيس الجمهورية،‮ ‬في ذلك الوقت،‮ ‬للشئون السياسية،‮ ‬وأصبح مدير مكتب رئيس الجمهورية للشئون السياسية،‮ ‬ومستشاره الرئيسي عقب اغتيال الرئيس الراحل‮ / ‬محمد أنور السادات،‮ ‬وتولى الرئيس الأسبق‮/ ‬مبارك الحكم في أكتوبر‬1981.

الحضور القومي في سنوات التكوين‮:‬

ولكننا نحتاج للتوقف هنا،‮ ‬والعودة قليلا إلى الوراء لنتابع مسيرة الشاب،‮ ‬ثم طالب الدراسات العليا أسامة الباز،‮ ‬حيث إنه كان قد ارتبط في مرحلة مبكرة من مراحل تكوينه الفكري والسياسي‮ - ‬مثله في ذلك مثل الكثيرين من الشباب النشط سياسيا،‮ ‬والفاعل وطنيا،‮ ‬والواعي قوميا من أبناء جيله‮ - ‬بمنظمة الشباب العربي الاشتراكي،‮ ‬والتي شكلت الإطار التنظيمي الجامع الوحيد المتاح لقطاعات واسعة من الشباب المصري،‮ ‬منذ مطلع عقد الستينيات من القرن العشرين،‮ ‬والتي كانت بدورها تتبع الاتحاد الاشتراكي العربي،‮ ‬التنظيم السياسي والشعبي الوحيد في مصر في ذلك الوقت‮. ‬وقد برز الدكتور أسامة الباز،‮ ‬رحمه الله،‮ ‬ضمن أقرانه في تلك الفترة،‮ ‬وظهرت مبكرا ملكاته الفكرية والسياسية المتميزة،‮ ‬مما جعله محط الأنظار،‮ ‬وموضع الإعجاب من زملائه ورؤسائه علي حد سواء،‮ ‬ومكنه هذا التميز بوضوح من الصعود سريعا في الفترات اللاحقة في حياته العملية والوظيفية‮.‬

وقد تم قبول أسامة الباز،‮ ‬رحمه الله،‮ ‬كطالب دراسات عليا بجامعة هارفارد الأمريكية،‮ ‬واحدة من كبرى وأهم الجامعات،‮ ‬ليس فقط في الولايات المتحدة الأمريكية،‮ ‬بل على مستوي العالم ككل‮. ‬وفي الولايات المتحدة الأمريكية،‮ ‬لم يتفرغ‮ ‬أسامة الباز للدراسة فقط،‮ ‬بل دفعه حسه الوطني والقومي العربي،‮ ‬وحاسته السياسية إلى الانضمام والاندماج سريعا في جهود وأنشطة الطلاب العرب لبناء كيان موحد وقوي لهم،‮ ‬يمثلهم ويجعل لهم صوتا داخل المجتمع الأمريكي،‮ ‬ويساعدهم في تعريف الرأي العام الأمريكي بوجهات النظر العربية تجاه مختلف القضايا،‮ ‬ويسهم في تعبئة قدر أفضل من التفهم،‮ ‬وربما الدعم،‮ ‬ولو الجزئي،‮ ‬للمسائل التي تهم العرب،‮ ‬وفي مقدمتها بالطبع في ذلك الوقت القضية الفلسطينية‮. ‬وتزامن مع ذلك وارتبط به بدء ظهور كتابات قيمة للدكتور‮/ ‬أسامة الباز في عدد من الصحف والدوريات التي كانت تصدر في الولايات المتحدة الأمريكية،‮ ‬سواء ما كانت تصدره رابطة الطلبة العرب من مطبوعات هناك،‮ ‬أو ما كان يخرج عن بعض المنظمات التي تمثل الجاليات العربية،‮ ‬أو حتى دوريات وصحف معنية بالشئون العربية،‮ ‬وشئون الشرق الأوسط،‮ ‬وهو ما لم يكن منتشرا بعد في الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الفترة‮. ‬

يضاف إلي ذلك أن ما كان موجودا من صور الصحافة،‮ ‬وأشكال النشر،‮ ‬ووسائل الإعلام المعنية بشئون الشرق الأوسط في الولايات المتحدة الأمريكية،‮ ‬في ذلك الوقت،‮ ‬كان في معظمه،‮ ‬وبشكل أو بآخر،‮ ‬تحت سيطرة أو تأثير جماعات الضغط الموالية لإسرائيل،‮ ‬وقليل من هذه الوسائط هي التي كانت تسمح للصوت العربي بالتعبير عن رؤيته ومواقفه‮. ‬وكانت كتابات الدكتور‮/ ‬أسامة الباز تمثل علامة بارزة ضمن الكتابات العربية في تلك الفترة،‮ ‬من حيث منطقها في شرح والدفاع عن المواقف العربية،‮ ‬ولكن بشكل مفهوم للمجتمع الأمريكي،‮ ‬في ضوء فهم الدكتور‮/ ‬أسامة الباز،‮ ‬منذ مرحلة مبكرة،‮ ‬للعقلية ومنهج التفكير لدى المواطن الأمريكي،‮ ‬وديناميات عملية اتخاذ القرار وصنع السياسات في واشنطن،‮ ‬ودور جماعات الضغط،‮ ‬ووسائل الإعلام،‮ ‬ودوائر المال والتجارة،‮ ‬ورجال الأعمال،‮ ‬والمجمع الصناعي‮ -‬العسكري في الواقع السياسي الأمريكي‮.‬

ويرتبط ذلك الدور بدور آخر تولاه في القاهرة السفير الدكتور‮/ ‬أسامة الباز،‮ ‬رحمه الله،‮ ‬في فترة لاحقة،‮ ‬وهو المسئولية عن والإشراف علي البرنامج التدريبي للملاحق الدبلوماسيين المنضمين حديثا لوزارة الخارجية المصرية في معهد الدراسات الدبلوماسية،‮ ‬وكرس الكثير من الوقت والجهد لسنوات،‮ ‬وبكل الصدق والتفاني،‮ ‬وبإحساس من هو ممتلئ بالقناعة بأنه يؤدي مهمة شديدة الأهمية،‮ ‬وذات طابع مقدس،‮ ‬ويراها جزءا لا يتجزأ من واجبه تجاه وطنه،‮ ‬لإعداد دبلوماسيين ودبلوماسيات علي مستوى مهني مناسب،‮ ‬وجديرين بتمثيل مصر علي أفضل صورة،‮ ‬ويتسمون بالالتزام الوطني والحس القومي،‮ ‬ويغمرهم الشعور بالولاء للوطن،‮ ‬ويفخرون بالانتماء لمصر،‮ ‬مؤمنين بمركزيتها،‮ ‬ومحورية دورها‮. ‬وسعى دائما لنقل عصارة خبراته وتجاربه لهم،‮ ‬من منطلق وضوح الرؤية لديه بأهمية مفهوم تطوير الموارد البشرية،‮ ‬عبر صقلها من خلال الدراسة النظرية والتدريب العملي،‮ ‬وما يرتبط بذلك من بناء القدرات‮.‬

"‬مهندس‮" ‬التسوية السلمية‮:‬

وإذا كنا قد ذكرنا،‮ ‬في فقرة سابقة،‮ ‬أن السفير الدكتور‮/ ‬أسامة الباز،‮ ‬رحمه الله،‮ ‬كان يشكل ذاكرة مؤسسية للسياسة الخارجية المصرية،‮ ‬فإنه أيضا،‮ ‬وعلي وجه التحديد،‮ ‬كان يمثل ذاكرة مؤسسية حية لكل ما يخص الصراع العربي‮ - ‬الإسرائيلي،‮ ‬وما ارتبط به من عملية السلام التي انطلقت عقب زيارة الرئيس المصري الراحل السادات للقدس في نوفمبر‮ .‬1977 وقد تعرض السفير الدكتور‮/ ‬أسامة الباز خلال حياته،‮ ‬وعلي مدى سنوات طويلة،‮ ‬للاتهام،‮ ‬سواء من البعض داخل مصر أو من خارجها،‮ ‬خاصة من بعض الدوائر في الوطن العربي،‮ ‬بأنه كان بمثابة‮ "‬مهندس‮" ‬مسيرة التسوية السلمية للصراع العربي‮ - ‬الإسرائيلي التي بدأت منذ نوفمبر‮ ‬1977، والتي عدّها منتقدوها في ذلك الوقت تكريسا لمسار التسوية المنفردة بين مصر وإسرائيل،‮ ‬ومقدمة لإخراج مصر من حلبة المواجهة العربية-الإسرائيلية،‮ ‬ومن ثم لعزلة مصر العربية،‮ ‬التي جاءت نتيجة قرارات القمة العربية التي عُقدت في بغداد في نوفمبر‮ ‬1978، وذلك عقب شهرين من توقيع مصر وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية إطار كامب ديفيد بمكونيه لتسوية الصراع بين مصر وإسرائيل من جانب،‮ ‬ولتسوية القضية الفلسطينية من جانب آخر‮.‬

إلا أن قراءة أخرى لذلك الدور قد تؤدي بنا إلى استنتاج مختلف،‮ ‬حيث إن المسار الذي اختاره الرئيس الراحل السادات،‮ ‬بدءا من نوفمبر‮ ‬1977 كان بمحض قراره واختياره،‮ ‬وإنما يمكن النظر إلي دور السفير الدكتور‮/ ‬أسامة الباز،‮ ‬رحمه الله،‮ ‬وتفسيره علي أنه ربما عمل قدر الإمكان‮ - ‬من خلال بقائه واستمراره في الدائرة الضيقة الموجودة في السلطة،‮ ‬والمحيطة مباشرة بعملية اتخاذ القرار‮ - ‬من أجل تحسين شروط التسوية السلمية وظروفها،‮ ‬وذلك عبر محاولة العمل على تعظيم العائد،‮ ‬وزيادة المكاسب مقابل تحجيم أو احتواء أي خسارة قد تعود علي مصر والقضية الفلسطينية،‮ ‬جراء هذا المسار،‮ ‬وكذلك لضمان أن يؤدي هذا المسار إلي الحل النهائي والدائم والشامل للقضية الفلسطينية،‮ ‬بجانب تلبية المطالب الوطنية المصرية،‮ ‬بالطبع،‮ ‬على أسس وركائز تلبي على الأقل الحد الأدني من المطالب الوطنية المشروعة لأصحاب القضية،‮ ‬أي الشعب الفلسطيني،‮ ‬وهو ما تدعمه جهود قام بها في عقد الثمانينيات من القرن العشرين لإدماج الجانب الفلسطيني في عملية التسوية،‮ ‬والسعي للحصول على اعتراف أمريكي بمنظمة التحرير الفلسطينية،‮ ‬وفي مرحلة لاحقة اعتراف إسرائيلي بالمنظمة،‮ ‬كممثل شرعي للشعب الفلسطيني‮. ‬وقد قام بجهوده حتي فيما بين الفصائل الفلسطينية على مدى أكثر من دورة من دورات المجلس الوطني الفلسطيني،‮ ‬منذ منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم،‮ ‬بهدف مزدوج‮: ‬ضمان توحيد الصف الفلسطيني خلف قيادته،‮ ‬بما يعزز من الموقف السياسي والتفاوضي للقيادة الفلسطينية آنذاك من جهة،‮ ‬ولضمان الدعم لخيار التسوية السلمية من جهة أخرى.‬

حضور ثقافي وفكري متميز‮:‬

ونعود هنا مرة أخرى إلى دور السفير الدكتور‮/ ‬أسامة الباز كمفكر له العديد من الخصائص البحثية الرفيعة،‮ ‬وله أيضا رؤية تحليلية ثاقبة‮. ‬وهذه المرة،‮ ‬نجد له العديد من المقالات المهمة أو فصولا في كتب شكلت علامات بارزة،‮ ‬منها ما تنبأ فيها،‮ ‬على أسس علمية،‮ ‬بقرب انتهاء الحرب الباردة،‮ ‬عبر انهيار الاتحاد السوفيتي السابق،‮ ‬وانهيار المنظومة الاشتراكية في شرق ووسط أوروبا،‮ ‬ومنها ما فند فيها أطروحة صدام الحضارات التي دفع بها إلى الواجهة عالم السياسة الأمريكي صمويل هنتنجتون،‮ ‬بدءا من عام‮ ‬1996 وما تحدث فيها عن المرحلة الانتقالية نحو نظام دولي جديد،‮ ‬وتأثيرات ذلك المتوقعة في مصر،‮ ‬والوطن العربي،‮ ‬والشرق الأوسط‮.‬
وبصفة المثقف والمفكر أيضا،‮ ‬دعي السفير الدكتور‮/ ‬أسامة الباز في العديد من المناسبات ليحاضر في الكثير من المنتديات والمحافل الفكرية الشهيرة داخل الوطن العربي وخارجه،‮ ‬من مهرجان أصيلة الثقافي في المملكة المغربية،‮ ‬إلي مهرجان الجنادرية الفكري والثقافي في المملكة العربية السعودية،‮ ‬وغيرهما كثير‮. ‬وقد لاقت محاضراته حضورا مكثفا،‮ ‬واهتماما كبيرا،‮ ‬وإعجابا بالغا بما يطرحه من رؤي بشأن الأوضاع العربية،‮ ‬وما يقدمه من تحليل للقضايا الإقليمية والدولية،‮ ‬وذلك من جانب النخبة السياسية والثقافية والمواطن العادي على حد سواء‮.‬

وعلى هذه الخلفية الجامعة،‮ ‬كان السفير الدكتور‮/ ‬أسامة الباز،‮ ‬رحمه الله،‮ ‬أيضا ضمن قائمة هيئة مستشاري مجلة‮ "‬السياسة الدولية‮" ‬منذ سنوات‮.‬هكذا،‮ ‬كان السفير الدكتور‮/ ‬أسامة الباز،‮ ‬رحمه الله،‮ ‬صاحب تركيبة شخصية فريدة من مواهب متنوعة مكنته من لعب أدوار متعددة،‮ ‬ومن القيام بإسهامات بارزة،‮ ‬ومن ترك علامات باقية في كل مجال طرقه،‮ ‬وفي كل موقع شغله،‮ ‬علي مدي حياة مليئة بالأحداث الجسيمة لمصر،‮ ‬وللوطن العربي،‮ ‬ولمنطقة الشرق الأوسط،‮ ‬بل وللعالم بأسره‮. ‬ولا يتسع المجال هنا للحديث عن كافة الأدوار،‮ ‬أو كل الإسهامات،‮ ‬ولكن الأمل يبقي في التمكن في يوم ما في القادم من الأيام،‮ ‬إن شاء الله،‮ ‬من جمع تراث الراحل الكريم من كتابات وأوراق،‮ ‬وهو الأمر الذي من شأنه بالتأكيد أن يساعد على التعرف علي الكثير من الأوجه الخافية من أحداث لحقت بمصر والمنطقة،‮ ‬خاصة منذ ما بعد حرب أكتوبر‮ ‬1973 وحتى سنوات قليلة قبل ثورة‮ ‬25 يناير‮ ‬2011 في مصر،‮ ‬كما سوف يساعد علي فهم وتفسير بعض الخلفيات التي تبدو‮ ‬غامضة،‮ ‬والتي تتعلق بهذه الأحداث‮.‬

‬أسامة الباز‮ ‬يتوقع في‮ "‬السياسة الدولية‮" ‬تطورات عقد كامل

في عددها لشهر يناير‮ ‬2002 نشرت مجلة السياسة الدولية حلقة نقاشية عقدتها،‮ ‬بمشاركة عدد من الرموز السياسية والأكاديمية المصرية،‮ ‬لمناقشة تداعيات هجمات الحادي عشر من سبتمبر‮ ‬2001 علي مستقبل النظام الدولي‮. ‬وحيث كان الدكتور أسامة الباز أحد هؤلاء الحضور،‮ ‬فقد قمنا،‮ ‬في مناسبة تأبين هذا الراحل العظيم،‮ ‬بإعادة قراءة مداخلاته خلال تلك الحلقة،‮ ‬ليتكشف لنا بجلاء ما تميز به الدكتور أسامة الباز من قدرة تحليلية واستشرافية فذة أتاحت له القراءة في كتاب المستقبل،‮ ‬ليحدد بمنتهى الدقة العديد من التطورات التي شهدها العقد الماضي،‮ ‬وما انتهى إليه وضع النظام الدولي في اللحظة الراهنة‮. ‬ونحن نعيد نشر هذا الجزء من مداخلاته،‮ ‬لكي يستعيد قراء‮ "‬السياسة الدولية‮" ‬اكتشاف عبقرية هذا الراحل العظيم،‮ ‬لعلنا نوفيه بعض حقه عن الأدوار المهمة التي قام بها طوال فترة عمله في الفضاءات الدبلوماسية،‮ ‬والسياسية،‮ ‬والفكرية في مصر طوال نحو أربعة عقود‮.‬

أنا أختلف مع افتراض أن قوة الولايات المتحدة ودورها وتأثيرها دوليا ستظل مقبولة وقائمة على المدى الطويل بالقدر نفسه حاليا،‮ ‬أو ما يقاربه نسبيا‮. ‬فأنا أعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية بلغت قمة قوتها،‮ ‬وحققت أقصى هيمنة وتأثير في النظام الدولي،‮ ‬منذ ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي‮. ‬فقد عُدَّ‮ ‬سقوط الامبراطورية الروسية،‮ ‬ممثلة في الاتحاد السوفيتي،‮ ‬انتصارا للولايات المتحدة،‮ ‬قبل أن يكون انتصارا للغرب عامة،‮ ‬لأن الولايات المتحدة هي التي كانت تسعي لإسقاط امبراطورية‮ "‬الشر‮"‬،‮ ‬كما ذكر ريجان في النصف الأول من الثمانينيات،‮ ‬بينما لم يكن الغرب كله سوى مجرد منافس لم يسع بالضرورة لإسقاط الاتحاد السوفيتي‮. ‬أيا ما كان،‮ ‬فقد بلغت الولايات المتحدة،‮ ‬عقب سقوط الاتحاد السوفيتي،‮ ‬غاية قوتها العسكرية،‮ ‬والتكنولوجية،‮ ‬والاقتصادية،‮ ‬وكذلك‮ ‬غاية هيمنتها وتأثيرها في النظام الدولي‮. ‬

واليوم،‮ ‬تواجه الولايات المتحدة خطر تراجع قوتها ليس بالمعنى المطلق،‮ ‬أي أنها ستضمحل،‮ ‬ولكن نسبيا،‮ ‬إذ إن تلك القوة إما أنها بلغت‮ ‬غاية حدود نموها،‮ ‬أو صارت الحدود ضئيلة للغاية‮. ‬وعلى ذلك،‮ ‬فالولايات المتحدة عرضة لنوعين من التهديدات قد يؤديان إلى تراجع نسبي في قوتها ومكانتها الدوليتين‮.‬

1- المشكلات الداخلية من قبيل المشكلات العرقية التي قد تتصاعد لتصبح قنابل موقوتة،‮ ‬ونلاحظ مؤشرات لذلك في العلاقة بين العنصر الأبيض‮ (‬الأنجلوساكسون‮)‬،‮ ‬والعناصر الأخري،‮ ‬سواء من السود،‮ ‬أو اللاتين‮ (‬الهيسبانك‮)‬،‮ ‬إذ إن أعداد العناصر الأخيرة أخذة في التزايد،‮ ‬في‮ ‬غير مصلحة العناصر‮ ‬غير البيضاء‮. ‬بل إن بعض مؤشرات التشدد والتعصب أخذت تبرز،‮ ‬إذ تصر الجماعات ذات الأصول الإسبانية مثلا علي ذهاب أبنائهم إلى مدارس تدرس اللغة الإسبانية‮ ‬Spanish Speaking. هذا أحد نماذج المشكلات الداخلية‮.‬

كذلك،‮ ‬فإن محدودية فرص النمو ستؤدى إلى انكماش اقتصادي‮. ‬نلاحظ ذلك،‮ ‬علي سبيل المثال،‮ ‬في مجال التكنولوجيا،‮ ‬إذ تراجعت أسعار أسهم كثير من الشركات العاملة في مجال التكنولوجيا في الفترة الأخيرة من دولارين للسهم إلي نحو‮ ‬35 سنتا للسهم،‮ ‬ومرد ذلك إلى حالة التشبع التي وصلت إليها السوق‮.‬

2-  احتمال نهوض قوي أخرى،‮ ‬وتصاعد دور بعض الدول المرشحة للعب دور عالمي‮. ‬إذ إنه في حالة ثبات قوة الولايات المتحدة،‮ ‬وتصاعد قوة أطراف،‮ ‬فإن ذلك يعني تراجع قوتها ومكانتها النسبيتين،‮ ‬وهو احتمال قائم بقوة‮. ‬فما الذي سيجبر تلك الدول على الاستمرار في وضع المشاهد،‮ ‬وعدم المشاركة لفترة طويلة من الزمن. ‬فالصين رغم رفضها تسمية‮ "‬دولة عظمي‮"‬،‮ ‬لأنها ترتبط في كيان الجماهير بمفهوم الاستعمار،‮ ‬وتفضيل قياداتها رؤية أنفسهم جزءا من العالم الثالث أو الجنوب،‮ ‬ودولة نامية حققت شوطا كبيرا على طريق التنمية والتقدم،‮ ‬فلا يمكن إغفال أن قوتها آخذة في الازدياد شيئا فشيئا،‮ ‬مما قد يحفزها للعب دور قيادي في أي وقت في المستقبل،‮ ‬ربما القريب،‮ ‬وليس البعيد بالضرورة‮. ‬أما روسيا،‮ ‬فقد بدأت تسترد عافيتها،‮ ‬واتخذت مواقف معقولة في عديد من القضايا،‮ ‬وأعتقد أنها تستطيع لعب دور كبير خلال عقد واحد من الآن‮. ‬والاتحاد الأوروبي بدوره يبرز داخله اتجاه استقلالي عن الولايات المتحدة،‮ ‬تقوده فرنسا،‮ ‬وتشاركها فيه إسبانيا،‮ ‬وبدرجة أقل إيطاليا ودول الشمال‮. ‬أما المرتبط بالولايات المتحدة تماما،‮ ‬فهما إنجلترا وألمانيا،‮ ‬ويبدو ذلك في أغلب القضايا تقريبا من النزاع في الشرق الأوسط إلى المواجهة من الأمم المتحدة،‮ ‬وغير ذلك كثير‮.‬

أنا أعتقد أن دورة انتعاش وانكماش الحضارات يمكن أن تتم في العصر الحاضر في فترة زمنية تقل كثيرا عما كانت عليه في الماضي،‮ ‬فلن تحتاج إلي قرنين أو ثلاثة،‮ ‬كما كان عليه الحال مع الحضارات في العصور السابقة‮. ‬ثم إن الولايات المتحدة لم تبرز اليوم،‮ ‬بل إن مرحلة الصعود في دورتها بدأت منذ زمن طويل،‮ ‬لكنها بلغت اليوم قمة منحني صعودها‮. ‬ولا يلزم أن تنهار تلك القوة،‮ ‬بل يكفي صعود قوة أخرى من ثبات قوة الولايات المتحدة ليحدث تراجع نسبي في قوتها،‮ ‬وتحجيم لدورها على الصعيد الدولي،‮ ‬والتوصل إلي توازن ما في النظام الدولي،‮ ‬لأن أي نظام دولي لا تتوافر له درجة معينة من التوازن ينهار،‮ ‬وفقا لما توضحه الخبرة التاريخية‮.‬


رابط دائم: