اهتمام متراجع:|تأثير التغيرات السياسية بالمنطقة في القضية الفلسطينية
8-9-2013

د. نادية سعد الدين
* صحفية وباحثة من الأردن

1 سبتمبر 2013

تلقي الأحداث والمتغيرات الجارية في المنطقة، منذ زهاء العامين تقريباً، ضمن مسار تحوليّ لم تستقرْ ملامحه أو تتحدد هويته بعدْ، بظلالها السلبية على القضية الفلسطينية، بينما تمنح الكيان الإسرائيلي فرصة كافية لتعميق الخلل القائم لمصلحته والانفلات من أي التزام تجاه مقاربة العملية السلمية إزاء ما يبدو عليه اليوم وكأنه متحرر من ضغط اللحظة.

وأمام مشهد عربي مأزوم لن يعرف الاستقرار قريباً، على الأقل، وفق تقديرات مختلفة، وانشغال دول الثورات بقضاياها الداخلية، ومعالجة التفاعلات المصاحبة لحراك التغيير، لاسيما مصر التي سيكون لمسارها السياسي الأثر الأكبر على اتجاه التحولات في بقية الدول العربية، نظراً لمركزيتها الاستراتيجية في البنية الإقليمية العربية، فضلاً عن انغماس سوريا في أزمتها وسط أتون تدخل خارجي مضادّ يجرّها نحو متاهات مفتوحة الاحتمالات، فإن تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية مرشح للاستمرار، بما يجعل عمقها العربي الإسلامي غير مؤثر، آنياً على الأقل، في تقديم الدعم والنصرة المطلوبين لها، خارج سياق المواقف التضامنية التي برزت أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير ضدّ قطاع غزة، فيما تحتاج عملية التغيير والإصلاح المنشودة، وعودة الاستقرار للمنطقة إلى سقف زمني، يقدره خبراء بقرابة 5 - 7 سنوات على الأقل، وأحياناً عشر، ليصار بعدها إلى عقد الآمال في دعم حقيقي ومؤثر للقضية وللشعب الفلسطيني.

تصاعد العدوان الإسرائيلي

رغم أن عدوان الاحتلال ليس مستحدثاً، وإنما فعل أصيل للاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين المحتلة، فإن الهجمة الاستيطانية في الأراضي المحتلة، منذ بدء الثورات العربية، بدّت وكأنها متحررة من الضغوط، ولكنها تنمّ، أيضاً، عن منسوب القلق الإسرائيلي الداخلي، مما سيسفر عنه حراك التغيير من واقع جديد لا يصبّ في مصلحته.

وإذا ما استمرت سياسة الاحتلال في استلاب الأرض والقرار معاً، وسط الانشغالات العربية عن القضية، واستمرار الانقسام الفلسطيني، والانحياز الأمريكي المفتوح للاحتلال، والمحاولات الغربية لإعادة رسم خريطة المنطقة، بما يخدم مصالحها، فلن يبقى من المساحة المخصصة لإقامة الدولة الفلسطينية المنشودة شيء، بعدما قضمّ الاحتلال 80% من مساحة الضفة الغربية المحتلة، مبقياً أقل من 20% فقط للفلسطينيين، تشكل 12% من فلسطين التاريخية، ضمن ثمانية "كانتونات" غير متصلة جغرافياً، لتشكل مع مساحة قطاع غزة قوام الدولة، وفق الرؤية الإسرائيلية للكيان الفلسطيني المستقبلي الذي لا يخرج بالنسبة لها عن إطار حكم ذاتي معني بالسكان باستثناء السيادة والأمن الموكولين للاحتلال.

فيما أطلق الصمت العربي والدولي يدّ الاحتلال في الأراضي المحتلة للمضي فيما يعتقده فعلاً مضادّاً بعيداً عن المساءلة، عبر تهويد القدس المحتلة، وتفريغها من مواطنيها، والاعتداء على المقدسات الدينية، والمضي في تنفيذ مشروع "برافر" العنصري لمصادرة 800 ألف دونم من أراضي النقب وتهجير سكانها منها، فضلاً عن سياسة القتل، والاعتقال، ومصادرة الأراضي، وهدم المنازل.

يأتي ذلك في ظل إحكام سيطرة الاحتلال على الموارد الطبيعية الفلسطينية، والتحكم بمفاتيح الاقتصاد والهيمنة على قطاعه، والتحكم في المعابر، والحدود، والتجارة الخارجية، وشلّ الحياة في الضفة الغربية بالجدار العنصري والطرق الالتفافية، والمستوطنات المترامية، ومحاصرة قطاع غزة، وعزل مدينة القدس، وحرمان السلطة من عائداتها السياحية، وضرب حركتها التجارية، والسيطرة على 62% من مساحة الضفة في المناطق المسماة "ج" (وفق تصنيف أوسلو)، رغم توافر الإمكانيات الاستثمارية والصناعية والطبيعية فيها، في حين أن السلطة محاصرة في منطقة "أ"، وهي مساحة المدن والقرى والمخيمات، بحيث بات الاحتلال يستخدم فلسطين "كحديقة خلفية" له يوظفها متى شاء، وكيفما أراد، بما يخدم مصالحه الاقتصادية والأمنية.

مفاوضات بلا مرجعية

إذا كان العدوان الإسرائيلي الأخير ضد قطاع غزة، بحيثياته ومآلاته، وكذلك المسعى الفلسطيني في الأمم المتحدة، بزخمه الدولي، ومكسبه السياسي والدبلوماسي الذي تحقق بنيل فلسطين صفة "دولة مراقب" غير عضو في المنظمة الدولية (في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012)، قد جاءا على وقع الثورات العربية وبدفع أجوائها، أسوة بخطوات المصالحة التي أسفرت، بدعم ورعاية مصرية عن اتفاق القاهرة، 2011، وعن جلسات الحوار، التي عقدت في عام 2012 وفي شباط (فبراير) 2013 لتنفيذ الاتفاق، رغم تعثرها حتى الآن، فإن المشهد لا يكتمل عند هذا الحدّ فقط، كما لا يتجاوز أهميته أيضاً.

ففي خضم إرهاصات المشهد العربي المأزوم، واستمرار الانقسام الفلسطيني، وتصاعد العدوان الإسرائيلي ضدّ الأراضي المحتلة، تمكنت الإدارة الأمريكية، غداة ست جولات مكوكية لوزير خارجيتها جون كيري إلى المنطقة، منذ بدء مهامه في ظل الولاية الرئاسية الثانية للرئيس باراك أوباما، من جمع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على طاولة التفاوض لبحث قضايا الوضع النهائي (اللاجئين، والقدس، والاستيطان، والحدود، والأمن، والأسرى، والمياه) خلال سقف زمني يتراوح بين 6 و 9 أشهر للتوصل إلى اتفاق سلمي من شأنه إنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي.

وقد جرى تصوير "الخرق" الأمريكي لجمود العملية السلمية بحسبانه إنجازاً كبيراً جاء بعد أربع سنوات "رئاسية" عجاف من أي تحرك جدّي للسلام، خلا حرص واشنطن على الإمساك بتلابيب الملف، وتحييد دور الأمم المتحدة، عبر منع التوجه الفلسطيني نحو تدويل القضية، وغضّ الطرف عن انتهاكات الاحتلال في الأراضي المحتلة، من دون طرح رؤية لإنهاء الصراع، أو امتلاك الإرادة لفرض حل متوازن، وإنما كان أقصى ما فعلته القيام بجولات وتحركات توحي باستمرار الاهتمام بهذا الملف، رغم انشغالها بالقضايا الداخلية والخارجية، وبأن العملية السلمية لم تمت، رغم مضي 22 عاماً على مؤتمر مدريد، و20 عاماً على أوسلو دون تحقيق أي شيء ملموس.

بيد أن نجاح الفعل الأمريكي لم يتوقف عند حدّ إطلاق عجلة المفاوضات للدوران من جديد في دائرة لا متناهية، وإنما، أيضاً، في دفع السلطة الفلسطينية إلى "تكسير" شروطها لاستئناف المفاوضات بوقف الاستيطان، وتحديد مرجعية واضحة وفق حدود عام 1967 ، والإفراج عن الأسرى في سجون الاحتلال المعتقلين منذ ما قبل اتفاق أوسلو (1993)، فذهب الوفد الفلسطيني المفاوض إلى واشنطن، التي شهدت الجلسة الأولى من المفاوضات، خالياً من أوراق القوة والإجماع الوطني الشعبي والفصائلي، ومكتفياً بإنجاز "يتيم" و"مجزوء" باتفاق إطلاق سراح 104 من الأسرى "القدامى" ضمن أربع دفعات، حيث أفرج عن 26 أسيراً منهم بعد عيد الفطر مباشرة، بينما سيفرج عن البقية كل شهرين تقريباً بحسب تقدم مسار المفاوضات.

ولم تنجح "جبهة" الرفض العريضة لاستئناف المفاوضات في ثني السلطة الفلسطينية عن قرار المضي فيها، على وقع استمرار الاستيطان، وغياب المرجعية، وإمعان الاحتلال في اعتداءاته ضد الفلسطينيين، مقابل التجميد الفلسطيني "المؤقت" للمضي في الخطوات اللاحقة لمسعاه في الأمم المتحدة، بعيداً عن المطالبات الشعبية والفصائلية المتكررة لمحاكمة الاحتلال على جرائمه في الأراضي المحتلة.

ورغم أن المؤشرات الراهنة لا تشي بامتلاك الإدارة الأمريكية، قريباً على الأقل، خطة واضحة لحل الصراع وإنما إدارته فقط، فإن المحاذير تبقى قائمة من مغبة الخروج "بصيغة" ما لتسوية العملية السلمية، والقطع على أي خيارات أخرى، في ظل بيئة خصبة لاندلاع انتفاضة ثالثة في الأراضي المحتلة، ومسعى أمريكي لإغلاق هذا الملف، على وقع المتغيرات الجارية في المنطقة، ولكن هذه الصيغة قد تتجاوز الحقوق الوطنية الفلسطينية، بينما ينتفي أسّ ضمان التزام الاحتلال بها، قياساً بتجارب سابقة.

غير أن الإشكالية تكمن هنا في التعويل المستمر للقيادة الفلسطينية على مسار التفاوض، بحسبانه خياراً استراتيجياً أوحد يتقدم على سواه من البدائل الأخرى، ولا يأخذ العنصر الإسرائيلي فى الحسبان، في ظل برلمان عنصري يضم في أكثر من ثلث مقاعده غلاة المستوطنين والمتطرفين اليمينيين، وتشكيله حكومية يمينية استيطانية متطرفة، وإزاء انتفاء اختلاف حقيقي بين الأحزاب، بمختلف توجهاتها اليسارية، واليمينية، والدينية، تجاه القضية الفلسطينية، حيث ترفع مجتمعة "لاءات" العودة إلى حدود 4 حزيران (يونيو) 1967 ، وتقسيم القدس، وحق العودة، ووقف الاستيطان، مقابل إما الحديث عن دولة فلسطينية منقوصة السيادة ومنزوعة السلاح، أو رفضها كلياً.

وبينما يجهد المفاوض الفلسطيني لبلوغ اتفاق نهائي خلال السقف الزمني المقدّر له، وصولاً إلى إنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967، فإن أقصى ما يمكن أن يبلغه المفاوض الإسرائيلي مجرد اتفاق مؤقت يسمح ببحث القضايا الشائكة في جلسات تفاوضية أخرى ممتدة.

وإذا كان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قد أورد في خطابه الذي ألقاه في جامعة بار إيلان، معقل اليهود الحريدييم، عام 2009، القبول "بحل الدولتين"، شريطة دولة فلسطينية منزوعة السلاح تعترف "بيهودية دولة إسرائيل"، وبإجراء المفاوضات بدون شروط مسبقة، فإن القبول الإسرائيلي به لا ينمّ عن إدراك متأخر بحق الشعب الفلسطيني في الدولة، وإنما كسب للوقت فقط.

إذ يدرك الجانب الإسرائيلي قدرته على الإفلات من ضغط اللحظة الحالية، في ظل المتغيرات الجارية بالمنطقة، مثلما يدرك، أيضاً، أن الانخراط في مسار التفاوض لن يغير من الواقع، مهما تكن نواتجه، حيث لن يلزمه بما يعاكس ما تجسده يدّ الاحتلال يومياً من متغيرات استيطانية في الأراضي الفلسطينية، وإنما ستكون محاولة أخرى لإدارة الصراع وليس حله.

مصالحة مؤجلة

قللت تداعيات الأحداث المصرية الأخيرة من فرص تحقيق المصالحة الفلسطينية، قريباً على الأقل، بحسبان القاهرة الراعية الأساس لهذا الملف، وذلك في ظل تغير حساب تقدير المضي في خطواتها بالنسبة لحركتي "فتح" و"حماس"، وتذرع بعض الأطراف المستفيدة من استمرار الانقسام عند كلا الطرفين بها لتبرير انصرافهم عنها، والارتكان إلى "وصفة" إدارة الانقسام بدلاً من إنهائه إلى حين استتباب دفة المتغيرات الجارية في المنطقة، فضلاً عن "الفيتو" الأمريكي الإسرائيلي ضد تحقيقها.

ورغم تأكيد المسئولين المصريين على استمرار الاهتمام بملف المصالحة دون تغيير، فإن تحقيقها بات أصعب من ذي قبل، في ظل توتر العلاقة بين مصر و"حماس"، وإرخاء أوراق قوة كانت تمتلكها الحركة زمن وجود الإخوان المسلمين في السلطة، عدا المأزق الذي تشهده الحركة بعد قطع الوصل مع "حلفاء الأمس"، وعدم استتباب العلاقة مع حلفائها الجدد، واشتداد الخناق السياسي عليها، فضلاً عن استئناف المفاوضات بدون شروط فلسطينية مسبقة، ووفق الشروط الإسرائيلية، بما يجعل الحركة، إذا تمت المصالحة وفق ذلك، تبدو وكأنها تغطي المسار التفاوضي الذي يواجه انتقادات شعبية وفصائلية واسعة وتعقد جلساته في ظل استمرار الاستيطان والعدوان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني.

بينما تمضي "فتح" في خيار الرهان على المفاوضات، متجاهلة الأضرار الفادحة التي قد تنجم عنها، في ظل الاستيطان وغياب المرجعية، وسط دعوتها لإجراء انتخابات ترفضها "حماس" لما قد تجرّه من نتائج محفوفة بأثمان سياسية باهظة بالنسبة لها.

وفي المحصلة، فإذا كان من الثابت أن نواتج الثورات التي تتحقق بإرادة الشعوب تطلعاً لغدٍ أفضل من الحرية، والعدالة، والديمقراطية، تشكل نصيراً، وعمقاً عربياً وإسلامياً لمقاومة الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال، وتحقيق أهداف التحرير، وتقرير المصير وعودة اللاجئين إلى ديارهم وأراضيهم، فإن ذلك يستوجب فلسطينياً، حتى بلوغ تلك المرحلة، إنهاء الانقسام، وتحقيق الوحدة، وفق استراتيجية وطنية جامعة تأخذ بشتى أشكال المقاومة، لمواجهة مخططات الاحتلال المتواصلة لتغيير الوقائع على الأرض، استيطاناً وتهويداً، وتحويل المفاوضات إلى مسار عقيم لا مخرج من دائرته المغلقة.


رابط دائم: